عقيد شرطة(م) عباس فوراوى [email protected] ذكرى استقلال السودان التى صارت يوماً من أيَّام الصَّالِقات تمر علينا آنئذٍ الذكرى السادسة والخمسون لاستقلال السودان المجيد، ومشاعرنا خليط من التوجس والاحباط والخوف، بسبب أننا نحتفل بهذه المناسبة، وأيادينا ملوثةٌ وآثمةٌ وملطخةٌ بدم أكبر جرمٍ، يمكن أن يرتكبه الانسان وهو عاقلٌ . لقد ارتكب البعض منا موبقة التفريط بتراً لثلث مساحة البلد، التى ورثناها مليوناً من الأميال المربعة ، وهتفنا وغنينا لأمجادها، وخيراتها وتاريخها قبل أن نفصل جزءاً عزيزاً منها، غير آبهين بلعنة الأجيال، أو سخظ الأحفاد وقبلهما غضبة السماء .الغريب فى الأمر أنَّ البعض منَّا \"يقدل حافى حالق\"، وكأنَّ القوم الفاعلين قد أحسنوا صُنْعا . إننا وعبر مهرجانات الغفلة والتغابى ، نُساق رغم أنوفنا كما الأنعام سَوقاً الى مضارب الاحتفالات بالاستقلال زوراً وبهتاناً ، ونحاول أن نقنع أنفسنا مخادعين ، بأننا الآن قد أفلحنا وتحررنا ونجحنا فى التخلص من عبء ثقيل، هو جنوبنا الفقيد ، الذى ندعى بأنه قد أرهق أمن أمتنا الشامل ردحاً من الزمان، وقعد بنماء دولتنا الفتية طويلاً ، بل جرَّنا لهُوَّات السوءات ، وما درينا أننا قد أخطأنا التقدير بهذه الرمية الخائبة، التى تعتبر –بكل المقاييس – صفعةٌ من الصفعات المرتدة للاستعمار الحديث ، الذى احتفلنا بجلائه فى 19/12/1955م عبر الأبواب الشرعية ، فعاد عبر كل المنافذ باطشاً ليتخبطنا كالشيطان الرجيم ، والشواهد كثيرةٌ لمن يلقى السمع وهو شهيد . إننا أهل عاطفةٍ جيَّاشةٍ، وأصحاب قلوبٍ رهيفةٍ ، ودموعنا أسرع من الرياح المرسلة ، فلماذا لا نقيم هذه المرة احتفائيةً بكائيةً نعزف من خلالها أنغام الحزن والوله ، ونعض عبرها بنان الندم والحسرة ، ونطلق فى فضاء لياليها بالونات الخيبة والخجل ، على ما اقترفته أيادينا من ظلمٍ فى حق الوطن ؟ أين أنتم يا أهل وأرباب أسواق الفتاوى والرخص المجانية فهذه حوبتكم ؟ . هل لديكم بقية من مخزون فقه الضرورةٍ لتجيزوا من خلاله تقديم عروضٍ وفواصل ، من فن وأدب لطم الخدود وشق الجيوب ، وكشح التراب واهالة \"الهَبُّود\" على الرؤوس تعبيراً عن الندم والحسرة وسوء المآلات ، لوطنٍ بات ولا زال، يتفلَّت هارباً من بين الأيادى كالكرات الزئبقية ؟. إننى حزينٌ جداً – على المستوى الشخصى- لاستمرارى معلقاً بحبل هذه الحياة ، التى عانقتها وليداً فى فجر استقلال السودان ، وظللت أحبو وأمشى وأهرول فى باحات أرضه الشاسعة الواسعة، حراً طليقاً وفخوراً بمَهَلة مساحته ، لمدة ستٍّ وخمسين عاماً، ومبعث حزنى هو أننى مُجْبَرٌ اليوم على أن أتحسس لرجلىَّ قبل الخطو موضعمها ، خشية أن أهوى ساقطاً على أرضٍ ، كانت مرتعاً وملجأ وموطناً لنَفْسِى، وبراحاً لنَفَسِى ، والآن صارت أرضاً أجنبيةً ،لا أملك من تركتها سوى تاريخٍ أجرب، وذكرياتٍ أليمةٍ، سيهزم ديمومتها موت الخلايا فى الدماغ أو انحسار الذواكر الخربات . يا بختهم أولئك الذين أكرمهم الله ، ولقوا حتفهم ونُزِعت أرواحهم منهم رحمةً بهم ، قبل أن يشهدوا فواجع الاحتفاء بذكرى استقلالٍ منقوص ، لبلدٍ مبتور الثلث ، متآكل الأطراف ، ،مرتجف المنتصف . أكتب الآن والساعة اقتربت من الثانبة عشر منتصف ليلة السبت الزاحفة نحو فجر الأحد الموافق 1/1/2012م والآلاف من الناس ، تكتظ بهم الحدائق والمنتزهات والمسارح والصالات المغلقة ، وضفاف النيلين الأزرق والأبيض وملتقاهما ونهر النيل نفسه، وحول وأسفل الكبارى الثمانية . أكتب الآن ، والفنانون وأهل الطرب والهزل والنكات وما بينهما يزعقون كما الجن أمام أهل الموائد المبسوطة، ويتعاطون أدب الخديعة والانخداع مع المستمعين، والمشاهدين الكرام ، باسم الاستقلال المأزوم والمهزوم بأيادى أهل البلد . يا ترى هل هناك سودانيون فى بلاد الغربة يحتفلون متفننين أيضاً أم أنهم يفترشون أصلابهم المنهكة منتظرين من يواسيهم أو يعزيهم ؟ يا ترى هل احتفل الجنوب السودانى اليوم بهذا الاستقلال أم أنَّ أهله ينتظرون مرور عامٍ من فاجعة الانشطار القبيح ليوسموه يوماً لاستقلالهم ؟ وهل يا ترى احتفل حاملو السلاح فى دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق بهذا الاستقلال المجيد الذى مهره أجدادهم بعرقهم ودمائهم ، أم أنهم لا زالوا يضربون فى فناجين التشظِّى، ويبحثون فى قواميس التفتيت علهم يظفرون بنشيدٍ وعلمٍ ودولة، مع استعمارِ حديثٍ يخالط منهم الدم واللحم ؟؟ إننى أدعو وأحرض كل المحتفلين فرحاً أو الباكين حزناً على هذه المناسبة- التى كانت جليلةً قبل الاصابة- أن يبكوا على الأطلال كما بكى أهلنا العشاق الأُلَى، الذين أراقوا الدماء وسكبوا الدموع، على آثار الفروسية والفخر والعشق منهم ، وأن يقوموا - ما وجدوا لذلك سبيلاً- بقذف بعضهم البعض بالبيض الفاسد وبقايا الساندوتشات النتنة، وقارورات المياه المعبأة من مياه الصرف الصحى الطافحة من مجارى الخرطوم دوماً ، ولا ينسوا أو يتناسوا تبادل اللعنات المغلَّظة ،لحظوظهم العاثرة التى رمتهم حضوراً لهذا اليوم البئيس المنقوص . إنَّه يومٌ كئيبٌ تُخَصَّص أيامه للصالقات ليرتجلن شعر المناحات الحزينة ، ويُعْطى فيه براحاً للحالقات ، لينتُفْن منابت الشَعر منهن ، وتُسوَّى فيه الأماكن للشاقَّات ، لتمزيق ما تبقى من سقط الملابس ..فمن يلحظهنَّ أو يراهنَّ فاعلاتٍ، فليتخذ ستاراً أو ساتراً ، ويبلغهنَّ تحاياى الجزيلة ، ثم يتولى نصحهنَّ غير آبهٍ، وليحدثهنَّ بأنَّ أهل فقه الضرورة ، يسيرون من خلفكن وراء حجاب ، ورغم ذلك فعليكن بالشهادتين ، والاستغفار ، وعمل الحسنات ، التى من بينها لعن المتسببين فى \"بشتنة\" هذا السودان بتفتيته ، مع جواز تحقيرهم جهراً أمام طائفةٍ من المؤمنين أو خلف الأشجار التى تثمر الشوك .