.. [email protected] وتمضي بنا السنوات بخطوات الثواني ومع عقارب الساعات وعلى أجنحة الأيام ، فترتسم معالمها في الوجوه ، وتحفر اثارها في النفوس ذكريات بحلوها ومرها ، ولكنها تظل المكون الأساسي لحصيلة تجارب حياتنا مع الآخرين وعبر الذات ، وتبقي فينا صدى الحياة الحاكي ، جرسا في الأعماق ينزوى أحيانا خلف ضجيج المشاغل الأنية الملحة ، بيد أنه صوت لايموت فينا ما حيينا ! يستيقظ ذلك الايقاع في خلوة النفس ، أو حينما يلتقيك وجه من زمانه، او عندما يبلغك نبأ رحيل خطى عن درب الفانية كم رافقتك في مشوارها القصير ! وحينما تلامس العيون الأمكنة والمدن التي ، انطبع نهارها فيها ولم يبرح شاشتها رغم الفرقة الطويلة، ويتداعي مساؤها حالما من خلف المسافات ، هنا تكتمل الصورة لتستفز القلم فتنسل الأنامل الى لوحة تحكم الحاسوب وكأنها ريشة تعيد رسم الصور القديمة ، للمكان والزمان والشخوص! بورتسودان واحدة من محطات الذهن الطرير وهو يبحث عن الحروف في هدأة ذلك الزمان من اوائل السبعينيات ، جئتها وحيدا الا من اسماء شكلت لي صداقة افتراضية عبر الصفحات ولم نلتقي ، كنت أرسم لهم صورا في مخيلتي استوحيتها من كتاباتهم وهم عشاق للكلمة، بعضهم مراسلون بلا حدود للعطاء وبدون مقابل والبعض الآخر ، يدفعه حبه للكتابة أكثر من احترافيته كصحفي معتمد.. وحينما وطأت قدماي أرض الثغر البليلة بندى البحر ، تلقفني دفء صدر الراحل أستاذي / محي الدين خليل مدير مكتب الأيام هناك ، وأحسست اننا نتعارف منذ أن ولدنا ، ثم طاف بي على كل الأسماء التي قرأت لها ،وبدون مقدمات كونّا فريقا من الأصدقاء، نجتمع دون موعد ونفترق بلا وداع ، لنلتقي في كل مكان من رحابة تلك المدينة التي تحسسك بانها صديقة مثلما أهلها صادقون في الاخاء ، فيتبعثر من دواخلك احساس الغربة من اليوم بل من اللحظة الأولى وأنت حل فيها ! هاشم حسن على ذلك الفتي الذي يجلس خلف مقعده كنائب لمدير الاصلاح الزراعي ، لم يلهيه المنصب ولا السسكرتيرة الأنيقة ، عن هوى الحروف ، فكان يبذر درر الكلمات على مساحات ( الأيام ) في ايامها الخوالى فيضفي عليها خضرة من نضار احساسه ، وحينما تجلس اليه ، يزرع فيك طمأنينة تمسح عنك وعثاء البعاد والشعور بغربة الداخل ، قبل أن نركب البحر شرقا الى مجاهل المهاجر الطويلة ! ومحمد عيسى أحمد ، موظف البنك الحصيف والوسيم ، ومراسل ( الصحافة ) ينتشل كل يوم ذهنه من بين رائحة ورق البنكنوت وتنعتق اصابعه من خنقة الأرقام ليستريح خلف ظلال الحروف التي يرسلها اخبارا يتنسمها من مسامات المدينة رسميا وشعبيا! عبد الغني جوهر ، عبر عبقريته الفذة في رسم الكلمات بالوان ثقافته ، كم تخيلته عجوزا بشوارب العقاد وصرامة طه حسين ،وحينما دخل على مكتب الأيام وهو يجر دراجته المتهالكة ، فخورا بملابسه العمالية وطاقيته التي تربض تحتها افكاره النيرة تلك وعرفنّي عليه محى الدين، كم اذهلتني فيه بساطة الانسان السوداني ، الرفيع بتواضعه الجم ، وسالت نفسي هل نحن دائما الشعب الفيلسوف المنسي هكذا في المدن البعيدة عن أضواء الشهرة؟ وكم تجلى اعجابي بطموح ذلك الشاب العصامي أمين موسى الحاج الذي بدأ حياته عاملا بالمدينة ،يلتهم الكتب و يرتاد المدارس مساء ويراسل الصحف وقتما تمّلكه الحرف، وحينما جئت الى بورتسودان عابرا بالسيارة من الغربة بعد عشر سنوات من الافتراق ، وجدته قد أصبح استاذا جامعيا فيها ، ليكسر كل حواجز التحدي لبلوغ الهدف! ياتري اين أنتم الان ، محي الدين رحل وترك قلمه حزينا يتكيء على حوائط شارع الصحافة ، ادريس الأمير حزم أوتار عوده عند بوابة سواكن وهي تقاوم صدأ الفناء ، فيظل صوته رغم الغياب يعبيء رئتها بنفحة الامل من نسمات تاريخها العائد لامحالة وهو يغني لها وقد غاب في ثنايا الخلود ! واظل أنا غريبا بعيدا ، وقريبا عنيدا أقاوم بحب لا يفني مع تقادم الدهور فايروس النسيان الذي يتكالب على خلايا الذاكرة ، ومن وراء اضواء مهرجان بورتسودان السياحي الأسبوع الماضي بالتلفزيون تتراقصت خلف الدموع فجأة وانداحت صور الماضي لمدينة وأحباب ، عشت معهم قليلا ، فعاشوا طويلا معي وفي دواخلي ، وأتساءل بحسرة ، أين مني هم الأن؟ وهل الثم ثانية ثغر تلك اللوحة الحلو لتعيد انفاسه الحياة الى النفس الميتة شوقا لكل أولئك الناس ان كان بعضهم عائشا وتلك المدينة التي لا تموت، ومتى ندلف منها للوطن القريب فينا بمقياس العشق الدائم والبعيد عنا فقط بقياس المسافات ! جمعنا الله به وبأهله في ساعات الخير ، انه المستعان ، وهو من وراء القصد وجمعة سعيدة عليكم وعلينا . يظهر في الصورة التي تعود للعام 1974 من اليسار لليمين ..هاشم حسن على ومحى الدين خليل ومحمد برقاوي ومحمد عيسى أحمد .. صحفيون في ريعان الشباب من ثغر السودان الباسم في تلك الأيام باقلام طموحة..