غداً الأزمة السودانية في تداعياتها الشمالية عبدالله أدم خاطر أخيراً تم فصل د.أحمد علي محمد عثمان العميد السابق لكلية التربية في جامعة وادي النيل من الخدمة الأكاديمية، على نحو أكثر إثارة للجدل وخارج إطار أي تصور موضوعي محتمل. كنت قد حكيت للقراء الأعزاء معاناة د.أحمد من منطلق الاعتقاد أن مستقبل البلاد يعتمد على استقرار التعليم بما في ذلك التعليم العالي والجامعي، والذي من بين عناصره توفير الاستقرار النفسي والأسري والأكاديمي للأستاذ الجامعي، فهو المواطن العالمي الذي توكل اليه تربية قادة المستقبل وإتاحة فرص التعليم المتخصص أمامهم. باختصار بدأت قصة د.أحمد أنه سافر قبل بضع سنوات في اجازته الخاصة للحصول على مزيد من فرص التدريب على البرامج في الكمبيوتر، وربما لخلفيات اجتماعية، اذ انه رئيس رابطة محلية تخدم مواطني نهر أتبرة بمن فيهم قبائل الكميلاب، تمت اعاقة جهوده في التدريس والبحث بالفصل الاداري المؤقت، ومن هناك بدأت معاناته. لقد بدأ المشوار بايضاحات ادارية، تحولت الى شكاوى ادارية وقضائية في مواجهة إدارة الجامعة، وفي كل مرة تنتصر له اجهزة العدل والقضاء الى أن وصلت قضيته أعلى درجات القضاء في المحكمة العليا، والتي انتصرت له أيضاً. عاد إلى عمله بحكم قضائي ولكن قبل أن تكتمل اجراءات استعادة استحقاقاته تم فصله مجدداً وبالكامل ولعل السبب في ذلك ان اسمه وقضيته الشخصية وردتا في احدى النشرات الاعلامية التي ظل يصدرها عمر كبوش الامين الإعلامي للرابطة، كنموذج في سياق عرض المظالم الفادحة التي تمارسها اجهزة الخدمة العامة في الشمال الجغرافي للبلاد دون مساءلة حقيقية من الأجهزة السياسية والادارية. الحق عندما تعرفت على د.أحمد في مرحلة سابقة، وقرأت طويلاً في أوراقه وجدت فيها بضمير الصحافة ظلماً فادحاً. كنت مناصراً قضيته، إحقاقاً للعدالة في دولة ورثت مسافات عريضة للمظالم العامة والخاصة. بعد ذلك تحدث اليّ تلفونياً مدير جامعة الامام المهدي حيث عملت مستشاراً إعلامياً له لبعض الوقت!. وذكر لي إمكانية تسوية تلك المشكلة بالاتصال بمدير جامعة وادي النيل، وزودني بأرقام تلفوناته، بيد اني لم أجد سبباً للاتصال لأني كنت أرى أن الظلم على د.أحمد كان بيناً، والحالة الوحيدة التي توجب علي المساهمة اذا أقرت ادارة الجامعة ?حق المتظلم، وذلك ما لم يحدث. مضت معارك أحمد في ميادين القضاء الإداري والجنائي وقلبي معه، وإذا ما رأت الجامعة اليوم مساهمتنا في (الصحافة) لتسوية النزاع ورد الحقوق فلن نتردد. على أن الخبر الجديد، ان عمر كبوش الذي كان محتملاً كصوت اعلامي قد تعرض هو نفسه للمضايقات الإدارية. لقد ظل كبوش يحث السلطات المحلية والمحافظة والولائية بأنشطة اعلامية مختلفة للتراجع عن التغول على أراضي الاهالي في نهر أتبرا، وتشجيعهم على تقديم الخدمات التنموية لهم، بالنقد والتوجيه والاتصال، من خلال نشرة إعلامية توزع على نطاق واسع وقد ظلت تصلني ضمن قائمة التوزيع. كنت ومازلت شديد الترحيب بالنشرة باعتبارها نموذجاً يمثل نقطة انطلاق لبناء إعلام إقليمي ناقد وبناء للضمير والمسؤولية معاً، كما كان الحال مع صحيفة كردفا? تحت إدارة الراحل المقيم الفاتح النور، واليوم فان الحاجة ماسة الى مثل هذا الإعلام المبادر في ظل التحول الى اللامركزية الفيدرالية، والتنمية المحلية خاصة، والديمقراطية القابلة للاستدامة. حكي لي كبوش بالتلفون من الدامر، أنه وفي حوالى الساعة التاسعة والنصف صباح الثاني عشر من ديسمبر الجاري، وهو يتجول في نواحي وزارة الثروة الحيوانية بعاصمة ولاية نهر النيل الدامر، إقتادته شرطة الطوارئ كظنه، وتحت مرأى ومسمع الجميع من الحضور وبعضهم وزراء، اقتادوه الى أمانة الحكومة وتمت محاصرته بالأسئلة والتهديد في غرفة صغيرة على خلفية إصداره نشرة تنتقد السلوك الإداري للوالي وحكومته بشأن قضايا عامة، ولم يتم الافراج عنه الا بعد وقت وبعد تدخل أحد حكماء الشرطة، الذي أفاد زملاءه أن ما يقومون به اجراءات غير مشروعة قانو?اً، وانهم ليسوا أصحاب اختصاص فيما يقومون من اجراءات، فيما اتصل كبوش لاحقاً بمحاميه المحلي ليرفع عنه قضية في مواجهة الجهات التي تسببت في أذاه نفسياً واجتماعياً وسياسياً دون مسوغ قانوني. إن قضية أراضي نهر أتبرا التي جعلت كبوش ورابطته الاجتماعية رأس الرمح للدفاع عنها في مواجهة تعديات منهجية خارج الأطر القانونية لصالح شركات وأفراد لا ارتباط لهم بالمنطقة، هي قضية أثارت جدالات واسعة في الشمال أيضاً، وليس آخرها قضية المناصير الذين نظموا احتجاجاً سلمياً، وطوروه الى اعتصام انتقلوا به الى العاصمة الدامر، على نهج الثورات العربية خاصة اعتصام التحرير المصرية، ثم أخذت طلائعهم تصل الى الخرطوم (محل الرئيس بنوم)، وهي مجتمعة قضايا تمثل مخاطر حقيقية على المدى البعيد، خاصة إذا ما اعتبرنا ما حدث من تداعيات ف? مناطق أخرى في البلاد بما في ذلك دارفور. لعل مما ضاعف كارثية النموذج الدارفوري، ان عناصر في المؤتمر الوطني لم تكن تدرك العواقب، رأت ان الخريطة السياسية في البلاد يمكن ان تتغير بأساس تغيير ملكية الأرض، واستحداث حالة جديدة للمواطنة وقد بدأت في مناطق مختلفة في السودان، ولكنها ركزت في أوقات ما، في الأراضي التي تمثل حواكير قبائل من بينها الفور في وحول جبل مرة. اشعل المؤتمر الوطني نيراناً بدأت صغيرة، وبدا انه يمكن السيطرة عليها بهدف اجلاء المواطنين من مناطق سكنهم وزراعتهم، وذلك بالحرق والاعتداء والافقار المنظم، لكن الأمر لم ينته الى مصادرة الأرض كما كا? يشتهي المؤتمر الوطني، بل اشتعلت الحروب والنزاعات المسلحة والتي كلفت العالم بكل دوله وشعوبه وقدراته الدبلوماسية والمالية والاعلامية والقانونية جهداً كبيراً للمساهمة في تسويتها، وما نحن فيه اليوم من تجربة الحل بوثيقة الدوحة الا بداية في طريق طويل لتسوية وانهاء النزاع لصالح أهل الدار وأصحاب الحقوق غير القابلة للتصرف. ما بال المؤتمر الوطني يكرر ذات التجارب الكارثية في كل البلاد؟ ان ما يحدث بالشمال في مناطق الكميلاب والمناصير وأمري وغيرها، ما هي الا نماذج محتملة لنزاعات ليس بالوسع تجاوزها بقمع ممثليها أو ارهاب?م أياً كانت الوسائل. ربما لا يدري كثيرون أن تداعيات الأزمة في دارفور بدأت صغيرة و(مقدور عليها). ذات مرة سألت عمي المرحوم محمد خاطر وقد تجاوز الثمانين من السنين، سألته عن طبيعة النزاع المبكر في مناطق الفور في الثمانينيات، تبسم وقد بدأ اجابته بالقول: ان كثيرين يظنون أن الفور (ناس مساكين) ولكن ليس ذلك أمراً صحيحاً. ان القبائل الأخرى تستفيد من منتجاتهم وجهودهم بمقابل جد ضعيف، وأولئك لا يدرون فلسفة الفور في ذلك رغم بساطتها ووضوحها. يعرف الفور ان الآخرين انما يساهمون بجهدهم في تعمير ارضهم بالخير، لذا بوسعهم التنازل بما يحفظ معادلة ا?احتفاظ بالارض وشراكة الآخرين لهم في المنافع، وهي الصيغة التاريخية والقانونية الموروثة. عندما بدأ ذلك الميزان في الاختلال لغير صالح الموروث، بدأ الفور المسالمون يبيعون ما يمتلكون لشراء الأسلحة وتطوير القدرات وبناء التحالفات لأجل الحفاظ على الأرض أولاً رمز الحياة والاستثمار، وهذا الاتجاه شأن سوداني خالص وفي كل الأرجاء، وفي ذلك فان مناطق الشمال ليست استثناءً. عندما برزت قضية المناصير على السطح، جرت حوارات مختلفة تعرف فيها الشعب السوداني، ان المناصير ليس وحدهم كمجموعة وربما ليسوا أقلية، إذ أن لهم امتدادات خاصة في غرب السودان، انهم يعرفون ب (المناصرة) في كردفان منطقة النهود خاصة، فيما يعرفون ب (بني منصور) في دارفور منطقة الملم شرقي جبل مرة، وبعض رموزهم الأهلية قضى عليهم الجنجويد في قمة النزاع المسلح بدارفور. هكذا ان تطويل حل الازمة لن يكون في صالح الذين اعتقدوا انهم بالوسع ابتلاع حقوق الآخرين والاستثمار فيها بما في ذلك حقوق المناصير والمجموعات الشمالية الأخرى ب?ياسات المركزية البغيضة التي ظلت تعتمد سياسات (فرق تسد)). إن العبرة في كل ذلك، ان ازمة دارفور عندما بدأت، ما كان احد يحدث نفسه بأن تطول، ولكن قادة المؤتمر الوطني كانوا يبالغون في قدرتهم على انهاء الحالة التي اسموها (الطنين) في بعض أدبياتهم، بسرعة فائقة، ولعل د.نافع علي نافع ضمن من يذكرون ذلك تماما. لقد سئل في جامعة شندي مع بداية الأزمة لدارفور عما يمكن عمله؟ كانت اجابته حادة ومحددة انهم سيقضون على ما حدث خلال ثلاثة اسابيع تقل ولا تزيد على سبيل الاستهانة كما يحدث اليوم مع قضايا الارض في الشمال. رد عليه عمدة من شيوخ الجعليين يومئذ بقوله: أنت لا تعرف دارفور وأخشى أن? بعد ثلاث سنوات تعود وتبحث عن حل. الحق اننا لا نحتاج للعنف في قضايانا الاجتماعية الاقتصادية، قدر حاجتنا للحكمة وحسن تطبيق ما اتفقنا عليه كشعب متنوع الثقافات. الصحافة