[email protected] لا يستطيع أحد المتسوّلين الإجابة على سؤال حول متى سيقلع عن عادة التسوّل إذ ليس لهذه الوظيفة، إن صح التعبير، عمر يحيل المضطر إليها على التقاعد أو الإقرار بالاكتفاء طالما ظل النفس يعلو ويهبط. في أحيان كثيرة يفوق إيراد المتسوّل اليومي تكلفة إنفاقه على ملء بطنه وربما إشباع ذاته بمتطلبات الكيف، لو كان ذلك الدافع0 وقد سمعنا بأن هناك من ابتنى منزلاً واكتنز من المال أرقاماً لا تتوفر داخل جيوب بعض المحسنين ثم رحل عن الفانية وترك صفائح ممتلئة بنقود فقدت قانونيتها جراء عمليات التبديل المتعددة0 ولأن التسول لا يحتاج إلى مؤهلات سوى مد اليد وتجليد الوجه وانتقاء عبارات التوسل وإرهاق الجسد في التنقل بين المحسنين، فإن الذين يمارسونه لا يعرفون وقتاً للراحة أو قدراً من القناعة. كان أفضل الأماكن التي يتجمع حولها المحتاجون هي المساجد والأسواق، أما في أيامنا هذه فقد انتشر المتسوّلون في مختلف الأماكن المكتظة بالمارة وعند الإشارات ودواوين الحكومة بما فيها ديوان المعاشات، على قلتها بالنسبة للمستحقين0 كما نلاحظ أن أغلبهم وافدون ظهروا فجأة ودخلوا هذه المهنة من أوسع أبوابها. وقد تجد بينهم المعوق والعاجز إلى جانب الممتلئ صحة وعافية بينما هناك المنقبة أو التي تحمل مولوداً وتدفع بأطفال أبرياء لمد اليد للاستعطاف. وأذكر قبل عشرات السنين كانت بمحطة أم درمان الوسطى امرأة عمياء تحفظ عن ظهر قلب سورة يوسف وتقوم بتلاوتها بصوت جميل ومؤثر لا يملك المرء إزاءه إلا أن يجود عليها بشيء، وحتى العجزة كانوا يرددون عبارات الالتماس مشفوعة بالدعوات الصالحات لنا مما يحفزنا للدفع، ولكن في هذه الأيام نكاد لا نسمع من المتسوّلين إلا تمتمة وهمهمة لا ندرك كنهها عما إذا كانت مدحاً عند التلقي أم قدحاً عند الإشاحة لأن أغلب الذين يتسوّلون ليسوا من (الناطقين بها). أحيانا يأسرك المتسوّل برواية محكمة البيان ومدعومة بمستندات طبية أو من جهة تشهد له بما يدفعه للتسوّل0 ومن عجب أن بعضهم يحمل وثائق من جهات أنشئت خصيصاً لمساعدة المحتاجين فلماذا لا تمنحهم العون بدلاً من تحرير وثيقة حافزة0 استوقفني أحدهم ذات مرة وهو معافى من كل عيب وطلب مبلغ (أحد عشر جنيهاً) قال إنها تنقصه لكي يبتاع دواءاً ويترحل إلى أهله0 قلت في نفسي إن قائل هذا الرقم دقيق في روايته فلم أتردد في عونه بقدر قلص الفارق كثيراً، إلا أنه ذهب بعدي لآخر وطلب ذات المبلغ فأعطاه وربما سيذهب لآخرين غيرنا، فإذا صدّق الجميع قوله سيحقق إيرادا يحسد عليه0 ولأنني تعودت على ارتياد ذات المكان الذي قابلني فيه وجدته في يوم آخر يسألني ذات المبلغ فحدجته بنظرة الكاشف لسر لعبته، فما كان منه إلا أن أسرع الخطى بعيداً عني0 خففوا العبء عنا يا أهل الرعاية الاجتماعية والزكاة، وأعيدوا الغرباء يا من بيدكم ضبط الحدود ووضع القيود.