[email protected] ظلت قناعتي تتعاظمُ مع مطلع كل صباحٍ جديد ، بأنَّني هدفٌ \"لاغتيال\" هُو الأغربُ و الأحدث من نوعه ، ذلك هُو (الإغتيال بالمعلومات المسمومة)!!.. فكل يومٍ تطالعُني – عبر الصحافة ، أو الرسائل الخاصة أو الهاتف أو البريد الإلكتروني ، أو غيرها من قنوات و مصادر المعلومة – معلوماتٍ من شأنها أن ترفع ضغط الدم ، أو (تنشف ريق البنكرياس) فيُضرِبُ عن إفراز الإنسولين ، أو ترفع التوتُّر النفسي والعصبي إلى حده الأقصى ، معلوماتٍ لا أستطيعُ التعامُلَ معها دون خسائر صحية جسيمة ، ذلك برغم آليات الاحتيال التي ظللتُ ألتمسُ منها ترياقاً ل\"سُمّ\" المعلومات القاتلة تلك ، مثل محاولة إقناع النفس بأن هذه المعلومات مجرد \"شائعات\" ، أكاذيب.. إختلاقات تآمُريَّة .. تسريبات استخبارية مغرضة !!.. ولكن تعليل النفس بأيٍّ من تلك المهدئات سُرعان ما يُسفِرُ عن وهمٍ كبير ، فالمعلوماتُ تلك تأتي مؤثقةً وواثقة ، وساخرةً من كل محاولة هروب!! قال لي صديقي (ميم) أن الوثائق نفسها يُمكنُ أن تكون \"مُزوَّرة\" ، في زمانٍ بلغت فيه تقنيات التزوير حدَّاً مذهلا ً !!.. قُلتُ لهُ : علَّلتُ نفسي بذلك الافتراض طويلاً ، ولكن .. كثيرٌ من الجهات التي تزعُمُ الوثائق (المفترض تزويرها) أن فساداً عظيماً يجري فيها ، كثيرٌ من تلك الجهات تُبادِرُ ، من حيثُ أرادت أم لم تُرِد ، إلى تأكيد أن الوثائق صحيحة !!.. فضلاً عن أن كثيراً من تلك المعلومات المسمومة لا تحتاجُ أصلاً إلى وثائق ، بل يأتي بعضُها عبر \"مصادر رسمية\" و أحياناً على لسانِ (ناطق) يُوصفُ بأنَّهُ رسمي !! و بعضُها تراهُ نصب عينيك في الطريق العام .. وبعضُها تنشُرُهُ جهاتٌ بحثية محايدة !!.. ماذا يُمكِنُ أن يُصيب أعصابك – بافتراض أنك شخصٌ متوازنٌ نفسياً وعصبياً – و أنت تُطالِعُ ، مثلاً ، إفادات الإدارة العامَّة لمكافحة المخدرات ، تلك التي تقولُ لك ، يا مولانا ، أن تعاطي المخدرات بين تلاميذ مدارس الأساس بلغ واحداً و عشرين بالمائة !! كيف تتوازنُ ، في دولةٍ جاءت لتُزكِّي المجتمع و تُطهِّرهُ من الأرجاس ، وإحدى المؤسسات المعنية بعملية التزكية والتطهير تقول لك أن أربعةً وعشرين بالمائة من طلاب المدارس الثانوية يتعاطون المخدرات ؟؟ كيف تستطيع هضم معلومةٍ تقول لك أن نسبة تعاطي المخدرات بين الأحداث ارتفعت خلال عامٍ واحدٍ بنسبة ثلاثمائة بالمائة ؟؟ و ما موقفك إزاءَ جهاتٍ بحثيةٍ تؤكد لك أن تعاطي المخدرات بين طلاب الجامعات تجاوز تلك الأرقام المخيفة بكثير ؟؟ هل تشتُمُ إدارة مكافحة المخدرات و تقول لها : كذابة!! إفعل إن شئت ، ولكن المخدرات نفسها جزءٌ صغيرٌ جداً من المصيبة ، لأنك حينها سوف تضطرُّ إلى شتم و تكذيب جهاتٍ أُخرى كثيرة ، ليست كلها معنيةً بأمر المخدرات فقط ، للأسف !!.. هل تستطيع تكذيب \"ملجأ المايقوما\"؟.. وهل تستطيع وضع عقلك في زنزانة و تمنعهُ من \"الحساب\" وهو يطالع الأرقام المخيفة للأطفال اللقطاء حديثي الولادة ؟؟ والحساب الموضوعي ، إن لم تتهم عقلك بالجنون ، سوف توصلك إلى حقيقة مخيفة ، هي أن \"القراءة\" التي تقدمها تلك الأرقام المعلنة لعدد اللقطاء ، هي أقلُّ من واحدٍ بالألف من حجم \"المصيبة\" الحقيقي .. فالرقم المعلن رسمياً ، تعرفُ أنت ويعرفُ حتى المعتوهون ، أنهُ أقل من واحدٍ بالألف من الرقم الحقيقي ، فالذي تُكتَبُ لهُ الحياة من بين ثمرات تلك المصيبة هُو مجرد استثناء من القاعدة ، والقاعدة هي أن \"تُجهَضَ\" ثمرات الخطيئة بواسطة مختصين امتهنُوا تلك المهنة كمصدر رزق!! والقاعدة – إن لم يتيسر ذلك الإجراء – هُو إلقاء ثمرات تلك المصيبة في مقالب القمامة ، في النهر ، في الآبار ، في طريق الكلاب والقطط.. في أماكن أخرى كثيرة لا يتيسرُ بلوغها للجهات الرسمية التي تُحصي و تُدوِّن وتُعلن !!.. والقاعدة الأسبق من كل ذلك هُو (ثقافة) العوازل التي كانت \"تنصحُ\" بها وزارة الصحة ، وبلسان ومباركة وزيرة الصحة السابقة شخصياً !!.. و قد تمكنت جهودُ دولتنا المجيدة من إشاعة تلك الثقافة باسم مكافحة الأيدز ، إلى حدٍّ جعل ذلك الأمر \"أسهل من إلقاء تحية\".. معذرةً للأستاذ كمال الجزولي إذ نستعيرُ عبارتهُ المشهورة.. الآن – إن كان لك عقلٌ يُحسنُ الحساب والتعامل بالأرقام – قُل لي : أين بلغ \"طُهرُ\" مجتمع الشريعة؟؟؟ أما إن كان التعامُل بالأرقام يُربِكُك ، فانظُر في الطرقات .. كان في قديم الزمان ، وقبل أن يألف الناسُ الحديث عن أي شريعةٍ أو تزكية مجتمع ، كانت هنالك فئة محدودة ، صغيرة ، تكادُ تكُونُ معروفة ، ممن يسمونهُن \"بنات الليل\" ، يقفن في طُرقات معلومة ومحددة ومحدودة ، في ليل الخرطوم ، لتأتي سياراتٌ تلتقطُهنَّ و تمضي .. أما اليوم يا مولانا ، فلا تصرخ باكياً في خطب الجمعة ، فالطرقات جميعها ملأى ، والدولة نفسها تُطارد \"بائعات الشاي\" حتى يدعن هذه المهنة الطاردة ، ويبحثن عن \"طُرقاتٍ\" يقفن فيها في انتظار \"رزقٍ\" مريح لا تطارده الشرطة!! و طالبات الجامعات اللاتي يأتين من أقاصي السودان إلى الخرطوم ، سُرعان ما يكتشفن \"الجوع\" الذي يُمكِنُ دفعُهُ بمشوارٍ صغير !!.. المشكلة ، يا شيخ ، ليست مشكلة انتشار مخدرات ولا مشكلة خطيئةٍ أو لقطاء ، المشكلة مشكلةُ دولةٍ امتهنت الخطابة والجدل ، وحُرِمت العمل !! مشكلة مؤسسات دعوية لا تعرف ألف باء الدعوة ، ومؤسساتٍ تربوية تحولت التربية عندها إلى سلعةٍ قابلة للسمسرة !! و مؤسساتٍ اقتصادية فهمت أن النهوض بالاقتصاد معناهُ الوحيد تطاولُ أربابها في البنيان و نهب مال الدولة و إيثار الأنفس به والأقارب والمحاسيب !!.. القضية يا شيخ لن تحلها إدارة مكافحة المخدرات ولا شرطة الآداب ولا ملجأ المايقوما .. بل تحلها سياسة دولة ، دولة تعرفُ الأولويات ، وتُحسنُ المحاسبة ، وتتوب إلى الله من سياسة (خلوها مستورة) ، فإنها ، والله ، لن تبقى مستورة ، فالرائحة وحدها تزكم الأنوف !!