[email protected] مرت على الاسلام كديانة قرون كثيرة , وأطوار تاريخية مختلفة , وتقلبات مرت بالخلافة الراشدة التي كانت أولى محنها ردة القبائل العربية بعد حين من وفاة النبي محمد (ص ) كمؤشر على مزج الدين بالسياسة ومؤشر على فرض فئة على المجموع , فالدين لكل الناس , والسياسة لفئة قليلة منه , فخرج من هذا التضاد كل الاختلافات وكل المذاهب وخرجت الدولة الأموية العربية التي ميزت نفسها عنصريا على بقية الشعوب الداخلة في الإسلام من موالي الفرس والترك والشركس , هذا التعالي ميزها على المجموع ورفعها عن القاعدة الجماهيرية للأمة المسلمة على إختلاف ألوانها ولغاتها , وخرجت الدولة العباسية نقيضا للدولة الأموية دولة أعجمية كما قال الجاحظ في كتابه " البيان والتبيين " لأنها قامت على سيوف الفرس والشعوبيين وكان قائدها الأول أبو مسلم الخرساني الذي أزال الخلافة الأموية , فتوسعت الدولة لثورات الشعوب غير العربية وانتقلت مراكزها إلى تخوم تركيا وإيران , وفي الدولة العباسية الممتدة أعيد تفسير الإسلام كله وأضيف للمخطوطات القديمة التي نجت من الإعدام ما يوافق الاتجاهات الشعوبية , وأول ما أضافته تلك الثقافة الجديدة بظهور فقهاء وعلماء من الموالي الدعوة لأمية النبي محمد (ص ) ولأمية العرب أجمعين مفسرين الآيات بمعان محدثة حتى ينفردوا بوضع الأحاديث وبوضع التفاسير دون خوف من معارض أو ناقد وأن يجعلوا الدين كله خاضعا لهم بلا حراك , وعن طريق هؤلاء الفقهاء اخضع الفكر للتمييز بين الاسلام وبين العصر قبله كحقبة أطلقوا عليها ( الجاهلي ) مع أن التاريخ الصحيح يثبت أن العرب قبل الاسلام كانوا أهل علم وأهل ترجمة وكانوا يرحلون لجلب الكتب من بلاد الفرس وغيرها , بل إن الاسلام أخذ عنهم تحريم الربا وتحريم الزنا وقطع يد السارق ( وقد أمر به عبد المطلب جد النبي ( ص ) الذي كان حنيفيا يدعو الى التوحيد , وأخذ تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير والنهي عن وأد البنات بل أخذ عنهم الصوم وغسل الجنابة وتعظيم الكعبة التي كانت واحدة من 21 كعبة منتشرة في جزيرة العرب وميزوا كعبة مكة لوقوعها في أهم طريق تجاري قديم بعد إنهيار طريق الحرير الذي كان يذهب بالقوافل بين أوربا والصين ولم يضف الإسلام سوى نهي الناس عن الطواف حول الكعبة في حالة عري لأن العرب كانوا يأنفون من ارتداء ملابس ارتكبوا فيها الاخطاء والذنوب بل أخذ عنهم الحج والعمرة بنفس مواقيتها وبنفس شعائرها , وطور الشعوبيون في الدولة العباسية مفاهيم الحدود ووضعوا لها الأحاديث والقصص والمرويات وإبتكروا " حد الردة " لنتشار الزندقة وأدعياء النبوة من الموالي الذين أحبوا منافسة العرب في نجاح دعوة نبيهم كما استعلموا حد الردة في قمع الثورات والفتن التي يقوم بها الفرس والشيعة وصاروا أكثر تطرفا كلما إبتعدت الخلافة عن أصولها العربية فادخلوا الرجم للمحصن وأضطهاد النساء اللاتي صنعوا لهن صوالين الحريم وصنعوا فقها خاصا بهن مازال منتشرا حتى اليوم وتحولت الخلافة بحكم التاريخ وبقوانين الاجتماع الى المماليك ثم الى العثمانيين الاوربيين حيث كان آخر خليفة للنبي محمد (ص ) اوربيا من تركيا وكانت نهايته على يد الاوربيين انفسهم . تحت كل ذلك التيار التاريخي والانقلابات والتحولات والدماء من أجل أنواع من الشريعة والحكم كان هناك نوع آخر من الاسلام ينتشر ويتمكن مرة بالعقل الغريزي الفطري ومرة بالعقل العلمي المدروس ولا يجد ظروفه الطبيعية للنمو والازدهار الا بعيدا عن السياسة وأرباب الشريعة وحاملي المدافع والرشاشات والسيوف , ذلك الإسلام العميق الذي نفر من قطع اليد كما ينفر منه القرآن بتفاسيره المباشرة داعيا الى التوبة والذي ينفر من القذف والتبشيع بأعراض الناس وتتبع هفواتهم في منازلهم من تلك الافعال التي يقوم بها النظام العام وعصابات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مشددا على إثبات الزنا بشهود كأن الزنا جريمة لا تحدث اطلاقا , ذلك الاسلام العميق الذي يرى في السرقة خاصة سرقة اولى الامر ومن وضعت عندهم الأمانة عملا مهينا بكرامة الآدمي قبل أن يكون عملا مستحقا للعقاب بالسجن والغرامة , ورغم تبدل الأزمان مازال الملايين من الناس لا يحتاجون ( لدولة ) كي يقولوا لا اله الا الله محمد رسول الله , أو كي يقوموا بعباداتهم التي تصل بهم الى مصاف الضمير العصري الذي يأبي السرقة عقليا ويتجنب الزنا ويتأفف من القذف في أعراض الناس دون حاجة الى عصا الخليفة العباسي الغليظة وصولجان الحجاج بن يوسف الثقفي المخيف , لقد تحول الإسلام مع مرور الزمن الى دين عميق متحولا من شريعة الأمويين والعباسيين الذين تحولوا بالخلافة الى ملك عضوض وجعلوا من الخلافة اسلاما جديدا تبعهم فيه كل من سعى وطمع في السلطة محاولين الاستفادة من تشريعاتها وتبدل تفسيراتها في تثبيت ملكهم المختلف عليه والمحترب حوله , اذ لم تكن الشريعة التي أبقتهم خلفاء وحلفاء للشعوبيين والفرق سوى فكر يحمي الحاكمين والظالمين من المحكومين والمطالبين بحريتهم وحرية دينهم . الشريعة والملك وجهان لعملة واحدة , مكانهما القصر , يبعث الشريعة من يشاء من الكتب الصفراء و أما ما وصل الينا من تحت جسور احلام الخلفاء فهو الاسلام العميق , اسلام وجدانات بلورها الزمن فكانت هي المنطلق الديني الصحيح من القرآن الكريم الذي يحمل وجوها عديدة ولا يثبت على وجه واحد الا الوجه الجماعي تاريخيا واقتصاديا وقانونيا , وهو إسلام المتصوفة الذين يجعلون من الشريعة مهزلة المهازل في الدين , فالدولة المعتمدة على الشريعة ( العباسية ) الفقهية قامت عرضا في الإسلام ولم يجعلها الإسلام ضرورية ولم تكن هدفا له في طريقه الى العالمية والصلاح لكل زمان ومكان بل اكثر ما افسد المسلمين وضرب عليهم التخلف والرجعية انما يأتي من ادبيات الشريعة التي صممت على مقاس المستبدين وأدعياء الدين والجهلاء , فاي شخص يؤسس حزبا دينيا فهو كمن يؤسس دينا جديدا ونبوة اخرى غير نبوة الإسلام ويفترض إرادة غير إرادة الله لأن الحزب يحاول دائما أن يحاصر حرية دين عالمي عظيم وأن يحصره في ارض محددة كمن يحاول ان يحصر البحر في زجاجة , فالاسلام العميق هو إسلام العصر الحاضر كما عرفه الناس من تقاليده العاطفية العظيمة ومن طرقه الصوفية التي فتحت الدروب للتلقي كفاحا دون واسطة ومن أحاسيسه التي ظهرت في الآداب والفنون في كل إحساس عالمي آمن به المسلمون وإحترموه ومن كل شعور انساني جعل المسلمين في مشارق الارض ومغاربها اول من يتمسك بمبادئ الاممالمتحدة وبالمقررات الدولية لحقوق الانسان ولرعاية البيئة والطفولة ومحاربة الفقر والجوع والامراض المتوطنة دوت تمميز عرقي او ديني او سياسي , وهنا يتحد الاسلام العميق مع العالم ويكون جاهزا للتحديات العالمية والفكرية الكبيرة , ذلك الإسلام الذي جعل المسلمين قبل قرنين من الزمان يقولون حينما ذهبوا لمدن الغرب وجدنا الاسلام ولم نجد المسلمين , أي ان الغرب أخذ مبادئ الاسلام العميق والمتسامح المنفتح كمنطلق جديد للمسيحية فتوصلوا الى ما اراده الاسلام من مبادئ الحكم الرشيد والقانون والدستور والتعددية ودولة الحقوق والمواطنة بعيدا عن الاسلام ا لسطحي الذي تجسده شرائع طالبان والسودان في عالم اليوم . نحن في السودان اهل الاسلام العميق الذي يتطور بالممارسة ويزداد قوة بالمعرفة العامة لأننا لم نكن في يوم من الأيام تابعين لخليفة من الخلفاء خاصة الخلافة العثمانية وانما كنا نعيش بالاسلام وليس بالخلافة ونعيش بالدين المتسامح على قدر حالتنا الاقتصادية بلا شريعة غير ما تيسر فلم يكن هناك تناقض بين الحكم والمجتمع ولا بين الشريعة والاسلام فلم نسمع بمن نادى بثورات الشيعة او الخوارج او الفاطميين من السودانيين ضد أي خليفة سواء أكان في بغداد او دمشق او الكوفة او الاستانة ولذا لا يفهم السودانيون الاسلام الا بانه دين وأمة وليس دين ودولة .