[email protected] لم يكن السودانيون يحبون السفر في الماضي , نسبة لإرتباطهم بالنيل. كان غالب سفرهم إلي الحواضر القريبة و هي أم درمان و عطبرة و بورتسودان, أي ( سفراً ورا البيت ) كما كانوا يقولون, أي سفراً قريباً, مقابل السفر البعيد إلي الصعيد , أي الجزيرة و الجنوب و غرب البلاد. و كان بعضهم يسافر إلي مصر للعمل و بعضهم يسافر للدراسة . و منهم من كان يتسلل خفية و يسافر إلي شمال الوادي, لإعتقاد الأهل في خطورة هذا السفر البعيد. جدي عبدالله خالد , شقيق جدتي لأبي , فاطمة بت خالد علي مدني سوار الدهب , و قد سموا عليه أحد أشقائي الكبار, سافر إلي مصر مع العرب عن طريق درب الأربعين , في عام 1913م, و منها سافر إلي الإسكندرية. و من الإسكندرية, سافر إلي الشام عن طريق الباخرة. لم يعد جدي هذا , إذ مات و دفن هناك. و قليل من السودانيين, سافر إلي مهاجر بعيدة, و منهم عمال البواخر من سكان شمال السودان. كانوا سرعان ما يعودون إلي مسقط رأسهم, إذ يشدهم هذا المجتمع النيلي المتكافل. و رغم إرتباط السودانيين بالنيل , إلا أن أنهم كانوا يغامرون إذا أرادوا سفراً, يتكبدون المشاق و يتحملون الصعاب. سافر أهلنا من دنقلا علي ظهور الحمير, في أواخر العشرينات من القرن العشرين , إلي الجزيرة , حيث عملوا في إنشاء مشروع الجزيرة. و منهم عمي موسي إدريس موسي ( 12- 1989م ). و قد عمل لمدة ثلاثة سنين و عاد ليسافر مرة أخري , إلي مصر علي ظهور الإبل عبر درب الأربعين في عام 1939م. عمل عمي موسي في البوليس ( 39- 1950م ) . عاد بعد ذلك و إستقر في بلده و له معاش يجري. عمل موسي إدريس في القاهرة و في سيناء و في قطاع غزة و في مركز عنيبة بجنوب مصر و في العلمين, غرب إسكندرية, حيث دارت المعركة الشهيرة في الحرب العالمية الثانية. تمثلت مهمتهم كرجال بوليس, في معركة العلمين, في قطع أسلاك التيلفونات و قلع أعمدتها لتمويه الطريق علي الجيش الغازي و القادم من جهة الغرب, في طريقه إلي الشرق. كانت معركة العلمين , هي المعركة الفاصلة في الحرب العالمية الثانية, إذ كبدت قوات الحلفاء, بقيادة القائد الإنجليزي, مونتجميري, خسائر فادحة لقوات المحور و كانت تحت قيادة القائد الألماني, روميل, ثعلب الصحراء. لقد كسرت شوكتهم و أوقفت تمددهم شرقاً. هذا مثال للسودانيين, الذين يدعي البعض أنهم كسالي. و لكن الكسل, هو كسل العقول و الفهوم التي لا تقرأ التاريخ لتقف علي الحقيقة , فقط تكتفي بالمظاهر الزائفة, و هذه مصيبة. و في خلال الثلاثين سنة الأخيرة, حدثت تحولات إقتصادية و إجتماعية و ثقافية و سياسية, ألقت بظلالها علي مجمل الأوضاع المعاشة. و من ذلك سهولة وسائل الإتصال بين أرجاء المعمورة و تدفق النفط في منطقة الخليج العربي. كان أن بدأ السودانيون في الهجرة إلي حيث الثروة التي تفجرت و إلي حيث الدخل المرتفع, مثل غيرهم من أبناء الشعوب الأخري. عمل السودانيون في هذه الدول, لسنين طويلة, بل أصبحت هذه الدول لبعضهم بمثابة وطن ثان, إذ ولدوا أبناءهم و نشأوهم و تعلموا و توظفوا و نشأ جيل ثاني للمغتربين. لقد عمل السودانيون بكل إخلاص و تفان في هذه الدول التي إستقطبتهم و أرسوا سمعة حسنة لبلدهم, صارت مضرب المثل لغيرهم, بل صاروا قدوة لغيرهم في السلوك الحسن. و هذا هو حال السودانيين أينما حلوا. لكن بطبيعة الحال, لا تخلو الحياة من بعض المنغصات و المضايقات هنا و هناك. من هذا, هذا السخف الذي يدعيه البعض و يردده عن كسل السودانيين. لا أدري لماذا يحمل البعض منا, هذا القول أكثر مما يحتمل. هذه فرية يدعيها الجهلاء و سخفاء العقول و كل من به عيب, يعمل علي إسقاطه علي غيره. و قديماً قال الشاعر : و أجرأ من رأيت بظهر غيب ××× علي عيب الرجال ذوي العيوب هذا حالهم في كل زمان و مكان, فلماذا نلتفت إليهم و نهتم بهذا السخف, الذي لا يشبه إلا قائليه؟ السودانيون, مثل غيرهم من الشعوب, لهم حسناتهم, مثلما لهم عيوبهم. علينا أن نعترف بهذه الحقيقة. أي لا ينبغي لنا أن نعمل علي تضخيم ذاتنا و لا أن نفقد الثقة في نفوسنا, لدرجة أن نصدق هذه الفرية و ننهزم نفسياً و ننكص علي أعقابنا. علينا أن نعمل بجد لكي نثبت وجودنا, وسط هذه الأعداد الهائلة من البشر, التي أتت من كل فج عميق, ليشهدوا منافع لهم و لينافسوا في سوق العمل و لكل سلاحه. بعضه نظيف و بعضه قذر, مثل هذا السخف الذي يصفون به غيرهم. و معلوم أن السودانيين, يتعاملون مع غيرهم, تعاملاً راقياً, يخلو من الدسائس و العبط الذي يمارسه آخرين, من ضعاف النفوس, كوسيلة للتكسب. علينا أن ننأي عن هذا السلوك المعيب, فهو لا يشبهنا. و قد قيل أن ثلاثة تؤنس المرء في غربته و هي : حسن الأدب و مجانبة الريب و النبل و الإخلاص في العمل. و إن كان هناك ما يؤخذ علي السودانيين, فهو إفتقاد بعضهم إلي الكياسة. و قد قيل أن المسلم فطن كيس. و في هذا قالت العرب حكم كثيرة, نقتبس منها: قالوا : نصف العقل مداراة الناس. و قالوا : إذا كنت في قوم, فاحلب في إنائهم. و قالوا : دارهم ما دمت في دارهم و جارهم مادمت في جوارهم و أرضهم ما دمت في أرضهم. و قالوا : إذا كنت في روما, تصرف كما يتصرف الرومان. و المثل لاتيني و صيغته When at Rome, do as the Romans do لا أقصد أن يعمد الناس إلي الملق و النفاق, كحال آخرين يهدرون عفتهم بمثل هذا السلوك. لكني أقصد أن نتوخي الكياسة في تعاملنا. هذا يسمونه في عالم اليوم, الديبلوماسية, و يدخل ضمن هذا, ضرورة إعتناؤنا بالمظهر , مثلما نهتم بالجوهر. قناعتي, أن السودانيون لا زالوا بخير و إن كانت هناك فئة, صارت تسلك سلوكاً لا يشبه سلوك السوداني الأصيل, لكنهم علي كل حال قلة لا تحسب. و قد قيل أن المعدن النفيس لا يصدأ و أن إبن الأصل ما يعيبش. ما يهمنا , هو أن نزرع الثقة في النفوس و أن نحلم بالغد الأفضل و أن ننأي عن هذه الدعوات الإنهزامية, التي تصدر من البعض. و فوق هذا و ذاك , ألا نلتفت إلي هذا السخف الذي يقال هنا و هناك, بل يتعين علينا , أن نثبت للآخرين أننا علي قدر التحدي و لا نقل عنهم شأناً. لقد خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية, مهزومة و مهيضة الجناح, بعد أن ضربت بالقنبلة الذرية في هيروشيما و نجازاكي. لكنها عقدت العزم علي رد الصاع, ليس بالقوة العسكرية, بل بالتفوق التكنولوجي و قد كان. لقد حدث نفس هذا الشئي لألمانيا و كانت قد خرجت من الحرب العالمية الثانية مهزومة و محطمة و إنقسمت بعد الحرب إلي دولتين. لكنها عقدت العزم علي إعادة البناء, فكان أن إستفادت من مشروع مارشال, الذي قدمته الولاياتالمتحدةالأمريكية لإعادة إعمار أوربا و لمواجهة المد الشيوعي. هاهي ألمانيا قد حطمت سور برلين و توحدت مرة أخري و صارت قوة عظمي, تتطلع إلي زعامة الإتحاد الأوربي. الآخرون, بشر مثلنا, لهم حسناتهم مثل ما لهم عيوب. أرني إنساناً كاملاً ( سوبرمان ) , كما بحث و تحدث الفيلسوف نيتشة عن هذا السوبرمان, لكن لم يجده علي أرض الواقع. لقد إقتضت حكمته تعالي, أن يقصر الخلق عن الكمال, فيكمل بعضهم بعضاً, كما قال الشاعر : الناس للناس من بدو و حاضرة ××× بعض لبعض و إن لم يشعروا خدم إذن لماذا تسخر من الآخرين يا هذا ؟ ألم ينهاك ربك عن السخرية من الناس؟ لماذا تتعالي علي خلق الله يا هذا؟ ألم تخلق من طينة الخبال؟ ألن يأكلك الدود بعد موتك؟ ليتهم يتفكرون... ليتهم يعقلون. الرياض / السعودية