ماذا قالت قيادة "الفرقة ال3 مشاة" – شندي بعد حادثة المسيرات؟    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتاب الثاني / أزرق اليمامة
نشر في الراكوبة يوم 04 - 03 - 2011


الكتاب الثاني
أزرق اليمامة
د.بشرى الفاضل
الاهداء
إلى والدي الفاضل بخيت قرجة الذي رحل عن دنيانا في الخامسة والخمسين عام 1967 م
وإلى الأستاذ على المك الذي رحل عام 1992 في الخامسة والخمسين
إهداء
شاعران رحلا مبكراً في سن واحدة، لكن ماتركاه في وجداني وفي نفوس الكثيرين لن يرحل.
ولقد سئمتُ العيشَ مُراً بعد أن
دخلَ الكشامرُ حِلةَ الباجوري
خليل عجب الدور
انظري..
كلما نمنح الأرضَ حُبنا
تصبح الأرضُ منفى لنا
ولأشواقنا..
عبدالرحيم أبو ذكرى
ها أنتِ يا رزقاءْ
وحيدة عمياءْ
أمل دنقل
تقديم
ألعاب اللُّغة
عبر أحداث روائية مندغمة في نسيج الحياة اليومية ويتنوع المشاهد والمواقف والشخوص يظْهر بوضوح افتتان بشرى الفاضل الجّم باللغة، بطرائقها المركبة وديناميتها الواسعة بناء وصوتاً ومعنى. فهو يغوص بلا آخر في عمق طبقاتها المعجمية والدلالية، وتنوعاتها الصوتية، مبتكراً صيغاً جديدة ومجترحاً مفردات وتعابير ماهرة يخرجها من فورها لشرعية التداول دون أن تخضع لأي سلطة قاموسية أو بنائية. لنرى المنتخبات التالية من مجموعة \"
أزرق اليمامة\" ففي أقصوصة \" المشنقة الأفقية\" تطل مفردة \"الطفابيع\" وهي كائنات قميئة مصاصة دماء تحكم مدينة القصبة وتفتك بسلام أهلها، ومن ثم يذهب الكاتب إلى تصريف الكلمة بصور تأتي وكأنها اشتقاقات طبيعية، مستخدماً حسه اللغوي المرهف للوصول لظلال صوتية تدل على محمولات معنوية سالبة تنتجها أصوات الحروق \"ط. ف. ب. و. ع\" للوصول للمعنى القميء للكلمة ويستخدم ذات التأثير الصوتي الدلالي لاقتراح مفردة \" الدواء -خانة\" التي لا توفر أي دواء وبالتالي تتحول إلى \"دواخانات\" بكل درجات
الإشارة للمعنى الرديف. وتؤمن ألعاب اللغة تلك وسيلة أخرى للمعنى عن طريق استيلاد مفردات بخلق مشتركات توفيقية، فهو مثلاً يصف الدابة الحديدية التي يمتلكها الطفابيع
بأنها حيوان وآلة ليصل إلى \"حيوالة\". وفي حكاية أخرى تصحو مدينة ما وهي في حالة من الصياح والفوضى، فيندغم الهلع مع البسالة لينتج \"الهبالة\" ويمضي بشرى الفاضل متعمقاً في تلك الحيل اللغوية، ففي حكاية \"زهرة\" تنتظر الطفلة الحزينة شقيقها الغائب الذي صهين وصهين حتى أصبح \" صهيونياً\". ويذهب أيضاً ليخبرنا في حكاية أخرى أن \"قلب إيناس عاقل وعقلها مقلوب\" معتمداً على فنية هذا الشكل وقدرته الهائلة الإلماح. وهو كذلك يستخدم البعد التقني لصوت الحرف في محاكاة بيئية محضة للصوت حتى يخيّل لنا أننا نسمع صدى الكلمات والحروف عندما تكح حاجة السرة \"كحة مضمومة أُه أُه\" وعندما يلتفت البعير \"باذل\" والناقة \"بازلاء\" في قلب القحط والخواء كمن يستنكر أو
يسأل \"آ. آ؟\". وهو كذا لا يغفل خاصية الاقتصاد اللفظي في العامية بإطالة وتمديد الصوت للتعبير عن الاستغراق والإمعان في الصفة، فالبحر مثلاً شديد الزرقة \" أزراااق\" وحاجة السرة الخرفة \"عجوووز\".
لعل ما يعطي كتابة بشرى الفاضل تلك النكهة الأسلوبية الخاصة هو أن العامية تحضر في النصوص كقوة مضافة للغة القص، بما يجعلها تقف بكبرياء موقف الند أمام الفصحى، حتى أن الكاتب يكون نزاعاً إلى استخدامها لتوجيه موقف القارئ وللوقوف على الجزئيات بأناة محكمة، ولكشف العوالم الداخلية لشخوصها مما يضفي غنى وتعقيداً لبنية المعنى. كما أننا كثيراً ما نقع عليها مقترنة بتصاعد الخط الدرامي كأن يأتينا صوت محمود زاعقاً في \"انفصال\" : خلاص قفّلي ولا كلمة.
بتلك الممارسة الجمالية الواعية يسعى بشرى الفاضل إلى إعادة تعريف العامية كمنفذ خصيب للتعبير يسهم بقوة في تجويد البناء الداخلي للنص ويعمل على تماسك ملامحه، فاستخدام العامية في نصوصه لا يأتي كقطب مواز للفصحى وبالتالي كخصم يعمل على تصديع نسقها، وإنما تتمفصل قدرة اللغة ككيان جامع يتسع لثنائية الفصحى والعامية لتعملا معاً بتساوق تام يناسب مقتضى الفعل، حتى أننا نكاد نحس أنه ليس هناك قداسة لكيان الفصحى الآحادي وليس هنالك، كذلك، تنكر بيئي وتنازل ثقافي عن العامية، فالقاص يسترفد من معجم العامية بكل أناقة حضورها الإنساني كهوية لسانية ثقافية
شديدة الفصاحة والنفاذ، حتى أن المعنى الذي تؤديه المفردة العامية لا يمكن
أن يعوض بغيرها. ففي نص \"عبدالقيوم الرأسي\" بروحه الفانتازية العجائبية ينهض الجسم الفصيح من على سطح الماء «بشيش .. بشيش » وفي \" ساقية جحا\" يوصف الهادي معلم المرحلة المتوسطة بأنه «تمامة عدد » في تنظيمه السياسي، وفي نص آخر تنزل دموع الطفلة «كُبار.. كُبار » ، وهناك الحمار المنتحر المحتج على رهق العالم والذي يدخل النهر «تُوش »، وتطل أيضاً حاجة السرة التي تقف «دُتْ » في خاطرة السفر.
إنها شذرات من مدارات بشرى الفاضل المكتنزة والتي هي أداته الجمالية السحرية للمتعة والإفادة.
د. لمياء شمّت
عن جريدة الصحافة السودانية
أزرق اليمامة ...
أزرق الكتابة
أي المحاور منذورة لاكتمال الأحاديث في الروح أي المحاورات منذورة لافتكاك المواريث من رصد الصمت والصميم المحجر في رمم الوارثين حبر المحارات مخضوضر يتحلزن فيه وجيب الدواثر ولا صيد لي - في صباح الخليقة هذا - سوى غمغمة الدوى وثرثرة البحر
\"طردية\"
\"محمد عفيفي مطر\"
ذات الكتابة تسعى نحو المعرفة لأنها منخرطة في التجربة والممارسة، وهي بذلك ذات مادية، غير محايدة، فاعلة في تحديد جهة التأريخ. ولأنها أرضية لاعلوية فهي اجتماعية، تحترف الانشقاق والنقصان . تهدف الكتابة إلى بلورة رؤية مغايرة للعالم، تستمد من المواجهة والتأسيس بنيتها الرئيسة .
محمد بنيس
\"بيان الكتابة\"
في الليل كانوا يرسلون جماعات السجناء ليستروا بالطلاء الأبيض كلمات الاحتجاج التي كانت تكسو، في أوقات أخرى، جدران المدينة. غير أن المطر المتواصل، المثابر، يبدأ في إذابة الطلاء الأبيض. وهناك شيئاً فشيئاً تبزغ الكلمات العنيدة مرة أخرى.
\"إدواردو جاليانو\"
\"مقبرة الكلمات\"
للوهلة الأولى - والأخيرة؟ تبدو مجموعة بشرى الفاضل الأخيرة \"أزرق اليمامة\" وكأنها تتقهقر خطوات عن رائعته السابقة \"حكاية البنت التي طارت عصافيرها\" إذ يفتقد القارئ: تلك المخيلة الشرسة التي تؤسطر أدق مفردات اليومي، والعابر، تحيل ذيل هاهينا مخزن أحزان، وبشر المحطة الوسطى إلى غازات. يفتقد، أيضاً اندلاعات المجاز المفاجئة كبرق. \"ذات مرة خرجت مليئاً بها حتى غازلني الناس في الشوارع\"؛ انزياحها القصدى عن مسارات القص التقليدية: \"قف! هذه نوافير من السائل الأحمر ترشح من المداخل والمخارج، وأخرى تنز من البطن المبقورة، هل هصرت الطماطم يوماً في عيني جارك
في معظم عام حتى سال إكسير حياتها، ذلك حال عبدالقيوم، ساعة شؤم رمت به راجلاً في طريق عام، وهو الراكب شبابه كله\"، ذلك الانزياح الذي سيغرس بشرى جذوره، فيما بعد، بتربة: أحمد الفضل، عادل القصاص، أحمد الملك، أحمد المتوكل ليطرح ثماره البهيجة: اللغة التي لا تعتاش على السائد والمستهلك مبحرة صوب \"نهش الغنائية الرتيبة\" إذا استعرنا قولاً لبنيس في سياق آخر. حبلها السري الموصول عميقاً بطبقات ود ضيف الله وعبقرية المحكي الشعبي. انتهاكها المتعمد لقالبية النمط النحوي الإستاتيكي للجملة بغية فتح آماده حد الانفجار: \"وصرت شديداً جداً أبكي\". نزوعها الخارق لخلق أسطورتها الشخصية المنبثقة من غور الذات لا القواميس ناضجة بدمها الشخصي الذي لايشبه فصيلة أحد: \"الطفابيع\" حملة عبدالقيوم الانتقامية \"الغازات\" إلخ إلخ. في تلك الخصوصية التي أشار إليها الغيطاني غير مرة.
يفتقد أيضاً: خلخلة البديهي، والآسن كبحيرة \"بقرة في الثوب البهيج\". القدرة الفذة على ارتجال مفردات من سديم اللغة وعمائها: \"الطفابيع، يدندر هاهينا .. \"في هوس دائب لفتح آماد النص وراء المتعارف عليه دلاليا. اختراقات النص بفرشاة الرسم: \"حكاية البنت\" بغية كسر أسواره وتوسيع جغرافيته لتتسع لقارات أخرى، وهي الاختراقات التي ستبلغ مداها فيما بعد في \"وجوه\" لقاسم حداد وضياء الغزاوي\" . وما فاجأ الكد: \"وجرى دمعي لا كما يجري دمع امرأة .. ولكن كالتماسيح المفترى عليها\" . وما يتأبى على الاختزال.
في هذه المجموعة تتزحزح سطوة اللغة -بأوسع ما تعنيه هذه المفردة الشائكة الدلالة - عن جمالياتها الفادحة المنبثقة عن مخيلة شرسة مفسحة الطريق لاحتضان اليومي بلغة تبدو في أغلب نماذجها، نمطية حتى، آخذة بيد القارئ صوب جماليات أخرى يجترحها بشرى الفاضل في هذه المجموعة، ليكتشف القارئ، رويداً ومندهشاً، ما يتخفى تحت هذه اللغة البريئة/ المخادعة من مغايرة ل \"حكاية البنت ....\".
اللغة، هنا، ليست منشغلة كما في \"حكاية البنت...\" بتشييد بنائها المتسامي بآليات عديدة على دمامة الواقع بحيث يتأمل القارئ في مرآتها مدى فجاجة الواقع، فظاظة قهره، لا معقوليته، هزليته، أي فضح فقره مقابل غنى النص، لكنها، اللغة، مهووسة هنا باقتناص هذا الواقع، بانحيازها الحازم لإنسانه المتخبط في أحبولته بلا فكاك. لم يعد النص قادراً على موازاة بعد أن انسرب ماء هذا الواقع لمسارب النص، لممراته الداخلية محاولاً الوصول إلى نواته متسلحاً بالسلطة في أقصى تمظهراتها عنفواناً: حلف العسكر/ الأيديولوجيا، فاختلفت جدلية النص/ الواقع بصورة بائنة، الشيء الذي نأمل الكشف عن
دواعيه، وتفحص آلياته لاحقاً.
بدءاً تقر هذه الثرثرة النقدية في حضرة صاحب البنت أنها لاتطمح لأكثر من كونها بهواً أولياً لساحة هذه العالم الخصب المكتنز لبشرى الفاضل في مجموعته \"أزرق اليمامة\"، دون أن نمنح مفردة بهو ذلك المعنى الهام الذي أسبغه عليها لوى بورخيس حين أسس للعنوان باعتباره بهواً للنص، أي مدخلاً أساسياً له، ولكن دون أن تنحدر، هذه الثرثرة، في الوقت نفسه لمهاوي الاستسهال البشع الذي طالما حذر منه بول فاليري ) 1871 - 1945 (. يتأبى عالم بشرى الفاضل كأي عالم مثقل بعناقيد التلقي، كما تتأبى لغته كأي لغة تختنق ببذاخة أعراسها، دون أن تنزلق لفخ الرنين، على الاستسلام السهل لمباضع
القراءة النقدية.
إنها نفس المعضلة التي واجهت ناقداً بقامة رمضان بسطاويسي عند محاولته النفاذ لعوالم ضياء الشرقاوي ) 1938 - 1970 ( حينها كتب \"يعترف الباحث أن تجربة قراءة ضياء الشرقاوي كانت مضنية إلى حد كبير، فهي أعمال لاتمنح نفسها بسهولة لمن يتناولها. وقد عزا بسطاويسي الجمالية في بحث قاس متصل عن شروط مختلفة لجماليات القصة القصيرة.
استطراداً تقفز لذهن هذه القراءة القصة قصيرة التي كتبها بورخيس مع صديقه بيوي كازاريس عن ناقد يريد القيام بوصف الكوميديا الإلهية لدانتي: \"وفي 23 شباط 1936 م كان يبدو أن كل شيء قد أصبح رائعاً لأن
وصف القصيدة يتطابق مع كلماتها .. وكتصور ذاتي ناضج ألغى المقدمة والهوامش والفهرست واسم وعنوان الناشر .. وقدم القصيدة نفسها للمطبعة. وتعلق الناقدة الأمريكية - اللاتينية د.ب. غالفر على قصة بورخيس بالقول أن مشاكل الحجم وحقوق المؤلف لم تسمح لها بالقيام بنفس الدور، سيما في أعمال بورخيس .. وللأسف يجب القيام بالمحاولة. نعم، للأسف، يجب القيام بالمحاولة.
إنها تلك الإشكالية الأزلية إذن: المتاهات السحيقة التي يغوي النص الناقد إليها، يجرجره لسراب الاكتشاف. علاقة النص/ الناقد تبدو لي مثل علاقة ودان إبراهيم الكوني مع وسوف \"الحيوان الهائج يشد من جهة وهو يتشبث بالحجر من جهة أخرى. أحس بأن يده ستنسلخ وتنفصل عن كتفه، ولكنه ضغط على نفسه، ولم يتخل عن الحجر .. سائل يغمر وجهه: العرق، وسائل يغمر ركبته وساقيه: الدم أما ملابسه فقد بدأت تتمزق منذ أن بدأت المعركة في الوادي، اقتطعت منها الأحجار والأشجار التي مرا عليه في طريقهما إلى
معلقة في القمم\". إنها أمثولة النص/ الناقد كما تتبدى لي في بعض حالاتها، ثمة علاقة أخرى تقوم بين النص والناقد هي علاقة الإغواء إذ يغوى النص الناقد، يُغريه بسهولة الاكتشاف والامتلاك، وفي نهاية المطاف يخرج الناقد
صفر اليدين منتحياً خيبته، مطأطئاً سيرته في الغياب. تدليلاً: فإن هذه المقاربة / الثرثرة النقدية التي بدأت سطورها الأولى عقب ظهور \"أزرق اليمامة\" لم يتح لها أن تكتمل إلا بعد عامين من ذلك، تعثرت بلا هوادة في عراء خيبتها وهي تجاهد للإمساك بالنسج الحي لعوالم بشرى الفاضل العصية، وفي النهاية اكتفت بملامسة سطح نصوص. \"أزرق
اليمامة\".
دون أن تجرؤ على النفاذ إلى دوامة الإغواء الباطنية للنصوص مرجئة ذلك إلى فرصة أخرى تتأجل باستمرار. وحتى لاتبدو هذه القراءة مفتقدة لمحاور ارتكازها فإنها تقترح المحاور
التالية لتفحصها، وهي محاور تمثل سمات أساسية - ضمن سمات عديدة أخرى لن نتطرق إليها هنا - وسمت هذه المجموعة وتؤسس خطابها الجمالي / الدلالي بتشابكها، وتقاطعاتها:
استراتيجية العنونة.
جدلية النص/ السلطة.
الانحياز لليومي والهامشي لغة ودلالة.
الأساطيري والغرائبي.
استراتيجية العنونة/ أزرق اليمامة
يحتل العنوان قطباً هاماً في الخطاب الأدبي والنقدي باعتباره مدخلاً أساسياً ندلف منه لدهاليز العمل الأدبي ومساراته المتعددة، وقد فرغ النقد الأدبي من اعتبار النص الأدبي يتضمن نصاً موازياً يفككه جيرار جينيت إلى:
- النص المحيط: الذي يتضمن فضاء النص من عنوان ومقدمة وعناوين فرعية، وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب ككلمة الناشر.
- النص الفوقي: وتندرج تحته كل الخطابات خارج الكتاب المتعلقة به والدائرة في فلكه.
ويرى ميشيل حليفي: \"إن العنوان مرجع يتضمن بداخله العلامة والرمز، وتكثيف المعنى، بحيث يحاول المؤلف أن يثبت فيه قصده برمته، أي أنه المتحركة التي خاط المؤلف نسيج النص عليها\". كما يذهب إلى أن العنوان في التوجه البلاغي الجديد فضلاً عن أنه مفكر فيه \"ينجز معنى باطنياً يشكل النواة - البؤرة للعمل الأدبي من خلال إمساكه بمجموعة النسيج النصي في تقاطعاته وتغذيته للقراءة والتأويل\". يشف العنوان عن مدى تقليدية النص، أو حداثته، عن الزاوية التي اختارها المعنون لتبئير نصه، وأيضاً عن علاقة
التناص التي يقيمها مع النصوص الأخرى.
في عناوينه السابقة كان بشرى ينزع لعنونة تنزاح عن السائد، تنز باكتناز دلالي وبنائي يؤسس لهذه المغايرة الانزياح: \"بقرة في زمن الثوب البهيج\"، \"حكاية البنت التي طارت عصافيرها\"، \"ذيل هاهينا مخزن أحزان\". في عنونة مثل \"حكاية البنت التي طارت عصافيرها\" كان يتم اختراق محور العادي فعبارة \"حكاية البنت\" المتماهية مع الحكي الشعبي دلالياً وبنائياً سرعان ما يتم اختراقها عبر أسلوبية الإحراف فتنتقل من مستوى المحكي الشعبي إلى مستوى الأسطوري، الغرائبي، المجازي، المتخيل بعبارة \"التي طارت عصافيرها\"، الشيء الذي يمكن قوله عن أغلب عناوين المجموعة. مما يشف عن إنحياز للأساطيري والغرائبي في بناء مواز للعالم الواقعي يقيمه مقابل قصة التفاصيل
والحياة اليومية التي أغرقتنا بآلاف القصص \"الواقعية\". في العنوان \"أزرق اليمامة\" يمكننا أن نرصد استراتيجيات نصية مغايرة في العنونة تتمثل فيما يلي:
التصحيف الدلالي للموروث:
العنوان الرئيسي للمجموعة \"أزرق اليمامة\" يشف عن تصحيف دلالي وبنائي للموروث، فهو لايعني باجترار دلالات هذا الموروث \"زرقاء اليمامة\" والتي استهلكت في الخطاب الشعري المعاصر كدلالة على استشراف المستقبل،وتلمس إشاراته ونذره من خلال سجوف الحاضر وحجبه، وهي دلالاتاستهلكت حتى دائرة الانغلاق، مما أدى إلى تسطيح الرمز وضموره، وفقدانهلطاقته الإيحائية، وتنميطه، حتى صار من السهل على القارئ -غير المتمرس حتى- فك شفرته وفضح عراء القصيدة وتسطحها. ينهض العنوان هنا \"أزرق اليمامة\" لا لاجترار هذا الموروث، أو حتى استلهامه، بل لاكتشاف وجهه الآخر المقلوب الذي أفلت من ذهنية الساكن والمنمط، ففي مقابل زرقاء اليمامةباستشرافها المهيب للمستقبل، يقيم بشرى نموذجه المسحوق أزرق اليمامة الذي ينتمي زمانياً ومكانياً لنا ف \"طي بؤس كهذا، في حرز قمقم كهذا ..
وحولك في مركز المدينة يصخبون أو يقودون أو ينقادون لبائسين مثلهم\"، في ظل واقع ضاغط بكلكله كهذا لامجال لزرقاء اليمامة، هذا التحريف للموروثمرتبط بالانحياز للمهمش، العادي، المقهور على كافة الأصعدة، واضعاً القارئتواً في بؤرة النص، ونواته المركزية، مرسخاً لملامح البطل/ اللا بطل الذي كف في الخطاب الأدبي الحديث عن بطولاته الشاهقة.
هذا التصحيف الدلالي للموروث يلتقى بمثيلات له في المجموعة ففي مقابل \"التقاء الساكين\" النحوي، الساكنان اللذان لايلتقيان، يلتقي ساكناً بشرى، أي جاراه الساكنان، يتم التصحيف هنا باستراتيجية بلاغية: حذف الموصوف وإقامة الصفة مكانها للإيهام. أيضاً يمكن نرصد \"دمعة بالبصل\" في تورية ساخرة للمحكي الشعبي، هذا التصحيف الذي يمد جذوره لمجموعته السابقة\" ، \"حكاية البنت... \" حيث نجد \"حمامة فرت من قسورة\" في تناصمع الآية القرآنية، كما نجد عنونة \"حملة عبدالقيوم الانتقامية\" في تناص مع
التاريخي \"حملة الدفتردار الانتقامية\" في ابتعاد لمدلول الثأر الشخصي الذي
يطال الجميع.
الإنحياز الحازم للعادي:
تشف معظم عناوين هذه المجموعة عن انحيازها للعادي كما ألمحنا، نجد \"قبلالغروب \" \"دمعة بالبصل\"، \"ساقية جحا\"، \"ملهوف\" \"انفصال\" \"اللقمة\" \"المرأة المتمحركة\" \"التكريم\" إلخ إلخ، وهو انحياز له دلالاته في ظل وطأة فظاظة الواقع التسعيني في السودان، إنه انحياز للعادي ليس على مستوى الدلالة فحسب، بل على مستوى المفردة وصياغة الجملة أي على المستوى البنائي أيضاً، انزاحت العناوين هنا عن استراتيجيات المغايرة في عناوينه الأولى \"الطفابيع\" ذيل هاهينا مخزن أحزان\" إلخ.. إلخ . عناوين قليلة أفلتت من قبضة العادي في هذه المجموعة: \"المشنقة الأفقية\" ، \"عبدالقيوم الرأسي\"، هذا الانحياز للعادي له دواعيه وآلياته العميقة التي نأمل الكشف عنها لاحقاً في حديثنا عن جدلية النص/السلطة.
جدلية النص / السلطة
تتبدى السلطة هماً ممضاً في مجمل نصوص الحداثة العربية، حتى في أنصع نماذجها. تنوء السلطة بكلكها على عصب الكتابة العربية، يقول د. كمال أبو ديب: «تبدو الحداثة مسكونة بالسلطة، بل إنها لتبدو مشبوحة بالسلطة، بعنفها وتعسفها وبربريتها، تصبح السلطة بيت الحداثة الذي فيه تنمو، وأفقها الذي تحته تتحرك وتنتفض ». ويدير النص صراعه مع السلطة
-الصراع الذي يزداد حدة مع تفاقم الوعي بقهر الواقع، وتطوير السلطة لآليات قمعها -عبر استراتيجياته العديدة التي لن نعني بخوض تفاصيلها الآن، ويكاد أبو ديب يخلص أدب الحداثة في جذوره وتفرعات أغصانه باعتباره «تجسيداً لوعي ضدي يشتبك في صراع لايني مع هذا البعد المدمر للسلطة ». السلطة التي يكاد ينقلها فوكو إلى مصاف المتعالي حينما يصفها ب «الشيء الملغز، المرئي واللامرئي في آن، الحاضر والغائب، المستثمر في كل مكان .»
2--1 يبدو الوضع في السودان أكثر حدة، إذ انشبك الهم السياسي بالثقافي عبر فترات طويلة في تاريخ السودان، وازداد هذا الانشباك ضراوة في ظل السلطات الدكتاتورية التي استولت على دست الحكم لفترات طويلة تنيف على الثلاثين عاماً بعد الاستقلال، وقد أشار د. حيدر إبراهيم في مقدمته للعدد الذي خصصت \"كتابات سودانية\" محوره ل \"الإبداع في السودان\": إلى ذلكبقوله «لسوء حظ الشعر السوداني طغى السياسي على الفنان والشاعر فيصلاح، واستنزف الشاعر صلاح لغته ورؤاه وصوره وخياله في المعارك السياسية غيرالمجدية ». ماأشار إليه د. حيدر يمكن سحبه على قطاع من الكتابة الثقافية في السودان، وإن كان هذا لا ينفي وجود عدد واسع مع النصوص التي أدارت حوارها مع السلطة في مختلف تجلياتها دون أن تتزحزح عن جمالياتها وذلك عبر آليات عديدة: تثوير بنية اللغة، دحر سلطويتها ونمطيتها التي تعممها السلطة، استثمار طاقات الرمز، إذابة الدلالي في مختبر اللغة بحيث ينقله من مستوى الحدث/ الواقع إلى مستوى الرمز/ المجاز، انغراسها في غور الشعبي واللغة المحكية والمسكوت عنه، امتياحها من الكوني والإنساني، كما تمثل في نصوص القدال، محمد المكي إبراهيم، محمد الحسن سالم حميد، قاسم أبو زيد، يحيى فضل الله، أزهري الحاج علي، هاشم صديق، الصادق الرضي،
عاطف خيري، إلخ إلخ.
3--1 لايمكن تفسير هذه الحدة الدلالية التي وسمت الخطاب القصصي ل \"أزرق اليمامة\"، الذي نشرت نصوصه في التسعينات، دون أن نحيل هذه المقاربة لما هو خارج الخطاب الأدبي، لسودان التسعينات الذي دهمنا فيه كابوس الإنقاذ في يونيو 1989 . باشتداد قبضة السلطة تحكماً اشتدت ضراوة صراع النص معها شحذ النص سكاكينه، اشتدت قبضة السلطة بتحالف الأكليروس/ العسكر، التحالف الأشد سطوة على الحياة المدنية في أصغر جزئياتها: باستهداف نواة الإنسان السوداني لتغييرها، بتعدد مطارق قمعه، بالتباس السياسي بالديني، بالهوس الدائم لتمرير خطاب غيبي، لاعقلاني، يتوسل بالجذور إلخ إلخ، هذا المناخ القمعي طال بشرى الفاضل على المستويين الشخصي والإبداعي.
4--1 لانتفيأ، هنا، قراءة النص على ضوء الواقع في قراءة إسقاطية تفرغ النص من غناه الباطني، وشفراته الخاصة: أي أدبيته التي تمنحه صك شرعيته، المأزق الذي ينزلق إليه الإيديولوجي عادة، إنما نتفيأ قراءته قراءة تأويلية تساهم \"بوعي في إنتاج وجهة النظر التي يحملها أو يتحملها الخطاب في محاولة لإعادة بناء ذلك الخطاب بشكل يجعله أكثر تماسكاً في إحدى وجهات النظر يحملها\"، نتفيأ تفحص التقنيات النصية التي أدار بها النص حواره مع الواقع دون أن يسقط في أحبولته.
5--1 ثمة مرارة مقطرة تغلف مجمل الخطاب القصصي لبشرى الفاضل، مرارة لاتخفف منها السخرية بل تزيد أوارها اشتعالاً، تتعدد تجليات هذه المرارة، وإن كانت تنبثق من منبع واحد: القهر، القهر، الذي يطال الحياة حتى أصغر جزئياتها، يتم التعبير عن هذه المرارة باستراتيجيات تتمثل فيما يلي:
الأنسنة:
في نصوص عديدة لبشرى الفاضل يمكن أن نرصد هذه الخاصية، إسباغ الدلالة على الشيء، على الحيوان، وتحويله إلى رمز مثقل بالدلالات، غالباً ما يتم ذلك بقصد تصوير المقاومة البطولية للقهر، إذ لا أحد بمنجاة عن لهب الشر \"فعذاب الروح واحد\"، لايتم ذلك على مستوى مضمر النص فقط، بل على مستواه الظاهري أيضاً، فالحمار الذي توغل في الماء لينتحر ارتفع نهيقه الأخير ك \"احتجاج جهير ضد رهق العالم\"، تحول إلى أليجوريا تختزن دلالات مقاومة القهر، الشيء الذي يمكن قوله أيضاً عن العصفور في \"القمة\"، والبعير والناقة في \"انتحار البعير الناقة\".
النفي والاغتراب:
ألمحنا أن \"أزرق اليمامة\" تأتي انحيازاً للعادي، والمهمش، فأزرق اليمامة لايضطلع بذلك الاستشراف المهيب للمستقبل مثلما زرقاء اليمامة، قصارى جهده أن يستشرف مستقبله هو، منقباً عن كوى من الضوء تنير عزلته، عن قطرة واحدة تندى حياته الجافة التي تزلزلت تحت قساوة واقع لايطاق، سيما مع تفاقم الوعي بوطأته، إن استشرافه أساساً لإشباع حاجاته الأولية التي قمعتها مطارق الواقع. أزرق اليمامة، محمود، لايلبث أن ينزاح للهامش، إنها مأساة الذات المزاحة بفعل القهر عن مركز الفاعلية الإنسانية، مما يسلمها
رويداً إلى اغتراب حقيقي، الاغتراب هنا ليس بالمعنى الفلسفي أو الوجودي الذي تهيمن فيه قدرية كونية غامضة، مثلما عند عبدالصبور مثلاً \"تعالى الله هذا الكون موبؤ ولا برء\"، إنما بالمعنى السيسيولوجي، السياسي، ومن ثم لن يتبقى لأزرق اليمامة من هامش لممارسة حريته سوى أحلام يقظته المصادرة بكوابيس النهار \"وهكذا أسلم محمود نفسه لهذه الظلال الحية\". وحتى يكتمل غيابه، اغترابه، يتشيأ محمود \"أصبح جسمك سيداً للمكان وشعرت بمنعة وجيشان .. ولمست بيدك الضخمة التي تشبه جذع شجرة وجهك الذي استدار وانتفخ فأصبح كبطن فيل. عيناك هناك .. هناك .. قمران .. كشافتان\". هذا التشيؤ المخترق بلمسات إنسانية، خطوة أخيرة للاستلاب والأيلولة للافاعلية، الإنسجان في قمقم الشيء، لكن حيويته فقط أنقذته من صمم التشيؤ \"وألهب محمود خيال تلاميذه فكف عن الرياضيات وصار يحيرهم بكشفه الباهر واختلط حابل الحصص بنابل الحياة فأصبح محمود يدرس مادة واحدة أولها رياضيات اسمها الكون\". يكتمل نفي الفرد في \"أزرق اليمامة\" بالسجن، السجن الذي تمارس فيه السلطة أنقى درجات قمعها، ففي السجن «تكف السلطة أن تتخفى، يسقط قناعها، وتظهر كيف أنها طغيان مندفع في التفاصيل الأشد تفاهة، هي ذاتها وبكل وقاحة، وفي الوقت نفسه كيف هي نقية، مبررة كلية، طالما أنها تستطيع
صياغة نفسها كلية داخل أخلاق تؤطر ممارستها أنئذ يظهر طغيانها وكأنه سيطرة خالصة للخير على الشر »، هو صورة السلطة الأكثر هذياناً بتعبير فوكو.
في \"المشنقة الأفقية\" ينفجر صراع النص مع السلطة في أكثر بقاعها يباساً: السجن -الذي يطال حتى أولئك الذين ظلوا بمعزل عن كل شيء كمختار - الجانبي- في إشارة إلى أخطبوط الشر الذي لايكاد ينجو منه أحد -عبر بنية غرائبية السجن، ولامعقوليته، في إطار كابوسي له جذوره الواقعية «وأقبل الأطفابوعيون على الدم يتلمظون، ترجف شفاههم وتلمع عيونهم لدى رؤيته »، ويأتي التعذيب من قلب هذا الكابوس «وكذا نفق مختار . لم
يكن موته سهلاً - ففي البداية مطوه حتى تهتكت أنسجة عضلات البطن والصدر والأيدي والرقبة، ثم أصيب بنزيف داخلي أدخله في إغماءة أعفته من الآلام حين انفصلت الرقبة. مرت مأساة الرقبة بمراحل. في البدء تقطعت أوصال الأعصاب والعضلات، ثم تهتكت الأنسجة فانقطع اللحم عن العظم، ثم انفصلت السلسلة الفقرية فأصبحت هناك عظمتان بينهما دم تجمع في الجمامة بينهما. أما الجلد فلم يتمزق... » موصوفاً بلغة حيادية بدقة جراح، مرسخاً لمدة ثقله، الوصف لايتم خارجياً على نحو ميتافيزيقي، أو عاطفي إنما يتم بهذه الدقة الحيادية مستثمراً استراتيجية الارتكاس inversion عبر إبعاد النزعة العاطفية من قلب المشهد ليبقى المتلقي في حالة انتباه كلي للنص، انتباه يقظ واع دون استلاب عاطفي أو مصادرة، ليكمل القارئ، دون بكاء، عناصر الصورة المكونة لعذابات مختار، وانسحاقه الكلي تحت جبروت القهر.
الأسطرة:
لن نتفيأ هنا تقصي استراتيجية الأسطرة التي تجلت بشكل باهر في مجموعة \"حكاية البنت التي طارت عصافيرها\"، وشحبت في مجموعة \"أزرق اليمامة\" بسبب طبيعة حوارها مع الواقع، وتبنيها لاستراتيجيات نصية مختلفة .. فهذا يستلزم دراسة موسعة، منفصلة، تستقصى اشتغالها المدهش في مجمل
أعمال بشرى سيما في \"حكاية البنت...\".
تقلصت سطوة الأساطيري كثيراً في هذه المجموعة، وإن كانت قد برزت في ثلاثة نصوص هي: \"أسطورة البحر السفين\"، \"انتحار البعير والناقة\"، عبدالقيوم الرأسي\"، بالإضافة إلى نص \"جيم حاء خاء\" الذي مزج بشكل باهر بين الواقعي والغرائبي عبر انفجار النص ضد السلطة ممثلة في واحدة من أهم آلياتها:
الخطابة بما هي خطاب لاعقلاني، عاطفي، انتهازي ولأننا لن نتفيأ، هنا تتبع آليات عمل الأسطورة في مجمل أعمال بشرى الفاضل، كما أشرنا، فحسبنا أن نشير إلى آلية واحدة تعمل بها الأسطورة عند بشرى الفاضل وذلك للكشف عن إحدى استراتيجياته النصية في التعامل مع القهر باعتباره اختلافاً. فإذا كان إدوار جاليانو مثلاً يعمل على رد الطاغية إلى عاديته، وضعه في مصاف العادي مصنفاً إياه كموظف بائس، مجرد جرو بيروقراطي تمهيداً لمواجهته، ومن ثم سحقه: \"ممارس التعذيب موظف. الديكتاتور موظف. إنهما بيروقراطيان مسلحان سوف يفقدان مهنتهما إن لم ينجزاها بشكل فعال. إنهما ليسا أكثر
من ذلك. ليسا مسوخاً فوق العادة. ونحن لن نمنحهما ذلك الامتياز \"فإن بشرى الفاضل، على نحو مغاير، يحوله إلى مسخ تمهيداً لتحويله إلى اختلاق محض عبر استراتيجية الأسطرة.
يقول د. محمد عصفور: «يمكننا أن نترجم مصطلح \"الكذبة\" بكلمتين أخريين لاتفزعاننا هما \"الأسطورة\" و\"القصة القصيرة\" فلو قلنا مثلاً إن العنقاء أسطورة من الأساطير فإن المعنى المباشر للكلمة هو أنها كذبة -أي أن العنقاء لا وجود لها، لكن هذا القول لايعني أن معنى الأسطورة كاذب. فمعنى التجدد
من خلال الاحتراق معنى نقبله على أنه ذو دلالات عميقة .» على ضوء ملاحظة عصفور هذه يمكن أن نقرأ في المشنقة الأفقية: «وكانت ستمضي الحياة بمختار إلى غايتها دون ضجيج لولا ظهور الطفابيع في مدينة القصبة . استقامت الشمس عمودية طوال السنين التي مكثوا فيها حاكمين)حكم الطفابيع لسنوات قليلة( . ولكن الطفابيع هزمتهم بصورة حاسمة خراطيم المياه. فقد اكتشف طفل من أبناء القصبة أن الطفابيع يخافون من الماء مثل الكلاب المسعورة . وما أن بدأت الحملة حتى تساقط الطفابيع كذباب في حضور مبيد حشري عنيد. .»
يؤسطر بشرى الطغيان هنا، يجرجره لأحبولة الغرائبي من أجل تحويله إلى اختلاق محض يؤول في المطاف الأخير إلى كذبة لا أساس لها في الواقع الفعلي،وذلك لفضح مدى هشاشته، ونصاعة حضوره الفج كما نلمح في إشارات النص المتناثرة: «اكتشف طفل « ، .. » كذباب .. » إلخ إلخ، هكذا يتم جرجرة القهر إلى متاهة منسوجة من حبائل اللغة، تضليله في الدروب المتشابكة للغة، لمتاهاتها العصية، حيث ينزلق تدريجياً لهوة النسيان: «حكم الطفابيع لسنوات قليلة » ولذا كان من الطبيعي أن يعلق الراوي «قصة اندحار الطفابيع فكهة »، أي عبثية لتليق بهم.
هذه المقاربة/ الثرثرة النقدية التي حاولت إضاءة بعض التقنيات النصية للخطاب القصصي عن مدى تفرده ومغايرته للخطاب القصصي الشائع، ولا إنصياعه لموات كتابة يعاد استنساخها في دائرة لانهائية الملل تأتي، أيضاً، احتفاء بقاص كبير تأخر الاحتفاء به كثيراً، نأمل أن تتلوها مقاربات أخرى تقارب الخطاب الأدبي السوداني، سيما المضمر منه، بعدها نأمل أن تخفت، ولو قليلاً، الأصوات التي ظلت تلهج باسم الطيب صالح لمدة تنيف عن ثلث قرنباعتباره درتنا اليتيمة، مختزلة -هذه الأصوات- كتابة أمة بأسرها في فرد.
د. هاشم ميرغني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.