تراسيم.. رشوة في وضح النهار!! عبد الباقي الظافر في منتصف التسعينيات كنا ثلة من الأصدقاء نسكن في بيت (عزابة) بأركويت.. صديقنا الصغير جاء ذات مساء غاضباً يلعن الظروف التي جعلته يأوي إلى هذه المدينة الظالم أهلها.. الصديق في طريق عودته ركب شاحنة نصف نقل تعرف اصطلاحا بالدفار.. في نصف الطريق فوجئ بسيدة مترفة تدس بين يديه عملة معدنية.. احتار صديقنا وظنّ أنّ جيبه الخاوي بدأ يمطر نقوداً.. السيدة المترفة رأت استغراب الشاب وسألته بعفوية \"سجمي إنت ماك الكمساري\".. وقبل أن يرد كانت السيدة ترسل تعبيراً لاذعاً \" الله عالم ياولدي إنت تشبهو\". خالجني شعور صديقي الذي يشبه الكمساري وموظف الحج والعمرة يلقي بين يدي رشوة.. أصبت بالدهشة والرجل يضع حزمة الأوراق النقدية بهدوء على المنضدة وينصرف.. كان ذاك الرجل يبدو أنه يمارس فعلا اعتاد عليه واتقنه وأجاده.. عبارته التي ختم اللقاء بها كانت تشير إلى أنهم تحت الطلب لمزيد من الرشاوي. لم تكن تلك المرة الأولى التي اتعرض فيها لمثل هذه المحنة.. في مثل هذا الوقت من العام الماضي كان مسئولا في وزارة الصحة يحمل مظروفاً مالياً لشخصي الضعيف.. المسئول الإعلامي أبلغني أنّ وكيل وزارة الصحة يشكرني على حسن تناولي لقضايا وزارته.. بعدها ببساطة رمي بين يدي رشوة مالية.. كل ما فعلته وقتها أنني أخذته للسيد رئيس تحرير هذه الصحيفة ليشرح له سياسة مؤسستنا في تلقي الهدايا. أمس الأول كتب الأستاذ العبيد أحمد مروح الذي يرتدي قبعتين ناطقا باسم الخارجية وأمينا لمجلس الصحافة مقالاً مهماً.. مروح اتهم الصحافة بالابتزاز.. وقال الخبير الإعلامي إنّ صحفنا بدأت تخصص زوايا خاصة للنصب والاحتيال.. يدفع الباحثون عن الشهرة من أجل أن ترى حواراتهم النور.. المواد التسجيلية تتحول إلى تحريرية بقدرة دافع. ذات خلاصات المروح كانت قد خرجت من فم وزير الزراعة عبد الحليم المتعافي في حوار منشور بالزميلة السوداني.. المتعافي أشار لفساد بعض الصحف وقال \" أنا فاهمهم وهم فاهميني\".. فيما كان سياسي إنقاذي راحل واضح العبارة حينما وصف الصحافة السودانية بالعهر.. وتصدى له الزميل ضياء الدين بلال بكل بسالة.. وقاطعت الزميلة الرأي العام (وقت ذاك) أخبار هذا السياسي. من اليسير أن نتهم الساسة بالفساد وشراء الذمم.. ولكن من المؤكد أنّ هذه العملية وجدت أرضاً خصبة في صحافتنا.. كثير من عمليات شراء الذمم تأتي مغلفة مع الإعلانات والإكراميات.. وأنّ التحييد السياسي يمارس بأكثر من وسيلة .. من لم يرهبه سيف السلطان أغراه ذهب المعز. اعتقد أنّ قضية الرشوة التي قدمت لصحيفتنا لتغيير مجرى التحقيق الصحفي الخاص بالحج والعمرة يجب ألا تمر مرور الكرام.. على مجلس الصحافة واتحاد الصحفيين وجموع منتسبي المهنة أن يدلو برأيهم واضحاً في هذا الاختراق. السلطة الرابعة الآن تمثل أملاً ومتنفساً لجموع المقهورين.. علينا إحكام إغلاق الثغرات التي يلج من بينها الفاسدون. التيار