إليكم الطاهر ساتي ما لم يقله المراجع العام.. (1) ** القمر، يلهم الشاعر بالجمال والبهاء والضياء، فيتغزل فيه ويرى فيه وجه محبوبته.. والقمر ذاته، يلطم رائد الفضاء بالسطح الصخري الخالي من الأوكسجين والمياه، فيهرب منه متمنياً ألا يعود إليه ثانياً.. هكذا القمر: إذ ليس بمحض جمال كما تزعم مشاعر الشعراء حين تحدق في مظهره، وكذلك ليس بمحض صخرٍ جافٍ كما تدعي علوم رواد الفضاء حين تستكشف جوهره.. وخير لعقل المرء أن يصطحب المظهر والجوهر حين ينظر إلى القمر.. عفواً، ليس إلى القمر فقط، بل إلى أي شيءٍ.. حتى ولو كان هذا الشيءُ بمثابة تقرير صادرعن ديوان المراجع العام..!! ** للأسف، بدأ مظهر التقرير لصحف بلادي كما يبدو القمر للشاعر، ولذلك لم يكن مدهشاً أن تشيد به وتتغزل فيه وتنظم فيه من القوافي ماعجز أن ينظمها جميل في بثينة وقيس في ليلاه.. وللأسف - للمرة الثانية - لم يجد جوهر التقرير رائد فضاء يستكشف صخره الجاف والخالي من الأوكسجين والمياه، وأعني بهما: الشفافية والوضوح.. نعم، تقرير المراجع العام، كما كل عام، ليس بشفاف ولا يحمل مثقال ذرة من الوضوح.. وغياب هذين العنصرين في التقرير - بل كل مناحي الحياة - يعني غياب الطهر والنزاهة والعدالة..!! ** قبل تأكيد غياب - أوتغييب - تلك الفقودات الغالية، يجب تذكير ذاكرة الناس بأن هناك مكتباً بديوان المراجع العام كان معداً لنشاط إدارة عدلية وشرطية مسماة بمكافحة اختلاسات المال العام، وهي كانت إحدى فروع وحدة مكافحة الفساد التابعة للمباحث المركزية.. تلك الإدارة كانت تدير نشاطاً إيجابياً من ديوان المراجع العام، وهي الجهة العدلية التي كانت تستلم تفاصيل تقرير المراجع العام سنوياً - قبل نواب البرلمان الذين يستسلمون باستلام الملخص فقط وليس التفاصيل - وتبحث وتتحرى وتحقق - وتطارد - عما في تلك التفاصيل من فساد وإهمال..!! ** هكذا كان نشاط مكافحة اختلاسات المال العام في معقل ديوان المراجع العام.. نجحوا في إبعادها وإخراجها من بهو الديوان، حتى صارت - كما القارئ - تتابع ملخص تقرير المراجع العام عبر الصحف، وتجهل التفاصيل التي كانت تتحرى فيها وتحقق وتحاسب.. كان على المراجع العام أن يذكر في تقريره أسماء الجهات أو الشخوص التي كبلت تلك الجهة النيابية بنفيها من الديوان - إلى بري - بعيداً عن تفاصيل التقرير التي كان يتم التحري فيها ثم المحاسبة، بواسطتها..؟.. نعم هي أغلقت مكتبها وجمدت نشاطها بالديوان بأمر المراجع العام، ولكن بأمر من وقع المراجع العام على أمر (الإغلاق والتجميد)..؟.. هذا ما لم - ولن - يرد في أي تقرير يصدره المراجع العام..!! ** ثم، دع عنك التفاصيل، بل حتى في ملخص التقريرالمختصر، لا المراجع العام ولا نواب البرلمان، أحسنوا تقديم هذا الملخص المختصر - للناس - كما يجب.. نموذج، قال التقرير إن وحدتين رفضتا تقديم حساباتهما للمراجعة، فنالت المعلومة رضا نواب البرلمان، ولم تحدث نفس نائب ذاتها بأن تسأل المراجع العام عن هاتين الوحدتين اللتين وضعتا لنفسيهما قانوناً أقوى من دستور الدولة ولوائح مالها العام، لم يسألوه عن الوحدتين ولن يسألوه، إذ سقف الشفافية عند النواب لم يصل إلى مستوى سؤال كهذا، وكذلك لم يصل ذات السقف في تقرير المراجع العام إلى مستوى إجابة توضح - للناس والبلد - عن الوحدات التي تتهرب من المراجعة، كل عام..!! ** ثم.. نواصل بإذن الله، ليس بذكر نماذج تؤكد غياب الشفافية في تقرير المراجع العام فحسب، بل ببعثرة تفاصيل هي بمثابة بعض تلك (الشفافية المغيبة)..!! إليكم الطاهر ساتي ما لم يقله المراجع العام ...(2) ** أها.. نواصل، ما سبق كان تأكيداً - بالنماذج - بأن تقرير المراجع لايستحق كل هذا الاحتفاء، حيث لم يقل كل الحقيقة و لا حتى نصفها، وذلك بتغييب معلومات في غاية الأهمية عن الرأي العام ..وبالمناسبة، الوحدات الحكومية التي لم يراجعها ديوان المراجع ليست بوحدتين فقط، أو كما أراد ذكاء التقرير أن يخفف على الناس أهوال الحدث ..فالوحدات التي لم تراجع هذا العام - حتى الأسبوع الفائت - بلغ عددها (106 وحدات).. نعم، (106 وحدات) من جملة (237) وحدة حكومية لم تراجع بعد .. تفاصيلها على النحو الآتي : (66 وحدة) تحت المراجعة، (وحدتان) رفضتا المراجعة، (48 وحدة) لم تقدم حساباتها المالية ..!! ** وعليه كان يجب على التقرير أن يكون شفيفاً، بحيث يقول للناس بأن الوحدات الحكومية التي لم تراجع بعد عددها (106 وحدات)، وليست وحدتين فقط، حتى يعلم الرأي العام حجم الوحدات الحكومية التي ترفض المراجعة أوتتلكأ عنها..والرفض والتلكؤ سيان في أمر كهذا، خاصة أن المراجع العام لن يقدم للبرلمان - بعد شهر أو نصف عام - ملحقاً يوضح ما حدث للحسابات المالية للوحدات التي لم تقدم حساباتها في موعدها، بحيث فاتها قطار تقريرالمراجعة..لن يقدم المراجع ملحقاً كهذا، بل سينتظر نهاية هذا العام ليقدم ملخص تقريرجديد، تنسى به ذاكرة الناس والصحف ما حدث من رفض وتلكؤ في التقرير السابق..ولك أن تتخيل، صديقي القارئ، بأن برلمان البلد لا يكون ملماً - عند نهاية السنة المالية - بمصير حسابات (106 وحدات) من جملة (238 وحدة).. ليس برلمان البلد فقط، بل كل أهل البلد ..ومع ذلك تهلل الصحف وتكبر لأن تقرير المراجع كشف لها ذيل الفيل وليس الفيل ذاته، وليس في الأمر عجب، حيث سقف الشفافية لم يتجاوز - طولا ًو طموحاً - ذاك الذيل ..!! ** ثم .. باستثناء صحيفة واحدة، وهي الأيام، أخطأت كل الصحف في توثيق حجم المال العام المعتدى عليه في دهاليز بعض الوحدات التي روجعت.. صحف حددت الحجم ب (6'16 مليون جنيه) .. وأخرى قالت إنه (8' 14 مليون جنيه).. بل هناك صحيفة حددت المبلغ ب (8' 12 مليون جنيه) ..هكذا اختلفت الصحف، وهي ليست مخطئة في الرصد، بل تقرير هذا العام لم يكتب حجم المال المعتدى عليه بذات الوضوح الذي كانت تكتب به تقارير الأعوام الفائتة .. تقرير العام الفائت كتب الحجم الكلي نصاً ورقماً، ثم كتب ما تم استرداده نصاً ورقماً وكذلك ما لم يتم استرداده، ولم يقارن ما لم يتم استرداده بحجم إيرادات الدولة كما فعل تقرير هذا العام بذكاء خارق، لا لشيءٍ، إلا لكي يبدو حجم المبلغ المعتدى عليه ضئيلاً في أعين الناس، وهو ليس بضئيل، كما كان في العام الفائت والذي فيه الحجم المعتدى عليه - اتحادياً وولائياً ومصارفياً - لم يتجاوز (11 مليون جنيه) .. !! ** هذا العام، يا سادة يا كرام، حجم المال العام المعتدى عليه اتحادياً فقط يبلغ (31.4 مليون جنيه).. وولائياً بلغ المبلغ المعتدى عليه(3.42000 مليون جنيه).. وعليه المبلغ الكلي يتجاوز ال (34 مليون جنيه) ..عدا المصارف ذات التقرير الممنوع الاقتراب منه ثم الوحدات المائة والستة والتي لم تراجع بعد .. (34 مليون جنيه) ..هذا المبلغ كان يجب أن يكون مانشيتاً لكل الصحف، ولكن نجح التقرير - بذكاء خارق - في تضليل الصحف، لكي يبدو الحجم ضئيلاً، وهو ليس كذلك، بل يكاد يساوي ثلاثة أضعاف مبلغ العام الفائت .. المهم، ولائياً استردوا فقط (709 آلاف جنيه)، واتحادياً استردوا (14.8 مليون جنيه) .. وهكذا تبقى الحقيقة التي بطعم الحنظل هي أن حالات الاعتداء على المال العام تتضاعف كل عام ولا تتناقص، ولكن ضعف المحاسبة - وهذا موضوع آخر - ثم بريق التقارير الذكية يعميا الأبصار و يغيبا الضمائر والعقول .. ولن نتجاوز هذه المحطة البائسة ما لم نرسخ قيم الشفافية في كل سوح العمل العام، وما حال هذا التقرير إلا ..(جزء من الكل) ...!! ..................... نقلا عن السودانى