رأي للرُّحَّل قضية حيدر المكاشفي في أعقاب الحملة الظالمة التي قامت بها جمعية حماية المستهلك على اللحوم تحت شعار «الغالي متروك» قبل ثلاثة شهور تقريباً، كتبت مقالاً هاجمت فيه الحملة وانتقدت فيه الجمعية بشدة، وكما أشرت في مقال سابق، فإن إدارة الجمعية طلبت مني الحضور الى مكاتبها شمال حديقة القرشي لاخاطب منتداها الاسبوعي، ولكي يسمعوا مني كما سمعوا وقرأوا كلامي في الصحف، ولقد لبيت الدعوة، وكانوا فعلاً كرماء مضيافين، وكانت روحهم كما يقال روح رياضية، لم أشعر أبداً بأن هناك شيئاً غير عادي قد حصل، بل بالعكس استطعت ان ادافع عن وجهة نظري بكل وضوح. وفي ما قلت: /1 إن قطاع الرُّحَّل قطاع مهمل بسبب عدم تعليم منسوبيه، وبالتالي هم في ذمتنا جميعاً، خاصة انتم المتعلمين والعلماء والمثقفين، وكما يقال في المثل العميان في ذمة المفتح وما أعمى الجهل، فبدل الهجوم عليه يجب الدفاع عنه وترشيده. /2 إن وسط هذه البلاد أناساً ينحدرون من أصلاب رجال عرفهم التاريخ بالتدين وإكرام الضيف والوقوف مع الغريب الزائر واللاجئ، وان (تقابة) القرآن وخلاوي تحفيظه انتشرت، واكثر ما انتشرت في وسط السودان، وقلت إن هذه البلاد محفوظة بسبب هؤلاء الموتى حفظة القرآن، مكرمي الضيوف، وإن القرآن ذكر أن اليتامى الذين كان كنزهم تحت جدار ليحفظه لهم، كان ذلك لصلاح والدهم، وان معظم اهل التفسير ذهبوا الى ان المقصود ليس والدهم مباشرة وانما جدهم السابع، فبصلاح جدهم السابع حفظ الله لهم الكنز حتى بلغوا الرشد، فلماذا لا يحفظ السودان بسبب صلاح الاجداد (لو ربنا تكلنا على عمايلنا لما ترك في البلاد نفاخ نار)، لذلك هوت افئدة لهذه البلاد ورزقهم من الثمرات، والثمرات ليست ثمرات النبات، فأيضاً ثمرات الرجال الذين جاءوا من الشرق والغرب والشمال والجنوب ليحرروا الوطن اكثر من مرة من المستعمرين، ثم رجعوا الى مواقعهم واغمدوا سيوفهم وتركوا البلاد لتبول عليها الثعالب مرات ومرات.. وتنعق فيها الغربان، فقلت للاخوة في جمعية حماية المستهلك، لذا فإن الرُّحَّل يأتون من بلدان بعيدة، فكما الافئدة تهوي للبلاد هم ايضاً يأوون بمنتجاتهم اليكم، ولكنكم الآن بدأتم تصفعونهم ولا اتوقع ان يوافقوا على صفعكم لهم كل مرة، فلا بد من البحث عن بدائل. 3/ وقلت إن من المصادفات العجيبة ان معظم الرُّحَّل ينحدرون من مواقع حدودية تحادد دول مثل شمال دارفور وغرب دارفور وجنوب دارفور، وجنوب كردفان وجنوب النيل الازرق، وشمال كردفان وشرق السودان وشمال الشمالية، فكل هذه المواقع تجاور دولاً، ولا أعلم أن هناك دولة مجاورة لا ترغب في استيراد اللحوم، فإذا كان الأمر كذلك لماذا لا يحاول هؤلاء الرعاة الاتجار مباشرة مع هذه الدول بدل الصفعات التي يواجهونها من أهلهم في الخرطوم، فهناك منتجات كثيرة ارتفعت أسعارها ولكن لم تهاجم مثلما هوجم قطاع الثروة الحيوانية.. فمعنى ذلك ان هناك استقصاداً استهدف به الرُّحَّل، وربما هناك شخص يقول كيف يتاجرون مع دول اخرى والنظام لا يسمح والقوانين تمنع ومسؤولو التهريب سيطاردون المهربين، ولكن الرد عندي بسيط هو أن الحاجة ام الاقتراع، وان الصمغ العربي عندما ضيق عليه في بلده هرب الي غرب افريقيا، وان السكر في يوم من الايام هرب، فما بال الذي يتحرك بأربع وسط ما تبقى من المليون ميل مربع. واخيراً قلت لإخوتي في حماية المستهلك أرجو أن تعاملوا في المستقبل كل الغلاءات مثلما عاملتم اللحوم على نظرية «الغالي متروك» وقلت هل اللحوم هي قوت غالب أهل البلد حتى تشنوا عليها مثل هذه الحملات، بما أن القمح الذي ينتج الخبز، وكما قال الطالب المعتقل الآن، ان الرغيفة اصبحت زي (الأضان) ومع ذلك سعرها وصل 250ج. وقوت غالب اهل البلد الذرة التي وصل اردبها الى اكثر من ثلاثمائة جنيه، اما الدخن الطعام الرئيسي لأهل دارفور فإن الملوة وصل سعرها في اقصى جنوب دارفور الى 15ج. والآن ماذا نقول؟ استطيع ان اقول ان قطاع الرُّحَّل مهمل للغاية، واذا ما رشد فإن له عائداً كبيراً للدولة خاصة الصادر منه، ويكفي الداخل من اللحوم دون الحاجة للاستيراد بالعملة الصعبة، ودون تكلفة لمدخلات انتاج كالزراعة والصناعة. ولكن لماذا اهمل؟ هذا ما لا استطيع الاجابة عليه وهو الامر المحير؟ والمحير أيضاً هو أن الامر السهل امامك، وتتركه للمعافرة في الذي اشق منه، وكنت مستغرباً للدكتور ابو حريرة وزير التجارة السابق، في محاولته لاستيراد اللحوم من الخارج ، كمن يطلب الاستشفاء من البرص في دول بعيدة، وجاره عيسى بن مريم، مع أن ابو حريرة من شريحة الرعاة من اهلنا الكرام البطاحين، واخيراً عرفت ان هناك جهة ليست لها علاقة بالرعاة دفعته لهذا القرار، اما لاحتقارهم للرعاة، واما ينفذون سياسات ممنهجة من الخارج حتى لا يتصدر السودان زعامة الثروة الحيوانية، فمعنى ذلك أن دولاً كبيرة غربية سوقها سيكسد وخبرتها فيها ستتماهى وتنفد، والسودان يكسب سوق الخليج الذي يستورد بعشرات المليار دولار لحوماً في العام، فالامر إما أمر جهل بالشريحة أو احتقار لها لتصفية سابقات، وإما لاتباع منهج خفي. وأحيلكم للخبر التالي الذي قرأته في صحيفة «الصحافة» يوم الجمعة 6/1/2102م. اتفقت لجنة التكامل الزراعي والحيواني والصناعي برئاسة وزير الصناعة عبد الوهاب محمد عثمان وعضوية وزير الزراعة عبد الحليم المتعافي ووزير الثروة الحيوانية فيصل حسن إبراهيم في اجتماع امس، على تدشين شراكة لتطوير وانتاج وتصنيع اللحوم الحمراء لأغراض الصادر ضمن خطة البرنامج الاقتصادي الثلاثي، واوصى الاجتماع بأهمية الاهتمام بالحيوان ابتداءً من المرعى بتوفير الاعلاف من المولاص والبقاس والعلف الاخضر من مخلفات حصاد قصب السكر، وأقول إن هذه الشراكة التي تمثلت في ثلاثة وزراء معنيين بالأمر شراكة ضيزى لأنها استهدفت مثلث حمدي الذي فيه البوقاس والمولاص، واين اهلك الرعاة الجوامعة وبقية اهلك من كردفان من البوقاس والمولاص، اتحدى أى راعي هناك أن يعرف مجرد كلمة بوقاس ومولاص ناهيك عن استعمالها، يا اخي المتعافي هل يعرف اهلك في جنوب دارفور المولاص والبوقاس وانت كنت والياً عليهم، اما عبد الوهاب عثمان ربما اهله وحدهم يعرفون البوقاس، فالفهم عندي أن مثلث حمدي هو المعني بالامر، لاسيما أن الخبر في نهايته يقول إن شركة سكر كنانة اعلنت عن خطة لانتاج 03 الف رأس من البقر، ثلاثين ولا ثلاثمائة الف ستكون بديلاً للثروة الحيوانية في الاطراف، وعلمت فيما علمت أن هناك ولاية قد قامت بتربية الضأن الحمري ليكون بديلاً لضأن غبيش في المستقبل، ولكن المشروع فشل، فقدرة الله هى صانعة كل شيء، وأن الله كما جعل البلح رزقاً لأهلنا في الشمالية وفشلت زراعته في معظم أنحاء السودان، فإن هذا الضأن رزق ساقه الله لأهلنا في كردفان واطراف دارفور، فيصعب ان يكون هناك ضأن بديل في أى مكان آخر، إن الشراكة لتطوير وتصنيع اللحوم الحمراء للصادر يجب ان تكون اشمل حتى تسع كل الرعاة، أين نثر البذور في مناطق الرعاة، اين سياسات إيقاف الرسوم، أين العناية البيطرية للأنعام والصحية للافراد، أين الضوابط التي تلزم الراعي باستقرار اسرته وتعليم أبنائه، وكما كل مزارع يمكن ان يرهن مزرعته وكذلك كل مواطن يمكنه من رهن منزله ليأخذ مئات الآلاف من النقود من البنوك، ولكن هل فكرنا في آلية رهن بهائم هذا الراعي حتى يستفيد من المحفزات الاقتصادية التي استأثرت بها فئة قليلة من الناس، هل عوضنا هذا الراعي عن الرسوم الكثيرة التي أخذناها منه. إن الرعاة أمانة في أعناقنا، وأمانة حية تسعى وليست أمانة ميتة، وسوف نسأل عنها في قبورنا ان لم نأخذها بحقها.. الرعاة مهمشون، الرعاة جاهلون، الرعاة طرفيون، فلا بد ان نأخذ بتلابيبهم إن فعلوا شراً حجزناهم عنه، وان فعلوا خيراً زدناهم خير على خير، وإلا سوف يكونون كارثة علينا في هذا المجتمع «والمكضبني يقرأ مقدمة ابن خلدون». ولا بد من إصدار مراسيم رئاسة تنظم حياة الرُّحَّل، بمنع الأسرة من الترحال وراء القطعان، ومرسوم يلزم ابن الراعي بالتعليم، ومرسوم يلزم كل من له اكثر من ثلاثمائة رأس من الثروة الحيوانية يُلزم بحفر بئر ارتوازية، ويشارك في هذه البئر آخرون من اصحاب القطعان أصحاب العددية المذكورة، عبر المساهمة في هذه البئر، حتى نحد من الهجرات للجنوب، وحتى لا يلوي الجنوب ذراعنا، وحتى لا تُهرب هذه الثروة القومية لخارج البلاد. وكذلك لا بد من اصدار مرسوم جمهوري واصدار مفوضية قومية تعني بأمر الرحل شأنها شأن رصيفات الاخريات. ومازلت أتساءل أين جمعية حماية الراعي المنتج؟ سوف تقوم بإذن الله قريباً، ومافيش حد أحسن من حد. الصحافة