خريجي الطبلية من الأوائل    لم يعد سراً أن مليشيا التمرد السريع قد استشعرت الهزيمة النكراء علي المدي الطويل    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    عائشة الماجدي: (الحساب ولد)    تحرير الجزيرة (فك شفرة المليشيا!!)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في قصة (نوايا مرَّوضة) للقاص ناجي البدوي ..
نشر في الراكوبة يوم 31 - 03 - 2012


[email protected]
بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً القصة
نوايا مُروَّضة
( 1)
ها هُو يُوزِّعُ عَيْنيه المطليَّتين بلونٍ يَشْبه التربُّص، على كُلِّ الأشياء من حوله، ومن ثمَّ يَتقدَّمُ بخُطواتٍ زاحفة الى ناحيةٍ ما، كان يُداومُ على إقتناص فرصة سَهْوي عنه، فيهرعُ إليها في مثلِ هذا الوقت من الصَّباح ، فيما يتكوَّرُ على جلده العرقُ و اللَّهوُ الصَّغير.كعادته معي مُنذ أنْ جلبت إلى هذا المنزل حقيبتي الوحيدة، وبعض سُكُوتٍ يخُصُّني كشخصٍ يُريدُ أن يرتاح من كَثرة الجولات التي قضَّاها، في الإنتقال من حجرة لأخرى، حسب الفترة الزمنية التي يمنحها إيَّاه أصحاب تلك الحُجرات، في بداية كل شهر قاصدينَ بإيماءاتٍ حادَّةٍ إثارة قلقه ببعض ماتنطوي إيماءاتهم من خبث." إنتَ مَاَلكْ ماإتْزَوَّجتَ!" " سَامعِينْ صوتْ نِسْوانْ في ...". فيُلملم ملابسه في حقيبةٍ صبورةٍ سابَّاً تلك الأيَّام التي دفعته للسُّكْنى في مثل هذه البيوت و أصحابها المتغطرسين.ها هو " الضَّب" يرميني الآن بنظراتٍ مُرتابة فيما يزحفُ على الحائط السَّهران حائط الحجرة التي أكومُ في منتصفها قَميصيَّ وبنطالاً مُلطَّخاً بالأرق. أظنُّ أن عَينيْ " الضَّب" هما عينيْ حيلة كلٌ منَّا في نفْس الآخر، إذ ما الذي يدفعه لأن يتحرَّك من مكانٍ ما بين شّقوق الحائط العاري في هذا الوقت بالذّات؟، ودائماً لمّا أقومُ بِكَنْس الحجرة أو غسل قميصيَّ، أو عندما أكونُ مشغولاًبغسل جسدي، و التي يُصْدرُ حينها أصواتاً غريبة، تُباغتني فأبتلعُ رشفةً من رغوةِ الصًّابون – المتكوِّمة فوق رأسي الأقرع- نتيجة إلتفاتتي الحادة، جهة ذلك "الضَّب" المُتربص بعُرِّييْ من مكانٍ ما بين الشقُوق.
(2)
الخضرواتُ بِفتنتها التي تُقرِص مكان الجوع، في نفْس من يراها مُتربعةً، فوق مناضدها الخشبية. البُقُولياتُ و الأواني المنزلية بِلَمَعاناِتها الغااااالية."كراتين" السَّجاير والصّاَبون. هنا يطهو الجوع سُكوتاته بيُسر... وكذا.
- " يااااا اب التُّجْ.تعال يا التَّااااجْ!".
- " وييييينكْ!".
- " يا التَّاجْ. دااااايركْ!".
كان " التَّاج" يعبُر بين جمعْ أصدقائه " تجار سوق الشيخ أبو زيد"،وهو في طريقه إلى مكان عمله في جهة "الحدَّادين"، وفيما هو يعبرُ تعالت صيحات أصدقائه المشتاقة، من جانبي ذلك الزُّقاق الذي كان يعبره كل صباح.
- " كيف!".
_" يااااا أبْ زرد أُمبارحْ!".
_" بعدين. طيِّبْ".
-" ياااااامرحبْ".
هكذا كان "التَّاج" يُبعثُر إبتساماته على تلك الوجوه التي كانت تبلِّلُ صباحاته بالأمل فيما هو يعبُرُ إلى مكان عمله أو حينما يتوقف و لو لفترة قصيرة مُتبادلاً " النِّكات" معهم. تأريخه تأريخ صنعته تأريخ طويل لايُرهق نفسه بحساب عدد الأيام التي اتقن فيها صنعة "الحِدادة" بعد صفعات معلمه الأول الكثيرة على أطراف ظهره. الشئ الوحيد الذي لا يَِني يذكره لمَّا يمر بين جمع أصدقائه التُّجار:"هو همسهم المرح كلما غافلهم بإبتسامه." وين ياااااااااا!". فيلوِّحُ بيده ويمضي.
-"وين الشَّاكُوشْ!".
كانت يداْ " التَّاج" المتقشرتين تَتَعقَّبان إنزلاقة أدواته من مطارق و "أجَنَات" إلى آخر، داخل دولاب حديديِّ يتوسط السَّاحة التي يتوزَّع حولها حدَّادون منهمكين في منازلات صنعتهم المتعبة، بعد لُهاث بدأ "التَّاج" في ترتيب أدواته على نحوٍ ٍيُتِيح له سهولة إلتقاطها لمَّا ينهمك في عمله، فينسى نفْسه وبقايا أيامه و جسده المُندّس بين صيحات الحديد المُلوَّع."طااااخ!.طقْ.طاااخْ.كَكْ.كَشْ.كَكْ".
"وينْ القهوة!".
سالت إبتسامة "التَّاج" من فمه المُعفَّر بعُزلة الحديد،لمَّا غالبته روحه و ضجيجها، فوجد نفسه أمام "ستْ الشَّايْ" المُتربِّعة خلف مناضد حديدية منقُوشٌ على سطوحها الملساء ما تدُّسُّه في مخيلتها من أمل. جلس على مقعدٍ صغير بعد أن تبادل مزاحه اليومي مع تلك المرأة، منتظراً القهوة التي بدأت رائحتها تتصاعد حتى الحواف العارية من روحه.
(3)
يأتي الليل وقتما لايبقى جزءٌ من جسدي، إلا و ألمَّ به تعب يوم طويل، كنت قد إفتتحته بصراخ الحديد، وها قد إختتمته بأوجاع كثيرة تنتشرُ على جسدي."وينْ السَّرير!". ها أنذا أخلع ملابسي مرتدياً"جلابيَّة السَّاكوبيسْ"اليتيمة، و التي كنت قد خصصتها منذ فترة لإرتدائها لمَّا أهمُّ بالنَّوم.إيهْ. وما النَّوم يا روحي!. تظلُّ عينيّ المحمرتين مفتوحتان، حتى وقت متأخر من الهزيع الاول من الليل. لا أذكر أنني كنت مستيقظاً حتى الهزيع الأخير.إذْ يتسلل تعب جسدي إلى عينيَّ بعد فشل تحريضاتهما لبقية الجسد على الإنتباه لحركات ذلك "الضَّب" الساهر على مراقبتي طيلة الليل." اللمبة" ذات الدخان الخانق في مكانها ذاته منذ أن أشعلتها أول مرة، تقلب كراسة سهرها وحيدة في الركن الجنوبي من هذه الحجرة العتيقة.لا أدري ما الذي دفع "بنَّاء" هذه الحجرة لتشييدها على هذه الحال، ماسحاً من ذاكرته سطور الإتجاهات، فبناها في شكل تحتل فيه أركانها أوتاد الجهات الأربعة."أيْوهْ". اللمبة بدخانها السهران تتبادل والمسمار الذي يثبتها على سرة الحائط" جاكات" اللذة المكشوفة. و في أعلى نقطة من ذلك الركن يتدلى شبح عنكبوت ميِّت،لوث دخان تلك اللمبة بهاء خيوطه البيضاء فأمست سوداء من كثرة لعق ألسنة الدخان على حوافه الممزَّقة.
يأتي عليَّ الليل و عيني ذلك " الضَّب" تُطلان من تحت الفرجة التي تفصله عن وجوديَّ الهامل.آآآه. كم من السَّنوات يقضيها المرء راكضاً خلف سراباتٍ تخص أرزاقه المُعلَّقة.!؟.فيما يدفع أمامه كومة لهاثات ثمناً منذ نعومته حتى مشارف الشَّقاء."أيوهْ".كل الأشياء مفتونةٌ بتلمساتها. الحقيبة مفتونةٌ بتلمُّس هذيان القمصان.الجدرانُ مفتونةٌ بتلمُّس عواء جهاتها المبعثرة داخل ذاكرة البنَّاء. الليلُ مفتونٌ بتلمُّس عتاب النهار." الضَّبُ" مفتونٌ بتلمُّس ضجر "التَّاج" المسترخي. و" التَّاج" مفتونٌ بتلمُّس شجار الحديد وكذا...
(4)
كان" التًّاج" يتمدّدُ على سريره المسكين، غير مبالٍ بتلمُّس لسان ذلك"الضَّب" و الحركة الغريبة التي تتقدم بها قدميه الأماميتين، فوق "كرتونة سجاير البرنْجيْ" الفارغة، إلا من بعض صحف قديمة وأعداد من مكتظَّة بصور نساء عاريات، يبلِّل عرق أفخاذهن حواف صفحات تلك المجلات و كذا.... "برِنْجيْ كِنجْ سايزْ". بدأ ذلك " الضَّب" الزّحف فوق علامةالبرنجي المطبوعة على صفحة تلك " الكرتونة" اليتيمة، و" التَّاج" تكاد ذاكرته النَّعسانة أن تتمزّق تحت ثقل أنفاس نسوة ثلاثة، كن يتحلقن حول سريره، فيما هو نائمٌ فأنشغل بالعرق اللزج السائل من مكان ما على صدره و حواف وجوده المتآكل . كاد " الضَّب" أن يخرق المساحة التي تشغلها علامة " كأس البرنجي" الذهبية ، لمَّا إلتقط رائحة المكيدة التي كانت تفوح حول " التَّاج" الغرق في مديح جسده مساماً مسام. فهرول الى اقرب الشقوق ، مخلفاً ذيله في لمحة بصرٍ مذعور . هسترتئذٍ كان ذلك الذَّيل يقافز هنا وهناك ، فيما يرتعد جسدا كلٌ من " التَّاج" و " الضَّب" المحشور داخل شقٍّ صغير أيقظ الجدران بخوفه الكثيف . " أيوه". لن تمَّحي تلك الليلة من ذاكرة " الضَّب" الصَّغيرة، كما لن تمحي تلك الأصوات الملوَّعة من تأريخ الظلمة ، التي غافلها " الضَّب" فتشققت من حدة الخوف الذي كان يتسلقها من فم ذلك " الضب" الملتاع .
- "...........................".
- "............................".
- ".............................".
تَتكوَّرُ اللِّذةُ على أجسادهن في شكل حُبيباتِ ، تلتمعُ كلما وقع لسان نور " اللمبة"الولهان ، على هزات أجسادهن الخفيفة .تنظرُ ثلاثتهن إلى جسده الغارق في سكرته الغريبة – بلوعةٍ، فيما تُدغدغهن رائحةُ الحرمان الساطعة ، والتي كانت تلفُ جسده من تحت ملآءة مثقوبة من منتصفها . يخرج " الضَّبُ" فجأءة من بين أحد الشقوق المرسومة تحت عمود سقف الحجرة في الليلة التالية؛ باحثاً عن شيءٍ يسدُّ به النُّقصانات التي شعر بها في بطنه الصغيرة . يمد رأسه ببطء مستطلعا ً شخير طرائده في ناحية ما من هذه الحجرة . و كعادته يمسح المكان بنظراتٍ حذرة بدءاًً من سرير" التَّاج" الغارق في عزلةٍ من الحلم.
(5)
يُصنعُ الشَّاي فَتنتشي الحكاية . تبدأ الحكايةُ بكسلٍ حتى اللَّحظة التي يُصنعُ فيها الشاي ، فتنتشي في مخيلةِ من يسردها و من يلتقطها ، راشفاً الذُّهولات المذابة داخل "الكُبَّاية" التي يقبضها باصابعه. كنتُ أقفُ عند قبره المغطى بنبات " الحنظل" الزَّاحف ، وفي عينيَّ كثيرٌ من الدُّموع و الذكريات. كان ثمَّة ثمرتان من ذلك النبات تقاومان النسيان، من تحت الأوراق المُصْفَرَّة التي تغطيهما. " أيوه". تترقرقُ محبتي و نحيبي العاري، هنا عند قبر " التَّاج" المغطى بنبات السنوات. كان " التاج" وبعض اصدقائه يتحلقون حول منضدة صغيرة من الحديد يَتَلمَّسُ كلٌّ منهم الضحك و اللهو الأليف بعد نهار طويل من اللهاث. كانوايتبادلون سمرهم الليلي و بعض كلامات تخص جلوسهم امام إمراة تتربَّع خلف صندوقها المنقوش على واجهته؛ ما تُهندِّسه روحها من رجاءٍ أليم. الشاي ترويضُ الألفة . يحضُرُ الشاي فتحضر الألفة الى قلب من يرتشفُ الحكاية المنثورة حول روح الشاي. كان ثمة رائحة " حنوط" تحوم حول روح " التاج" منذ الليلة السابقة.إستيقظ في صباح هذا اليوم فاستيقظت رائحة " حنوط" ما؛ في روحه التي لوَّثها شجارُ الحديد. كان يسأل أصدقاءه عن رائحة "الحنوط" تلك. وسرعان ماكانوا ينغمسون في كلامات ما؛ بعد و هلاتٍ من الصَّمت التي جرَّهم إليها سؤالُ " التاج".
- " حنووووووووووووووط!".
- " مالَكْ . علينا".
- " حنوووووووووووووط!".
- "أدِّيني سيجارة؟".
- "حنوووووووووووووط!".
- " خلِّينا في...... وكذا.".
فيما كان " التاج" و اصدقائه يتحلَّقون حول تلك المنضدة الصغيرة . في الناحية الشمالية من سوق" القش". كان ثمة نعشُ صغير يتقدم في الناحية الأخرى من السوق، يتطاير حوله عويلُ نسوة حزينات و رجال يخفون حزنهم خلف ستار أبيض من الذكورة. أسرع " التاج" و اصدقائه الى ذلك النعش ناسين الشاي و الحكاية المنثورة داخل أرواحهم.
(6)
كن يجاسدنه منتشيات بسحر رهزاته الآدمية كل ليلة يشتد فيها عليهن الحرمان.و " الضَّب" الملَّوع يُطلقُ أصواته المذعورة من داخل أقرب شقٍ حشرَ فيه جسده، مُخفياً عينيه خلف ظلمة ما؛ لئلا يُصيبه فزعٌ طائشٌ مما لمحه من مشهد أمامه. كان " التاج" يستيقظ في تلك الصباحات مُرهق الحواس و ذلك منذ أول ليلةِ شعرَ فيها بلوعة انفاسٍ ما؛ تنوسُ فوق صدره المحشو بصبابة سنواته المهملة. ملابسه مبللة. خصيتاه المحاربتان تستريحان فوق بلل فخذيه الصامتين. عضله نعسان . كان " الضب" يلتقط بعينيه النعسانتين شبح " التاج" الجالس على سريره فيما تضج ذاكرته بالاسئلة و التذكرات. ثمة ألمٌ في مكان ما من جسد " التاج" دفعه لأن يمسك بمقدمة رأسه الأقرع، باصقاً ما ظنه من هلاويس على أرضية حجرته. يتفقَّد " الضَّب" الأنحاء ببطئه الصباحي، فيقع بصره على بقايا شبح العنكبوت الذي هوى فوق ألسنة "اللمبة" المُعلَّقة على مسارها القديم.و من ثم حشر جسده داخل أحد الشقوق القريبة.
شئُ ما اقتلع " التاج" من نومه في الليلة التالية، كأنما ثمة شخص ما يقف عند قدميه متحسساً نعاس اصابعه المشققة. هبَّ " التاج"من رقدته مذعوراً فوقع بصره على شبح المرأة التي كانت تقف عند قدميه. تجمد في مكانه. تجمد ضوء " اللمبة" ودخانها الصعلوك. فيما تعالت صيحات ذلك " الضب" المختفي داخل أحد الشقوق المذعورة. إنتصب فجأءةً أمام " التاج" شبح إمرأة أخرى يصطحبها رجلٌ ما. لم يصدرا أيّة أصوات و انما إقتادا تلك المرأة التي كانت تقف عند قدمي " التّاج" المذعور، ومضوا خارج الحجرة. ليلتئذٍ همهم " التاج" : " وييييييييييييين الصَّباح!؟. وين!. وين!؟".
ناجي البدوي ،،،
القراءة :
نوايا مروضة قصة قصيرة مكونة من مجموعة أقصوصات صغيرة ، ولكنها في النهاية وحدة واحدة متكاملة مكونة نسيج القصة القصيرة ، وكل واحد منها تعبر عن موقف أو جانب حياتي معين ، ولكنه داخل في سياق القصد الأكبر من القصة نفسها ، وقد أتت هذه النوايا متحدة ومنسجمة دون تشتيت ، وتناسب طبيعة السرد الذي يعتمد على شخصية واحدة ، أو عدة شخصيات بينها تقارب ( التاج / الضب ) ، ويجمعها زمان واحد ومكان واحد ، وهي شكل فني حديث انتهجه القاص يكون الهدف منه في نهاية الأمر تكوين رؤية واحدة ، هي تعميق ذات الموقف المنشود من القصة بكل تفاصيله في حياة بطلنا / التاج / القاص .
يبدأ القاص قصته بالحديث مرة بضمير الغائب عن رفيقه الضب ثم يواصل أيضا القص بضمير الغائب عن ذلك الذي يأتي ليسكن في هذا المسكن الذي يمثل عنصر المكان لهذه القصة ، ولكنه ما يلبث أن يفارق ذلك الساكن هذا المنزل لمضايقات أصحاب السكن ، ثم يعود القاص ليعاود القص من جديد بضمير المتكلم عن نفسه ليؤكد لنا أن مكان القصة هو نفس المكان الذي كان يفارقه غيره بيد أنه لم يفارق بعد .. وهنا التشويق يستولي علي القارئ ليعرف كيف أستطاع التاج أن يفلت من مكر المؤجر ؟ فيستمر القارئ في القراءة .. مع العلم أن القاص قد برع في وصف هذا المكان وصفا دقيقا ومفصلا أكد به إلمامه بأسلوب الوصف الذي يعتبر من أهم مقومات كاتب القصة أو الرواية ..
إذاً كان الانتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم في بداية هذه النوايا هو التبرير المنطقي لإظهار شخوص القصة ( التاج / الضب ) فقد استطاع القاص أن يجعل من هذا المخلوق / الحيوان / الضب رفيقا للتاج / الراوي وعنصراً مهما من عناصر القصة أعطاها بعدا خلاقاً ومدهشاً ، وليستعيض القاص الحوارات التي كانت تدور بذهن البطل / التاج مع هذا المخلوق / الضب / البطل بدلاً من نفسه ، فقد كان هذا الضب بوصلة القصة التي توجه الراوي / التاج / القاص إلى أي اتجاه يجب أن يسير ..!!
نلاحظ أن القاص قد بدأ في ( النية الثانية ) بتثبيت بطلي القصة التاج / الضب بشكل واضح وصريح ليكون القص بعد ذلك بضمير الغائب مرة للتاج ومرة للضب ..
وزمان هذه النوايا مختلطاً بين النهار والليل .. النهار حيث يكون التاج منهمكاً في عمله ، وهنا يغيب الضب تماماً عن مسرح الأحداث ، وما أن يصل التاج إلى المنزل حتى يبدأ الضب في الظهور والحركة والتأثير في نهج القصة وسيرها ..
وما بين المنزل والعمل يكون هنالك متسعاً من الوقت يعيش فيه التاج مع مجتمعه ضاحكاً ومستضحكاً ، وهذه ميزة تحسب للقاص والذي أراد بهذا الخروج أن يجعل القارئ يحس بحركة المجتمع الذي يعيش فيه التاج ، وحتى لا يحس بالرتابة لتوالي الأحداث داخل ذلك السكن / المكان ... وليبتعد التاج عن ضجر المسكن وضجيج الضب ..
ويأتي ذكر الليل في القصة كعنصر زمني ليقودنا مباشرة لمكان القصة الرئيسي وهو السكن الذي يعيش فيه الراوي / التاج والضب ( بطلي القصة ) .. والضب بتحركاته المتواصلة ليلاً بين شقوق المسكن يحرك في دواخل التاج / الراوي أسئلة كثيرة ولكن نقف عن تلمسات الضب وفتونه بتلمس ضجر التاج / الراوي ليؤكد لنا القاص أن هذا ليس ثمة ضب عادي يمكن أن يمر على الغير مرور الكرام ولكن عند القاص نجده فاعلاً ومشاركاً وهنا تبرز مقدرة القاص الفائقة على استنطاق مثل هذه الأشياء البسيطة ..
تبدأ عقدة القصة وبشكل واضح عندما تظهر النسوة وهن متحلقات حول سرير التاج ..فهنا يشفق القارئ على بطلنا من أن يقوم أصحاب المنزل بطرده لأن من طرد من قبل كان بفعل أصوات بعض النساء القادمة من ذلك المسكن ..وتبدأ أنفاس القارئ في التتابع وينقبض القلب ولكن الحالة النفسية التي يعيشها القارئ تكون مزيجاً من الحذر والخوف .. الخوف على طرد بطلنا من المنزل ليبدأ رحلة البحث عن سكن جديد ، وهل سوف يحظى بضب مثل هذا الضب في مكان مثل هذا المكان ؟ والحذر حتى لا يفسد أي شيء خارجي متعة القص لمثل هاتيك الأحاديث ذات البعد الأيروسي .. رغم أن القاص استطاع أن يباشرنا بها دون أدنى خدش لحياء أو فضيلة وقد كان بحق متمكنا في سرده المترع بالذوق والأدب .. وتبدأ نفوسنا تهدأ وتستريح صدورنا من الخفقان حينما نصل إلى أن التاج كان في محض طيف وحلم ليس إلاِّ .. وليتنا لم نلمح لفظ ( نائم ) في القصة .. فهنا يمكن القول أن ثمة عيب لأن القاص قد أوضح في بداية العقدة أن التاج كان نائماً ...ليبرر تحلق النسوة من حوله وليت القاص أخفى هذا ليفتح للقارئ المجال لاستدراك ذلك من خلال ما قام الراوي / التاج بوصفه ساعة الصباح ذلك الوصف الرائع لحالة بطلنا وصفاً لا يمكن يفهم منه غير أن التاج كان نائما وكانت النسوة محض طيف بددته شمس الصباح ومشاكسات الضب المعهودة ..
القاص ناجي البدوي كان في هذه القصة مبدعاً ومتمكناً ، واستطاع أن يسيطر علينا وعلى حواسنا تماما بسرده الشيق وأسلوبه المتميز .. مما يحدونا أن نقول إنها .. نعم .. نوايانا المروَّضة ..
عروة علي موسى ،،،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.