في الشأن العام بين الطلاق السلمي وبيت الطاعة القسري د.سعاد ابراهيم عيسي دعا مسؤولون بحكومة الجنوب إلى طلاق سلمى بين الشمال والجنوب، بمعنى انفصال بإحسان، متى كان ذلك خيار مواطنيهم عند ممارستهم حق تقرير مصيرهم مطلع عام 2011م. ورغم أن الطلاق هو أبغض الحلال إلى الله، إلا أن الله سبحانه وتعالى أباحه عند الضرورة، عندما تصبح الحياة بين الزوجين مستحيلة، وعندما تفشل كل المعالجات الأخرى من أجل عودة الحياة إلى مجاريها الطبيعية، فحينها يصبح الطلاق هو العلاج الوحيد الناجع والنافع، خاصة إذا تم بإحسان، يمكن ان يفتح بابا إلى عودة طوعية من الجانبين، لشراكة جديدة بعد أن تهدأ الخواطر، وتنقشع سحب الغضب التي كثيرا ما تحجب الرؤى عن رؤية الأمور على حقيقتها، لذلك فإن الدعوة التي أطلقتها قيادات الجنوب من أجل طلاق سلمى هي دعوة عاقلة ومطلوبة، يجب أخذها مأخذ الجد والعمل على الاستفادة منها، خاصة أن القرآن الكريم يقول أيضا، «ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا». وبالطبع لم يصل الجنوب إلى مراحل المطالبة بالطلاق من الشمال، إلا بعد أن فشلت واستحالت حياة الارتباط بينهما. وهو ارتباط امتد إلى عقود طويلة من الزمان لكنها لم تنجح في خلق شراكة هانئة، هادئة، متكافئة ومستقرة، بل ظلت علاقة تتسم بكثير من فقدان الثقة الذى يؤدى إلى خلق المشكلات وتضخيمها، ومن ثم تعمل على تعكير صفو الحياة بينهما، حتى وصلت بهما أخيرا إلى مراحل طلب الطلاق باعتباره حلاً أوحد لإنهاء تلك الشراكة، ورغم ذلك نحمد لحكومة الجنوب ان طالبت بإنهاء تلك العلاقة سلميا، وهو ما يتطلع إليه مواطنو الشمال والجنوب معا، خاصة بعد أن تكشف لكل ذي عين بصيرة، أن الارتباط بين الشمال والجنوب وبذات صيغته السابقة، لم يعد ممكنا، ان لم يكن مستحيلا، حيث وصل العمل من اجل مفارقته، مراحل من العسير التراجع عنها، أو التخلي عن الوصول بها إلى غاياتها. فكل الذى يقرأ ويسمع ويشاهد ما يجرى بالجنوب، ومن مواطني الجنوب، يشير إلى ان القوم قد حزموا أمرهم ويمموا شطر الانفصال، وبقوة دفع لن يستطيع الوقوف في طريقها، أو عرقلة خط سيرها، اى من العوائق مهما كبر شأنها، فيصبح من غير المعقول أن يسعى الطرف الآخر للسير عكس التيار، وفي اتجاه محاولة إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، من أجل العودة إلى ذات الارتباط القديم، وبذات نمطه القديم، الذي كان من أكبر أسباب ومبررات طلب الطلاق الحالي، كما ومن الاستحالة بمكان تعديل أو تبديل نمط الشراكة القديمة، ولم يبق من عمر فك الارتباط أكثر من أيام معدودة، يتم بعدها تحديد مصير جنوب السودان، الذى علت نبرة فك ارتباطه بالشمال على غيرها. والمدهش ان حكومة الوحدة الوطنية مازالت تأمل في ان تغير مجرى الإحداث، بأن تغلب خيار الوحدة على الانفصال لدى المواطن الجنوبي، وان كان من حقها، أن تسعى لما ترى هو الأصوب، وما توفيقها إلا بالله طبعا، إلا أننا نرى أن ذلك السعي وفى هذا الوقت بالذات، قد لا يعود بنفع أكثر من الاعتراف بأن الحكومة لم توقف مساعيها للوحدة حتى الرمق الأخير من عملية الاستفتاء. وقد قلنا من قبل إن الإصرار على الوحدة مع من يصرون على الانفصال، لن يقود إلا إلى رفض نتائج الاستفتاء، وفتح جبهات اقتتال جديدة، خاصة وتصريحات بعض المسؤولين من حكومتي الجنوب والشمال تمهد لذلك الرفض منذ الآن بالتشكيك في سلامة إجراء الاستفتاء، وليس أدل على ذلك أكثر من التراشق باتهامات التزوير لإرادة مواطني الجنوب، التي يمارسها الشريكان، الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني حاليا. فالحركة الشعبية تتحدث عن أن المؤتمر الوطني يعمل على تزوير الاستفتاء، بتسجيل الملايين من أبناء الجنوب في الشمال، ومنذ سبتمبر الماضي، ورغم أن التسجيل لملايين الجنوبيين قبل الموعد المحدد لذلك، وفى غير السجل المحدد لذلك لا قيمة له، حتى لو سلمنا جدلا بأن هنالك الملايين ممن يحق لهم التسجيل بالشمال، إلا ان هذا الاتهام قصد منه التمهيد لرفض نتائج الاستفتاء ان جاءت لصالح الوحدة، وفي ذات الوقت يقابله من الجانب الآخر اتهام قيادات المؤتمر الوطني للحركة الشعبية، بأنها تعمل على حرمان المواطن الجنوبي من ممارسة حقه في تسجيل اسمه بمراكز التسجيل بالشمال، وتفعل ذلك بالترهيب والقوة، خوفا من ان يجعل صوته لصالح الوحدة عند موعد الاقتراع، ولذلك السبب أيضا، تحث الحركة الشعبية مواطنيها بالشمال على الهجرة إلى الجنوب للتسجيل والتصويت هنالك، حتى تضمن ولاءهم لخيار الانفصال. ومن بعد تمهد كل تلك الاتهامات لما بدأ الإعلان عنه من جانب المؤتمر الوطني المتمثل في اعتزامه عدم الاعتراف بنتائج الاستفتاء طبعا إن جاءت لصالح الانفصال، بسبب عدم حريتها ونزاهتها. وعلى كل فإن هذا التراشق بالاتهامات بالتزوير من جانب الشريكين، قد يزيد من احتقان الأجواء وتوترها ومن بعد تهيئتها لعدم قبول نتائج الاستفتاء، أيا كانت، ومن ثم حدوث الانفلات الأمني والعودة للصراعات التي بسبب توقع حدوثها، بدأت آلاف الأسر الجنوبية في النزوح من ديارها بالجنوب في اتجاه كينيا، حفاظا على سلامة أرواحها. ويبدو أن دعاة الانفصال من مواطني الجنوب، سوف لن يقبلوا بغيره، حتى إن جاءت نتائج ذلك الغير مبرأة من كل سوء. فالوحدة عند هؤلاء القوم تعنى، جر حكومة الجنوب لبيت الطاعة وقسرا، من جانب حكومة الشمال. وإحساس مواطني الجنوب بأنهم مقادون إلى ذلك المصير عنوةً، قد يفتح أبواب جهنم على الجميع، ولم يتردد بعضهم في إعلانهم الاستعداد للعودة إلى الغابة، من أجل جولة جديدة، لما أسموها حرب التحرير الثالثة. لقد قلنا أكثر من مرة إننا في هذا الظرف التاريخي العصيب، أكثر ما نحتاج إليه التفكير بهدوء لما يمكن ان تفضي إليه نتائج الاستفتاء، وكيفية الاستعداد لها بالصورة التي تضمن استمرار حالة السلام، التي لم يهنأ بها المواطن أكثر من سنوات ست، هي عمر الفترة الانتقالية التي حددتها اتفاقية السلام. ولذلك نحن في أمس الحاجة إلى كل ما يضمن استمرار هذا السلام، وتثبيت دعائمه، أكثر من اى أمر آخر. وبالطبع لا أحد ينكر إيمان السيد رئيس الجمهورية القاطع، وحرصه التام، على وحدة البلاد وسلامة أراضيها ومواطنيها. ومن منطلق ذلك الحرص، ومحاولة لتحقيق ذلك الهدف النبيل، أصدر سيادته قرارا جمهوريا بتكوين لجنة لدعم الوحدة والاستفتاء، برئاسته، وعضوية آخرين تم انتقاؤهم بدقة من أجل القيام بتلك المهمة. وقد انبثقت عن تلك اللجنة عدة لجان متخصصة أخرى، لمزيد من السعي لإنجاح الفكرة. ولكننا ورغم إيماننا القاطع أيضا بأهمية وحدة البلاد، وتمنياتنا بأن يتم إدراكها بما يحفظ للوطن سلامة أراضيه من البتر والقطع وفى ذات الوقت بما يضمن لمواطنيه سلامة العيش فيه بأمن وأمان، إلا أننا نرى أن تكوين هذه اللجنة الموقرة قد جاء في غير موعده وفى غير مكانه..إذ تم تشكيلها ولم يبق لموعد تقرير المصير الذى يشمل الوحدة والانفصال معا، أكثر من شهر ونصف تقريبا.. فهل يمكن لمثل تلك اللجنة التي مازالت في مرحلة التكوين أن تفعل شيئا يمكن ان يغير في ما وصل إليه الحال بالنسبة لخياري الاستفتاء حاليا؟ ودعم الوحدة لا بد من أن يتم بالأفعال أكثر من الأقوال، فاتفاقية السلام الشامل التي قدمت خيار الوحدة على الانفصال عند ممارسة حق تقرير المصير، حددت اى نوع من الوحدة يمكن أن يحقق ذلك الهدف، فربطتها، اى الوحدة، بالجاذبية. وهذه الجاذبية كان من الممكن تحقيقها إن تم تشكيل هذه اللجنة من أجل دعم الوحدة، ومنذ بداية الفترة الانتقالية، وبعد أن توضع لتلك اللجنة الخطط والبرامج والتمويل، وتهيأ لها الأجواء لممارسة مهمتها بالجنوب، وبالصورة التي يحس ويتذوق حلاوة نتائجها وجاذبية ثمارها، المواطن الجنوبي، تغييرا موجبا في مختلف أوجه وأساليب حياته، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. فإن حدث ذلك كذلك، لأقبل المواطن الجنوبي اليوم تجاه خيار الوحدة طائعا مختارا.. لكننا لم نفعل ذلك في موعده الصحيح وبشكله الصحيح، فهل نستطيع الآن ان ننجز كل ذلك والفترة الانتقالية على أعتاب نهايتها؟ ثم كون أن اللجنة الموقرة هي من أجل دعم الوحدة، التي مفتاح تحقيقها بيد المواطن بالجنوب، فحتى إن كان السعي للدعم بالأقوال التي لا مجال لغيرها الآن، فهل تجدي أن يتم إرسالها من الشمال، كما هو حادث من كثير من الجهات حاليا، أم ستذهب هذه اللجنة لتمارس جهدها بين مواطني الجنوب بالجنوب؟ ملاحظة أخرى حول عضوية اللجنة الموقرة التي شملت النائب الأول لرئيس الجمهورية، ورئيس حكومة الجنوب المعني شعبها بعملية تقرير المصير الشامل لحالتي الوحدة والانفصال، فهل يمكن لسيادته أن يدعو لدعم الوحدة، وهو المناط به تبصير مواطنيه بخياري الوحدة والانفصال، وترك الأمر لهم ليحددوا خيارهم بأنفسهم دون إيعاز من أحد؟. كما لا ننسى أن سيادته قد أخذت عليه دعوته للمواطنين بالجنوب بتبني خيار الانفصال في وقت سابق، ومن ثم ستؤخذ عليه حاليا وبذات القدر، دعوته لخيار الوحدة متى دعا إليها. كما أن هنالك بين عضوية اللجنة من عُرفوا بخيارهم المحدد للاستفتاء المتمثل في ضرورة انفصال الجنوب، فهل ستصبح عضويتهم في هذه اللجنة مدعاة لتخليهم عن خيارهم ذاك أولاً، ومن بعد تبنيهم الدعوة لخيار الوحدة ثانيا؟ وهل ستجد دعوة هؤلاء للوحدة، أذنا صاغية بين مواطني الجنوب حتى إن فعلوا؟ ثم هنالك عضوية مولانا السيد محمد عثمان الميرغني، احد الرافضين لفكرة حق تقرير المصير من أساسها، والذي عمل على إثباتها، بتبيانه لرفضه التوقيع على ذلك الحق، عندما كان رئيسا للتجمع الوطني الديمقراطي المعارض في زمانه، وبذلك فهو يقف على طرفي نقيض مع مواطني الجنوب، دعاة الوحدة أو الانفصال، الذين ينظرون إلى حق تقرير المصير كأكبر وأعظم انجاز حققته لهم اتفاقية السلام، في حين يتبنى سيادته فكرة حرمانهم من ذلك الحق، فهل دعوته للوحدة ستجد قبولا بين أولئك المواطنين الذين يحملون عليه بسبب ذلك الرأي؟ ثم عضوية المشير سوار الذهب الذى كان على رأس لجنة أخرى لدعم ذات الوحدة، لكننا لم نسمع عن حصيلة جهدها في ذلك الاتجاه شيئا، وقبل إلحاقه بلجنة جديدة لذات الغرض. ولا نتحدث عن أفرع اللجنة الأخرى التي نخشى أن ينتهي أجلها قبل أن تضع خطط عملها لدعم الوحدة، عندما يحل عليها التاسع من يناير 2011م. وكان متوقعا، وكإحدى مظاهر الجدية لدعم الوحدة، أن يسبق تشكيل هذه اللجان، وضع حد لكل التصريحات السالبة التي يطلقها بعض المسؤولين الشماليين، فتعمل على هدم كل ما تسعى لبنائه تلك اللجان. فما لم تحرص تلك الأصوات النشاز على عدم إرسال إشاراتها الدافعة للانفصال دفعاً، فإن لجان دعم الوحدة ستحرث في البحر. ولمعالجة الآثار السالبة التي خلفتها تلك التصريحات، كان لا بد من توضيح موقف الحكومة منها، خاصة أن جميعها تصريحات لا يسندها قانون ولا يعززها واقع. وحبذا لو أفصحت لجان التحضيرات لما بعد الاستفتاء، عما توصلت إليه من معالجات، وعلى الأخص بالنسبة للمسائل موضع الجدل الدائر حاليا، مثل قصة المواطنة والجنسية وغيرها. فكل الهلع الذى يعيشه الجنوبيون اليوم، بسبب ضبابية الرؤية وعدم وضوحها تجاه مصيرهم حال انفصال الجنوب، وبسبب التهديدات التي تنطلق من هذا وذاك فتزيد من هلعهم، دون أن تجد ما ينفيها أو من ينفيها. فالذين ولدوا وترعرعوا في كنف الشمال، أظنه من حقهم نيل جنسيته ان أرادوا ذلك، وكذا بالنسبة لمن ولدوا بالجنوب، تماما كما تفعل دول العالم الأخرى. فالسودانيون الذين ولدوا بالولايات المتحدةالأمريكية، أو المملكة المتحدة كمثال، لم يتم حرمانهم من جنسيات تلك الدول، حتى بعد أن عادت أسرهم وعادوا معها إلى السودان، فما الذى يجعل ذلك عصيا على من ولدوا بالسودان، سواء أكانوا من مواطني جنوبه أو غيرهم؟ السيد الرئيس.. نحن نتمسك بقولك «وحدة بحرب أفضل منها انفصال بسلام». الصحافة