جمهورية الخرطوم الولائية..حيث تؤخذ الدنيا غلابا ..! محمد عبد الله برقاوي [email protected] في. النصف الاول من سبعينيات القرن الماضي وانا أخطو حديثا وقتها في طريق الصحافة الطويل والشاق .. كنت في أحد الايام قادما من الصحيفة مع استاذي الراحل ..رحمي محمد سليمان.. في سيارته العتيقة بغرض انزالي عند المحطة المركزية بميدان الاممالمتحدة الذي كان وقتها مكانا لتجمع ربما تسعين في المائة من مواصلات العاصمة المثلثة التي تتوزع منه في كل الاتجاهات .. وقد لاحظ استاذي رحمي ان بضعة مئات من الناس يتجمهرون في انتظار الحافلات وكان الوقت يعتبر الذروة عند انتهاء ساعات العمل الرسمية ما بعد الثانية ظهرا في ذلك الزمان. فقال لي . كيف ستجد لك مكانا في حافلة وسط هذا الزحف البشري ..قلت له .. الامر عادي ..ففي اقل من نصف ساعة ستبتلع حافلات المؤسسة الضخمة ..وباصات ابو رجيلة الفسيحة كل هذه الاعداد.. فعلق ضاحكا بسخريته المعهودة ..قائلا .. الان فقط ادركت ..ماذا كان يقصد الشاعر ..حينما قال ..! ( وما نيل المطالب بالتمني ..ولكن تؤخذ الدنيا غلابا..!) سألته مستغربا ..وماذا فهمت يا أستاذ من قصدالشاعر.؟ قال لي وهو يهم بتحريك سيارته ..أكيد كان يقصد مكابدة الناس لمواصلات العاصمة السودانية ! كان ذلك في زمن الخرطوم القديمة والتي لم تترهل اطرافها في كل اتجاه حتي كادت ان تقضم جانبا من مساحات جاراتها من الولايات حولها..و لم تدخلها الاف الحافلات المتهالكة الي شوارعها ولم تكن تعرف الدفارات ولم يكن الاختراع المتخلف المسمي بالركشة قد لصُق في وجهها كالذباب.! وكانت صفوف سيارات الاجرة الصفراء الانيقة تقف منتظمة في صفوف وهي تلمع من فرط النظافة تنتظر زبائنها طول النهار واثناء ليل المدن الساهرة والحالمة لتشق بهم طرقا كانت بسمة الزهور فيها من ملامح عاصمة ذلك العصر... ولم يصل تعداد الخرطوم المختلف عليه الي حاجز العشرة ملايين ربما....فماذا كان الاستاذ رحمي سيتذكر من ابيات شعر المشقة والمعاناة بعد ان اصبح في كل طرف من نواحي العاصمة المختلفة موقفا للمواصلات يفوق موقف المحطة المركزية السابق بأكثر من العشرة اضعاف...فلو كان عائشا عليه الرحمة حتي هذا العهد الذي اصبحت فيه العاصمة المثلثة متخطية حجم الولاية ..فصارت جمهورية بحالها..تكدس فيها وفي تخومها المحسوبة عليها ثلث سكان السودان .. هربا من الحروب والمجاعات والتهميش وتراجع ماكان فيها من يسير التنمية الزراعية والرعوية .والصناعية....لأنشد استاذي رحمي تحسرا علي الماضي الفسيح .. معلقة شاعرنا المعاصر في وصف الانفجار السكاني الذي زلزل اركان عاصمتنا و التي يقول مطلعها ( قنبلة .. قنبلة ) بالطبع لا أحد ينكر حق المواطن في التنقل والسكن والعمل في اي جزء من وطنه....الا ان ذلك حينما يحدث في البلاد الاخري فانه يبني علي الخطط المدروسة التي توفر الخدمات اللازمة لتواجد الناس وفقا للتوسع الذي يطرأ ويتنامي عموديا وافقيا.. تبعا للظروف والمستجدات التي يتم مراجعتها من وقت لاخر..وهو أمر من الواضح انه يتم التعاطي معه عندنا بعد ان يقع الفاس فوق الرأس وليس من قبيل التحوطات القبلية التي تسبق المشكلة ، فتتم المعالجات هنا دائما كما يبدوعلي طريقة ( كان غلبك سدها ..وسع قدها) .. مما أدي الي تفاقم المشكلات وعجز سلطات العاصمة عن مواكبة هذا الانفتاح السكاني علي مساحاتها .. وخدماتها التي صممت لتواكب اقل من ثلث البشر الذين يتزاحمون عليها بعشوائية تستعصي علي الخطط التي تسعي حكومة الولاية في رسمها تلمسا للحلول المتمثلة في توفير الصحة والمياه والكهرباء والمواصلات وعيشة الذل والمهانة.. ومقاعد الدراسة ..هذا فضلا عن الخطة الاسكانية ذاتها وبقية البنى التحتية اللازمة.. وتوفير الوظائف للالاف من الخريجين والخريجات العطالي الذين يفترشون الشهادات في حدائق حبيبي مفلس لسنوات ..فاشتكى من طول جلوسهم وعقم أنسهم وتكالب ياسهم حتي عشب تلك المتنزهات! وهنا يتجلى معني البيت الذي انشده استاذي ..بان الدول على شاكلة جمهورية الخرطوم الولائية لا تدار بالتمني وانما بالمهنية والتخصص العالي والفهم والوعى الاداري والسياسي والحس الوطني الذي يجعل المسئول يتعاطى مع المواطنيين كبشر وعقول ..لا كقطيع من الأنعام يحشرهم في زريبة تخبطه ..يأكلون مما يزرع في مساحات خياله الشاطح ويلبسون مما يصنع في دواخل نفسه المستهزئة والساخرة من سذاجتهم وطول صبرهم الذي يفسره بانه الرضاء كله من حسن قيادته ، فيملؤه ذلك الاحساس غرورا ، وما على الناقمين الا لحسة الكوع لسد الرمق في دنيا أصبحت حقيقة في وطننا كله تؤخذ غلابا ! والله المستعان .. وهو من وراء القصد