( صواع الملك ) هذه الدابة التي تأكل مِنسَأة الإنقاذ فيصل عبد اللطيف [email protected] عندما نادت الدكتورة أحلام حسب الرسول بضرورة عودة الاستعمار إلى السودان ، اتهموها بذهاب العقل. وهي المتخصصة في الدراسات الإنسانية، لم تطلق دعوتها إلا بحساب ، بعد أن رأت العجب العجاب في دولة تراوح مكانها، وتدور في حلقة جهنمية، منذ خروج المستعمر .. ورأت بمنظارها العلمي بوادر التفكك، وبضائع أنتجها المستعمر لهذا الغرض في الأربعينيات والخمسينيات تسوق الآن برسم الإنقاذ ، على عينك يا تاجر ! كل ما يخرج للعالم من سوداننا بات يثير الاستغراب، والتهكم، ويتسجلب السخط لأهل الحكم ، ويبعث الشفقة على المواطنين .. فالأحداث والوقائع الكبيرة تترى وتتوالى: السياسات التي تؤدي بالوطن إلى التجزئة والتفكيك، والغلاء الذي يطحن الناس \" عرك الرحى بثفالها\"، والممارسات التي تشوه سمعة شعب، وتحط كرامته، وليس آخرها \" شريط الفتاة المجلودة \"، الذي أجج الغضب داخلياً وخارجياً، وكشفت تداعياته وتطورات رد الفعل عن توجه آخر أكثر بشاعة يفتك بالمجتمع، وهو الجهوية والقبلية. لقد راهن كثيرون على أن ( شريط المجلودة) سيحدث أصداء ، ومتواليات من الأحداث داخل المجتمع، كما هو الحال في أوساط قوى حقوق الإنسان. وكانت التظاهرة النسائية ، التي نظمتها مبادرة \"لا لقهر النساء\"، و قمعتها الشرطة ، بدعوى عدم \" الحصول على إذن بتنظيم التظاهرة \"، أسلوباً حضاريا للتعبير ، وإيصال رأي الرافضات من نساء السودان لتلك البشاعة في التعامل مع المرأة ، مهما كان الجرم. أرى بعض الكتابات تحاول تسويغ ( الجلد الهمجي ) بما يشاع من سيرة غير سوية للفتاة.. ومثلما حرك \" شريط المجلودة \" كوامن الغضب في كل من شاهده، استهجن العالم تعامل السلطات مع التظاهرة السلمية، التي أرادت إيصال رسالة ، واعتقال الرموز، واستجواب المتعاطفات مع \" المجلودة\". وكل ذلك كان متوقعاً، وهو المعتاد مع كل تظاهرة سلمية لا يطبخها أهل الحكم، لتخرج (مليوينة هادرة حاشدة) . ما لم أكن أتوقعه، أو ما لم أكن أعلمه ، هو ما تكشف في مضابط التحقيق مع المعتقلات من النساء مناصرات فتاة الكبجاب ( المجلودة). لقد اطلعت في الإعلام على جانب من أسئلة التحقيق والتحري، وإذا صح ما قرأته فذلك يعني أن العنصرية، المتمثلة في الجهوية والقبلية، ممنهجة في سودان اليوم.. وأن التعامل يؤسس على الانتماء القبلي، لا المواطنة. \" قال المتحري لواحدة من المقبوضات : اديني اسم قبيلتك ؟ والا قولي لي رافضة ؟ قالت : رافضة ! وهتفت المقبوضات في وجه المتحري : سودانية مية المية ! ورفضت كل واحدة منهن تسمية قبيلتها ! كل واحدة سودانية وبس ! \" يا للمهزلة ... إنه نفس السؤال المفخخ الذي رفضه البطل علي عبد اللطيف عندما وجهه إليه المحقق (الإنجليزي)، وهو يمهد لإدانته ومعاقبته على وطنيته، وعلى دمه الحار : ما اسمك ؟ علي عبد اللطيف. ما جنسيتك؟ ، سوداني. أقصد بالسؤال قبيلتك ؟ لا تهمني القبيلة فكلنا سودانيون. أو كما قال عبد اللطيف في الوقفة الشجاعة التي خلدها التاريخ. نفس السؤال الذي سأله المستعمر لتحقيق أغراضه في التفريق بين أبناء الوطن الواحد يسأله الآن موظف رسمي (سوداني) يترجم سياسات أهل الحكم .. بعد 55 سنة على خروج الاستعمار. إذا كان هدف المتحري الانجليزي واضحاً، وهو ينفذ سياسات الإمبراطورية البريطانية العظمى، التي سادت العالم وامتصت موارد الشعوب بمبدئها السياسي اللا أخلاقي المشهور \" فرق تسد \" .. ما أغراض أهل الحكم في السودان من التأسي بالمستعمر وتطبيق سياساته ؟ الجهوية مرض قاتل للأوطان .. وهي أساس التفرقة .. وهذا ما قرأناه في المدارس أيام كانت قضايا التحرر ضمن المناهج، وعلى أساسها كانت تهتف الشعوب one Nation down down Colonization No separation for يا للأسف أن يجد المرء هذا الداء اللعين يسري في أوصال المجتمع. وكل التاريخ النضالي والجهادي، وكل الكفاح، والدفع الثقافي والفكري لمناهضة القبلية والجهوية قد تهدم وأصبح ركاماً . ويا للأسف أن أهل الحكم في السودان ، الذين رفعوا شعار الإسلام، الدين القيم، الذي لا يعترف بالعرقيات والانتماءات الاثنية ، هم من يشيعون القبلية . فمن أين لمتحري الشرطة أن يسأل مثل هذا السؤال إذا لم يكن موضوعاً في ( أورنيك التحري)، وهو المضبط الرسمي الذي وضع باتقان، بعد مراجعات، ولا يطبع هكذا بأخطاء. ولا بد أن ( أرانيك ) مؤسسات وطنية أخرى فيها مثل هذا السؤال التصنيفي. هذا التبني الرسمي للجهوية ، الذي يلغي المواطنة بدون تمييز، هو ما أفرز الثقافة المريضة السائدة في مجتمعنا ، ثقافة تمجد القبلية. وهذا ما بات واضحاً في معايير التأييد السياسي ، وفي توزيع فرص العمل. والقبلية الممنهجة تعبر عن نفسها في أغنيات مشهورة، اعتاد الناس سماعها دون أن يتوقفوا عند أبعادها العنصرية الكارثية. الانقاذيون بسطوا الجهوية وعملوا لها عندما شرّعوا \" التزكية \" بمفهومها الإقصائي، أهل الثقة قبل أهل الكفاءة، حتى بين أبناء القبيلة الواحدة. ومعظم ممارساتهم الأخرى نهلت من هذه الثقافة ، التي تعظم الجهوية ، ولذلك ف \"المشروع الحضاري\" الذي ملؤوا به الدنيا لا يقوم على أصل ثابت، لأن الأساس الذي يبنون عليه، ويظنونه راسخاً، ومتيناً، ينخر فيه سوس العنصرية البغيضة، فهل ينتظرون إلا أن تدلهم دابة القبلية والجهوية التي تأكل هذه المِنسأة. فأي دين في الشرائع يقر معاملة المواطنين على أساس تمييزي؟ انظر ما يحدث في حال التعيينات الرسمية، حتى في الوظائف العليا والدستورية ، اسم الموظف المعين يجيّر لصالح القبيلة أو الجهة، والموطنون الآخرون ينظرون إلي الموظف أو المسؤول على انه رصيد لمن يليه من أبناء منطقته أو قبيلته، وبالطبع الانتماء الحزبي أصيل في هذا التمييز. والقصص تروى عن مواقف فرضتها ثقافة القبلية، وأساليب كسب الود، أو التفريق، أو الضرب السياسي، والاستعداء، الذي يتم بتوظيف هذه الثقافة اللعينة. آه لوطن تقسم أرضاً ، ويضيع إنسانه في سوق السياسة التي ترُوج فيها سلع من مخزون الاستعمار . [email protected]