زاوية حادة محاذير وجود الوالدين خارج «الشبكة» جعفر عباس ليت جميع الآباء والأمهات يتوقفون عند تقرير اليونيسيف الأخير حول علاقة الأطفال بالوالدين، وجاء نتيجة استطلاعات رأي شمل عشرات الآلاف من الأطفال في بلدان مختلفة، وكان رأي الغالبية العظمى من الأطفال أنهم يعتبرون الحياة العائلية (أو فقدانها) أهم ما يشغل بالهم، وأنهم يعتبرون التواصل مع الوالدين أكبر متعة في حياتهم، ولكن نحو 65% شكوا من حرمانهم من العلاقات الحميمة مع الوالدين، وقد اقتصرت الاستطلاعات على عيال أوربا، ولكن نتائجها تهمنا في السودان بقدر ما تهم الأوربيين وربما «أكثر»، ومن واقع مخالطة أناس من نحو 60 بلدا مختلفا على مدى أكثر من 30 سنة في منطقة الخليج، واكتساب صداقات مع مواطنين من كل الدول العربية (ما عدا جزر القمر لأسباب لغوية!!)، فقد سمعت منهم مئات المرات بأن ما يميزنا نحن السودانيين عن سائر العرب هو أننا متكافلون ومتراحمون.. نعم يؤلفون النكات عن «كسلنا»، وبنفس القدر يؤلفون نكاتا أكثر قسوة عن أنفسهم وقبائلهم وأهل مدنهم المختلفة، ولكنهم يكررون بصدق أنهم «يحسدون» السودانيين على ترابطهم الاجتماعي.. وسمعت في قطر من حفاري القبور كيف أنهم «يخلصون» في غسل وتكفين الموتى السودانيين، لأن مواكب المشيعين تعطي الانطباع بأن كل سوداني يموت «غالي»، ومن الممرضات كيف أنه «يستحيل» أن يتقيد السودانيون بمواعيد زيارة المرضى في المستشفيات وأنهن يحرصن على تخصيص سرير للمريض السوداني في غرفة «غير مرشحة للامتلاء»، كي يكون هناك متسع للعشرات الذين يزورونه، وحكى لي صديقي القطري غانم الحبابي وهو بدوي ابن بدوي أنه بنى بيتا جميلا، في ضاحية جديدة في الدوحة وأبلغ أهل بيته بموعد الرحيل من حي «اللقطة»، فكان الرد بالإجماع: لن نرحل لأننا سنكون بعيدين عن جيراننا السودانيين. ربما كانت أكبر «حسنة» للاغتراب هي أن أفراد كل أسرة يكونون شديدي الترابط، ففي كثير من الأحياء في دول الخليج، لا يوجد تواصل بين الجيران لأن كل واحد من «بلد» ويرطن بلغته الخاصة نكاية بالأستاذ حسين خوجلي، ومن ثم فإن كل أسرة تتحول إلى خلية متماسكة، ولكن من مساوئ تلك «الحسنة»، أن الكثير من عيال المغتربين لا يقبلون الآخر بسهولة، فلكل عائلة مغتربة شبكة عائلات محددة تتواصل معها بانتظام، ولا تتاح لعيالنا فرصة المداقشة والمعافرة التي تعزز الحس الاجتماعي كما هو حال نظرائهم الذين ينشأون داخل الوطن، ولكن ورغم ان عمل المغترب ينتهي في مواعيد معلومة، تتيح له التواجد في البيت لساعات معلومة، إلا أن حال اقتصاد الوطن المائل أصاب معظم المغتربين بال»زلعة» فصاروا مثل أهل الداخل يحاربون في أكثر من جبهة لزيادة مواردهم المالية. وما يحيرني هو لماذا وفجأة صار لزاما على الموظف او العامل السوداني الحكومي أن يقضي 12 ساعة على الأقل خارج البيت، باسم «العمل»، بينما دولاب العمل متوقف أو مفرمل؟ واختفت تبعا لذلك حتى الوجبات العائلية المشتركة، والأخطر من كل هذا هو أن اللهاث وراء لقمة العيش أدى إلى غياب الوالدين عن حياة العيال اليومية، وتسلل مهند وصويحباته التركيات الى بيوتنا مع أصدقاء فيسبوك والموبايل الافتراضيين، ولم يكن جيلنا محظوظا فقط لأن الوالدين كانوا يقضون معظم الوقت معنا في البيوت، ولكن لأن جميع الكبار في الحي كانوا أعمامنا وخالاتنا وعماتنا، يعاقبوننا و»يحجونا» فنشأنا مشبعين بتراث ثقافي شفاهي، ولم يكن لآبائنا وأمهاتنا أي دور في أمور التحصيل المدرسي، لأن المدرسة كانت تقوم بذلك الدور بالكامل من خلال دروس العصر والتقوية ل»وجه الله».. وكأب وصاحب خبرة طيبة في مجال التدريس أقول إنه مهما كحيت وطفحت الدم لتدخل عيالك في «أرقى» المدارس، فإنهم سيطلعون كيت ما لم يجدوا من يدرسهم في البيت.. من أفراد الأسرة، وليس عن طريق المدرس الخصوصي، فهذا النوع من المدرس يذكرني بمقولة للملكة فيكتوريا التي زارت الهند واستمتعت بالأكل باليدين وقالت إن استخدام الشوكة والسكين لتناول الطعام كالحب عن طريق طرف ثالث.. وطالما في البيت «متعلمون» فلا تجعل المدرس الخصوصي يدخل بينكم والعيال... واللهم يسِّر أمورنا حتى نملك الوقت لنخصصه لتربية صغارنا ورعاية كبارنا. الرأي العام