الراي3 يا سيادة الرئيس موقف المعارضة من أزمة هجليج يفتح الباب واسعاً أمام الوحدة الوطنية إدريس حسن يوم الجمعة الفائتة كان يوماً من الأيام الخالدات في تاريخ السودان، ليس من حيثُ الانتصار الذي حققته القوات المسلحة فحسب، فذاك نصرٌ مقدرٌ ومعتبر نعتز به جميعاً، ولكن تبدت تاريخية ذلك اليوم في التلاحم الشعبي بين الجيش والشعب، وهو الشعار الذي طالما رفعه السودانيون وتغنوا به لحناً ونشيداً «جيشٌ واحد.. شعبٌ واحد» حينما انحاز الجيش لخيار الشعب في أكبر انتفاضتين وثورتين شهدهما العالم العربي قبل ثورات ما سُمي «الربيع العربي».. فقد تحرك المواطنون في تلك الجمعة في كل أنحاء البلاد نحو أي مكان توجد فيه قيادة للقوات المسلحة ليعبروا عن تلاحمهم مع القوات المسلحة التي طالما حمَّلوها هذا الوطن وترابه أمانة في عنقها، فما خانت الأمانة في يوم من الأيام وما فرّطت في حدوده.. إنّ ذلك التلاحم القوي والمعبّر يدفعنا الى السؤال الذي طالما ظلّ يؤرق مضاجعنا: لماذا نتلاحم عندما تهدد البلاد المخاطر والخطوب وتكاد تدفع بها إلى قاع سحيق؟؟ ولماذا نتفرق حين يكون علينا أن نتلاحم من أجل التوافق السياسي الداخلي الذي سيقودنا حتماً إلى البناء والتعمير والعلو من شأن بلادنا وشعبها؟؟ ولا بُد لنا في هذا السياق من وقفة طويلة نتأمل فيها مليَّاً موقف هيئة تحالف أحزاب التجمع المعارض الذي أعلنته بعد احتلال حكومة الجنوب لمنطقة هجليج.. وهو موقف ارتفع بهم إلى مستوى التحديات التي مرت وتمر بها البلاد بعد أن أعلنت الهيئة رفضها التام لاحتلال هجليج وادعاء حكومة الجنوب ملكيتها.. فهم بتصديهم للمسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقهم بذات القدر الملقى به على عاتق الحزب الحاكم، ارتفعوا إلى مستوى عالٍ من الادراك الوطني لما يحيط بالبلاد من مخاطر. فالمسؤولية الوطنية هي مسؤولية مشتركه لا يمكن أن يدعي حزب أنّ بإمكانه أن يضطلع بها وحده دون غيره من الاحزاب، ولا أن ينهض بأعباء الدفاع عن السودان وتعميره وتطويره دون أن يشاركه الآخرون. ونحنُ هنا لا نثني عليهم فهذا واجبهم الذي تقتضيه منهم ضرورات من يتصدى للعمل العام، ولو لم يفعلوا ذلك لما استحقوا أن يكونوا الكيان المعارض للحكومة. أي بمعنى أنهم هم الذين سيكونون حكومة الغد في حالة ترسيخ المبادئ الديمقراطية وقبول الشعب لما يطرحونه من برامج ومشروعات، وفي ذات الوقت فإن الحكومة التي لا تقبل الرأي الآخر الداعي لتحقيق الأمن والاستقرار في البلاد هي حكومة غير جديرة بادارة شؤون البلاد، لأنها بذلك تنهج نهجاً ديكتاتورياً متسلطاً يدفع البلاد إلى أتون الصراعات التي لم نجنِ من ورائها غير المشكلات والصعاب. ورغم ذلك الموقف الشجاع والواعي من المعارضة، إلا أنّ هنالك بعض قيادات الحكومة ما فتئت تكرر أقاويل دأبت على ترديدها دائماً بالحق والباطل وفي السراء والضراء. ومن المؤكد أن الوضع الراهن الذي تمر به البلاد ليس هو الوقت المناسب لمثل هذه الأقاويل التي تفرِّق ولا تجمع، ونحنُ لا نجدُ تفسيراً مناسباً لمثل هذه الحالات الغريبة والشاذة، إلا أن تكون هذه حالة مرضية لبعض قيادات الحكومة نسأل الله لهم عاجل الشفاء منها. لأنّه وكلما استجدت الأحداث التي تستوجب توحيد الصفوف، ارتفعت مثل هذه الأصوات التي تشبه فحيح الثعابين وتقول كلاماً لا فائدة تُرجى من ورائه، وما قلناه هنا حول تلك القيادات ليس من نسج خيالنا ولا من بنات أفكارنا، فقد قاله أحد قادة المؤتمر الوطني وهو الأستاذ سيد الخطيب وهو أحد الشخصيات المهمة التي صنعت اتفاقية نيفاشا 2005م، وهو رجل عُرف بالاعتدال والعقلانية، وله قدر وافر من العلم والإدراك في المجال الاستراتيجي، لذلك أولاه الحزب الحاكم إدارة مركز الدراسات الإستراتيجية، فقد كتب الأستاذ سيد الخطيب في إحدى الصحف اليومية، أنّ هناك مجموعة داخل المؤتمر الوطني وافقت على توقيع اتفاقية نيفاشا، ولكنها قالت «إن الوضع سوف يستمر كما هو وكأنه ليس هنالك اتفاق سلام»، وهي المجموعة التي أفشلت تنفيذ الاتفاق، وبجانب تلك المجموعة هنالك ايضاً كيان سياسي موالٍ للحكومة ظلّ يطرق طبول الحرب بلا توقف منذ توقيع الاتفاق وحتى بعد أن ذهبت الحركة الشعبية جنوباً عبر الاستفتاء وكوّنت دولتها الخاصة بها، ولكن ذلك الكيان ظلّ يطرق طبول الحرب بدأبٍ غريبٍ حتى صار كأنّهُ حكوميٌّ أكثر من الحكومة وملكيٌ أكثر من الملك، فكتب في الصحف وأقام الندوات للتشكيك في الاتفاقية التي أوقفت الحرب التي استمرت حوالى خمسة عقود من 1955م الى 2005م مع فترات قليلة ساد فيها السلام الحذر، ومن الغريب أنّ هذا الكيان وبعد أن انفصل الجنوب حمل طبوله يقرعها في الشأن الدارفوري وكأنّه يُمهد لفصل دارفور أيضاً.. ثمّ حمل طبوله مرةً أخرى وبإصرارٍ غريب في أحداث ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وكانّه تعهد بتمزيق السودان وتشتيت أطرافه. ومن المؤكد أن أزمة احتلال هجليج كان من الممكن أن تتحول إلى فرصة للتضامن الوطني بين المكونات السياسية، لاسيما أنّه ليس هنالك اختلافٌ كبيرٌ في البرامج السياسية لمعظم الاحزاب الكبيرة والتي تحظى بتأييد الغالبية العظمى من الجماهير. ولكنّ ذلك التضامن الوطني كان يقتضي من المؤتمر الوطني أن يسعى نحو تلك الأحزاب فهو الحزب الحاكم الذي بيده السلطة، وان يترك بعض قادته النبرة العدائية التي تفرق ولا تجمع وتترك في القلوب كثيراً من المرارة، فالسودان ليس مِلكاً لحزب المؤتمر الوطني بل هو ملكٌ لكل أهله على الشيوع، ولا يمكن لحزبٍ أن يدّعي أحقيته بالوطن دون بقية الأحزاب. فالأحزاب تقوى وتضعف، والحكومات تأتي وتذهب، ويبقى الوطن لأبنائه دون تمييز. إنَّ الحكومة القائمة الآن والتي كان من المتوقع أن تكون حكومة قاعدة عريضة، هي في حقيقة الأمر حكومة قاعدة ضيقة للغاية، فهي لم تستطع أن تستقطب من الاحزاب الكبيرة سوى الحزب الاتحادي الديمقراطي وأحد أبناء السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة، وبقية الأحزاب الصغيرة التي انشقت من أحزابها الأصيلة ودخلت الى الحكومة منذ قانون التوالي، وهي بصغرها وقلة تأثيرها على الشارع السياسي لم تستطع أن تؤثر في المسيرة الوطنية ولا أن تقدم شيئاً ينفع البلاد والعباد، وحتى الحزب الاتحادي الذي شارك في الحكومة هو في حقيقة الأمر تصدّع وانقسم الى عدد من الاحزاب وصلت في مجموعها الى سبعة فروع وكلها رافضة لمبدأ المشاركة، لهذا نعتقد أن على حزب المؤتمر الوطني أن يعيد التفكير في مشاركة هذه الأحزاب الصغيرة له في الحكم طالما أنّها لم تؤثر في مسيرة البلاد. فهي أحزاب بلا جماهير وبلا برامج سياسية وقيادات بلا قواعد، ويكفي تصديقاً لذلك أنّها تنفذ برنامج المؤتمر الوطني دون أن تقدم برامج سياسية تجد القبول والتقدير، وهذا ليس أوان المجاملات ولا الترضيات، فالظروف العصيبة التي تمرُّ بها البلاد تحتاج إلى مشاركة أحزاب قوية تتوافق على برامج وطنية مع المؤتمر الوطني وتشارك بفاعلية في مسيرة البناء، وبالطبع فإنّ تلك الأحزاب ستقدم كوادر ذات خبرة ودراية في العمل العام، ولن تقدم شخصيات لا تعرف جنوب كردفان من شمالها ولا تدري ولاية النيل الأزرق من ولاية النيل الأبيض.. فهذه شخصيات كل مؤهلاتها للعمل العام أنّها حملت الاسم المتوارث أباً عن جدٍ، كما نضيفُ شيئاً مهماً لهذا المقترح، وهو أنّ هنالك شخصيات وطنية لها تاريخها الوطني ولها تجاربها وهي لن ترفض المشاركة إذا ما دعيت للعمل من أجل الوطن، وما نقوله هُنا يؤكد أن حواء السودانية لم تعقم، ومازالت تنجب في كلّ يومٍ أبناءً يحبون هذا الوطن وعلى أتمّ استعداد لتقديم الغالي والنفيس من أجله. إنّنا في هذا المقال نكررُ وللمرةِ الألف ما قلناهُ في مقالاتٍ سابقة بأنّ الرئيس البشير وبما له من تفويض شعبي يستطيع أن يقود مبادرة وطنية للم الشمل، وفق رؤية وطنية صرفة، تكون مصالح الوطن فيها أعلى وأبقى من المصالح الشخصية والحزبية، وعليه أن يبادر بطرح مشروع وطنى يغتنم فيه روح الوفاق الوطنى الذى أفرزته هذه الأزمة، لأنّه الرئيس الذي يمسك بمقاليد السلطة الآن، ويملك تفويضاً يمكن أن يقود به هذه البلاد إلى برِّ الأمان.. مشروع وطني تتوافق عليه كل القوى الوطنية في البلاد لإنقاذ الوطن والمضى به إلى بر الأمان فى هذا الظرف العصيب.. مشروع وطنى لا يملك العالم ولا تملك القوى الدولية والإقليمية إلا الإذعان والامتثال له، ومن المؤكد أن هذه القوى ظلت تراهن على ضعف وحدتنا الوطنية وتشتت قوانا السياسية، وهي تطرح سيناريوهاتها المسمومة الرامية لتقويض الوطن. وإذا ما فعل السيد الرئيس ذلك وهو القادر على الفعل، فسوف يجد من يلتف حوله من الوطنيين الصادقين والحادبين على إنقاذ البلاد من هذه الهاوية السحيقة التي تنحدر إليها بسرعة مخيفة. أمّا الجنوبيون فعليهم أن يعلموا أنّهم حققوا بالسلام ما لم يحققوه بالحرب التي قاتلوا فيها زهاء الخمسين عاماً، فما استطاعوا أن يدخلوا مدينة من مدن الجنوب الكُبرى بالحرب والسلاح، ولكنّهم دخلوا كل مدن الجنوب بالتفاوض والسلام، وعليهم أن يعلموا أيضاً أنّ مصالحهم مع الشمال أكبر من مصالحهم مع أية جهة اخرى في العالم، وحتى تلك الجهات التي تحضهم على استهداف الشمال إنّما هي تحضهم على استهداف مصالحهم قبل كل شيء، وبلا شكٍ فإنّ انعكاسات الحرب على المواطن في الجنوب أكبر من انعكاساتها وتأثيرها على المواطنين في الشمال، فعلى أقلّ تقدير الشمال له دولة قديمة وراسخة ويحظى ببنية تحتية اقوى مما في الجنوب، وإذا كانت هجليج قد عادت اليوم فهذا جهد المقل، لأنّ القوات المسلحة بما لها من عدة وعتاد قادرة على الدخول لكل مدن الجنوب، لكنّ هذا ليس هدفها وليس هدفنا، إنّما نهدف لخلق جوارٍ آمن يتمُّ فيه تبادل المصالح والمنافع وليس المشكلات والأزمات. ومن المؤسف أن نرى النخب الجنوبية الحاكمة والمتنفذة الآن فى الجنوب تتصرف ك «مخلب قط» للقوى الدولية، وتستبد بها النشوة وهى تعلن استهانتها وازدراءها للمؤسسة الدولية وأمينها العام تماماً بذات الصلف والغرور الذي يتعامل به قادة إسرائيل مع المجتمع الدولى، لذا عليهم أن يتذكروا أنهم لن يظلوا الى الأبد الطفل المدلل لتلك القوى الدولية، فرياح السياسة ليست على ثبات وهى تتقلب بتقلب المصالح، وعليهم أن يأخذوا العبرة من حكام وجنرالات سابقين من شاكلة موبوتو وبوكاسا وشاه إيران وماركوس الفلبين الذين ظنوا أن الغرب هو حليفهم المؤتمن، فانتهى بهم الحال إلى لاجئين يتسولون اللجوء والعلاج فى الغرب فلا يجدونه. وفي ختام حديثنا هذا نؤكد أنَّ ما يهمنا في كل هذا هو استقرار البلاد في جميع نواحيها الأمنية والاقتصادية والسياسية، وإيقاف النزاعات والحروب في جميع أطرافها، وهي حروب خضناها وجربناها ولم نجنِ منها شيئاً سوى الدمار والخراب، فلا أقل من أن نتعظ من تجارب الأمس المؤلمة من أجل غدٍ أفضل لنا ولأبنائنا من بعدنا. الصحافة