لماذا يكرهوننا؟ سؤال طواغيت العرب د. عبدالوهاب الأفندي في الروايات المتواترة أن أول كلمات للقذافي عندما أمسك به الثوار كانت التساؤل: ماذا في الأمر؟ قبل أن يضيف تساؤلاً آخر: ماذا فعلت في حقكم؟ قبل ذلك عبر حسني مبارك عن تألمه لما 'يقوله بعض المصريين' عنه، مضيفاً: 'إن مصر كلها تعرف من هو حسني مبارك'. ولا تني الجزيرة تذكرنا بدعواه أنه أفنى عمره في خدمة مصر والدفاع عن سيادتها، مستبطناً أن ذلك كان يستدعي من رعاياه العرفان والإجلال والتقدير، لا الشتم والقدح والمطالبة بالرحيل. بن علي أيضاً افتخر بأنه قضى العمر في خدمة تونس ومواطنيها، وهو ما كان يضمر أيضاً أنه يجب أن يكون مدعاة لخروج المظاهرات مطالبة باستمرار حكمه إلى الأبد. لا تختلف رؤية علي عبدالله صالح عن رفاقه، فهو يرى أن الشعب انتخبه، وهو متيم بحبه، ويتحدى معارضيه أن ينازلوه في حلبة الانتخابات الحرة حتى يروا عمق محبة الشعب اليمني لرئيسه المحترم المحبوب (كما كانت تقول الإعلانات مدفوعة الأجر لصالح الزعيم الكوري الشمالي كيم إيل سونغ). أما بشار الأسد فقد بز أقرانه، لأنه وأنصاره زعموا أن الأرض والسماء معاً متيمان بحب بشار. فقد ظهر قبل أيام شيخ معمم ليبلغنا أنه سمع الملائكة تنادي أن يا بشار أن الله يحبك، والملائكة تحبك وشعبك يحبك. ولا علم لنا بكيفية مخاطبة الملائكة لذاك الشيخ الذي مرد على النفاق، لأنه بحسب علمنا فإن الوحي قد انقطع بعد انتقال آخر الأنبياء عليه أفضل صلوات الله وسلامه إلى الرفيق الأعلى. الذي نعلمه هو أن الملائكة لا تكذب، ولو اكتفى الشيخ بالقول بأنه سمع الملائكة تنادي بحب الله وملائكته للأسد، لما جادلناه، لأن علم ذلك عند الله تعالى. ولكن ما نجزم به هو أن الشعب السوري لا يحب بشاراً، وعليه فإن هذا افتراء على الله وملائكته لا جدال فيه. مهما يكن، فما هي حاجة بشار لحب الله والملائكة أو الشعب، وهو كما سمعنا مراراً من أنصاره الإله الأوحد الذي لا يشاركه في ألوهيته مشارك؟ إلا إذا كان المقصود أن بشار الإله يحب نفسه. وعندها يمكن أن نصدق الشيخ إذا كان يقصد أن إلهه بشاراً و'ملائكته' من الشبيحة يحبون الدكتاتور المجرم. ولكن رغم هذا يبقى أن الشعب لا يشاركهم هذا التوله. ولكن السؤال هو: هو هل حقاً إن الأسد يصدق هذا الهراء؟ هل يعتقد حقاً أن السوريين يهيمون بحبه؟ وهل كان القذافي فعلاً يجهل ما الذي جناه بحق الثوار الذين طاردوه من جحر إلى جحر؟ هل كان مبارك فعلاً يعتقد أن الشعب المصري غارق في محبته؟ وبن علي كذلك؟ يذكرني هذا بتساؤل الأمريكيين بعد أحداث الحادي عشر من ايلول/سبتمبر: لماذا يكرهوننا؟ ثم خروجهم بإجابة أن السبب هو ديمقراطيتهم وما تتمتع به بلادهم من حريات وتقدم ورفعة جعلت بقية العالمين يموتون حسداً. ويبدو أن الحكام العرب الهالكين ومن هم في الطريق يفكرون بنفس الطريقة، ولا يرون سبباً يبرر انصراف البعض (قلة بلا شك) عن محبتهم إلا لعلة في نفوس هؤلاء المارقين من 'الجرذان' أو 'الكلاب الضالة'، أو المتطرفين من أنصار القاعدة، أو عملاء الغرب وإيران وغيرها من قوى الشر. ربما يظهر من هذا التضارب في الأقوال أن هناك إشكالاً وعدم ثقة من الطغاة وأنصارهم فيما يدعون. ولكن الأفعال هي التي تكذب الأقوال أكثر من تناقضات الأقوال. فالدعوى بأن مخالفي النظام قلة تكذبه الإجراءات المتشددة التي تتبعها السلطات في التضييق على الأنفاس، ومراقبة الأبرياء والحجر على حرية التعبير والتجمع. فلو كان الأمر كما يقولون، لكان الأحرى أن يسمح للأمة بأن تعبر عن هيامها الصوفي بالحاكم. ولكنهم على الأقل لم يكونوا متأكدين. سؤال اليوم هو كيف أصبح شعور نفس أولئك الحكام وهم يرون الجماهير التي زعموا أنها لن تصبر على فراقهم؟ بالطبع هذا السؤال لا ينطبق على العقيد القذافي، لأن الفرصة لم تتح له ليرى حجم الاحتفالات التي عمت البلاد بعد أن ذاع نبأ مقتله. ولكن حتى القذافي شاهد مظاهر الفرح التي عمت بنغازي وبقية مدن الشرق بعد أن تخلصت من حكمه، وقد بذل كل ما في وسعه لإخماد الحرية والسعادة التي جلبتها. ويروي كثير ممن اعتقلتهم قوات القذافي أنهم كانوا مثل إخوانهم في سورية- يوسعون المعتقل ضرباً وهم يقولون: 'هل تريدون الحرية والديمقراطية؟ إذن فذوقوا منها شيئاًً!' وهذا يؤكد أن القذافي وأتباعه لم يكونوا من الغباء كما يظهر عليهم. فهم يعرفون أنهم قد استعبدوا الناس، ولكنهم يريدون ممارسة الإرهاب لإجبارهم على السجود والركوع، أيضاً كما يفعل إخوانهم في سورية المنكوبة. ماذا كان يعني حسني مبارك حين قال: 'إن مصر كلها تعرف من هو حسني مبارك'، بينما كان يشاهد أمام عينيه مصر كلها في الشارع تنادي برحيله؟ بعض أنصار مبارك وبشار وغيرهما كانوا في بادئ أمرهم يقولون في الإذاعات: لنفرض أن مليون شخص خرجوا محتجين ضد زعيمنا المحترم المحبوب، فهناك 79 مليون آخرون صامدون على حبه، ولكنهم معتكفون في بيوتهم يتعبدون أمام صورة الزعيم الأوحد. هذا لم يمنعهم من إرسال القناصة والدبابات لإخلاء القلة المزعومة من الشوارع، مع أنه لو كانوا بالفعل قلة لكان من الأولى تركهم حتى تفضحهم قلتهم، خاصة وأن أنصار الزعيم اجتهدوا في أكثر من مناسبة لحشد الأنصار في مظاهرات مضادة، أو على شكل 'بلطجية' يمارسون الإرهاب على سنة زعيمهم. ولكن لو وقف هؤلاء للحظة من بقي منهم على قيد الحياة على الأقل- عند مشاهد الفرح التي عمت الخلق لدى شيوع نبأ زوالهم أو تنحيهم أو هروبهم أو سجنهم، ألا يكون هذا مدعاة للتأمل في ما سببوه للخلق من ضيق وعنت؟ هل شاهد مبارك ما شاهدناه جميعاً في ميدان التحرير وفي طول مصر وعرضها، من مظاهر بهجة ورضا وفخر واعتزاز عندما أعلن تنحيه؟ هل شهد سيف القذافي وأخواه الهاربان ما عم كل مدن ليبيا لدى إذاعة نبأ مقتل أبيهم من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، من مظاهر سعادة غامرة وشعور بأن كابوساً قد انجلى عن صدورهم؟ بل هل شهد هؤلاء ما عم العالم كله من رضا، خاصة لدى حلفائهم السابقين في العواصمالغربية ممن كانوا يثقون بمحبتهم أكثر من ثقتهم بحب شعوبهم؟ كيف يصبح موت شخص أو اعتزاله المنصب سبباً لكل هذه الفرحة؟ هناك بالطبع جانب آخر للمسألة.فلا شك أن يوم العشرين من تشرين الاول/أكتوبر الجاري حمل مأساة مؤلمة لأسرة القذافي، وخاصة زوجته التي فقدت في يوم واحد زوجها وأحد أبنائها، بينما ابنها الآخر هارب والثالث مفقود. وهذا وضع إنساني يستدعي التعاطف مع الأسرة المكلومة. ولكن هذا التعاطف يتأثر بمجرد أن نسمع أن الأسرة قد اكتشفت فجأة وجود منظمات دولية لحقوق الإنسان طالبتها بفتح تحقيق في ظروف مقتل القذافي. ذلك أن القذافي ورجاله ظلوا حتى لحظاتهم الأخيرة يرتكبون فظائع لا حصر لها. فقد اكتشف الثوار وهم يقتحمون سرت جثث أكثر من مائتي أسير تم إعدامهم من قبل الكتائب، وذلك بعد تعرض الكثير منهم للتعذيب. وما أحداث طرابلس ببعيدة، وما كشفت عنه سجونها من كبائر، منها الاحتفاظ بالأسرى في حاويات وحرمانهم من الطعام والماء، ثم إعدامهم بالجملة وحرق الجثث وغير ذلك من أساليب لا إنسانية حتى بمقاييس القذافي وأسرته وأعوانه. وقد كان خميس القذافي شخصياً مسؤولاً عن فظائع طرابلس، كما كان القذافي وابنه الآخر مسؤولين عنه أيضاً. من هنا فإنه وإن كان من حق أسرة القذافي المطالبة بالتحقيق في مقتل الزعيم الراحل، ومن واجب السلطات الليبية أن تفتح ذلك التحقيق وتعرض من خالف القانون إلى المساءلة، فإن هذا الموقف من الأسرة يشير إلى استمرارها في سلوكها ومواقفها الإجرامية، لأنها لا ترى أن حقوق الإنسان تنطبق إلا عليها هي. فلم نسمع من قبل من أي من أسرة القذافي، بما فيها مؤسسة القذافي التي كان يرأسها ابنه سيف وكانت تدعي الاهتمام بحقوق الإنسان، أي طلب تحقيق في ممارسات النظام الإجرامية، وعلى رأسها مجزرة سجن أبو سليم التي فجرت الثورة. فهل حقوق الإنسان مقتصرة على آل القذافي دون غيرهم؟ هناك مفهوم مقلوب للقيم عند أنصار وقادة الأنظمة البائدة. على سبيل المثال، نرى في أثناء محاكمات حسني مبارك وابنيه مظاهر من قيم البر بالأب والحرص على حمايته من الكاميرات والاهتمام بصحته ومواساته في محنته من قبل علاء وجمال. وهذه بلا شك قيم إنسانية ودينية رفيعة الالتزام بها مدعاة للمدح. ولكن لا يمكن النظر إلى هذه الممارسة بمعزل عن استغلال نفس هؤلاء الأبناء لنفوذ الوالد للحصول على مزايا سياسية واقتصادية يعلمون أنها لم تكن لهم بحق، فوق مساهمتهم وأجهزتهم الأمنية والسياسية في تمزيق الأسر عبر الاعتقال والتعذيب والإفقار والاعتداء والتحرش الجنسي، أثناء في رابعة النهار كما حدث في حق الصحافيات والناشطات إبان المظاهرات، ناهيك عن خطف الأقارب لإجبار المطلوبين لتسليم أنفسهم. فهل يمكن أن تخفي ورقة توت البر بالوالد في ساعات محنته هذا العري الأخلاقي الكامل الذي ميز حياة آل مبارك وآل القذافي ومن معهم؟ إنه بالقطع من المؤلم، ومن الإشكالي أخلاقياً أن نشهد كل هذا الفرح بموت فرد أو سجنه أو طرده، ولكن لا أحد يلوم شعوب تلك البلاد التي عانت الويلات من هؤلاء الأشخاص أن تفرح بخلاصها منهم، كما لا يمكن أن يلام السوريون واليمنيون غداً حين يحتفلون بنهاية قادتهم المجرمين المحتومة. قبل أيام نشرت 'القدس العربي' أن زوجة بشار الأسد تعاملت ببرود حين سمعت من العاملين في الإسعاف يتعرضون للاستهداف وهم يؤدون عملهم، ولم تبد عليها أي دهشة لما سمعت. فهل سوف نسمع بعد ذلك منها شكوى وتظلما حين تحين تلك الساعة المنتظرة مقابل صمتها اليوم؟ وما يحمد للقيادة الليبية أنها ظلت منذ البداية تحذر من نزعات الانتقام، وتدعو للعفو والتسامح في حق من ساهموا في القمع، والاكتفاء بتقديم مرتكبي الكبائر منهم لمحاكمة عادلة. وكنا قد طالبنا من قبل مراراً بأن تنهج السلطات والقوى السياسية في البلدان العربية الأخرى منهج العفو عند المقدرة، خاصة وأن ما حدث في مصر وتونس مثلاً لا يقارب ما عانته ليبيا ولا ما تواجهه سورية اليوم من إجرام دموي. ولكن من جهة أخرى فإن من حق من ظلم أن يطالب بحقه، فقد جاء في القرآن فإن عاقبتم فعاقبوا بمثل عوقبتم به، ولكن جاء في نفس الآية 'ولئن صبرتم لهو خير للصابرين'. ' كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن القدس العربي