(ود البلد) [email protected] ثمة عوائق اعترضت طريق الثورة السودانية التي انطلقت منتصف يونيو الماضي، ولكنها لم توقف المد الثوري وان عطلت بعض ادواته الفاعلة، وقد اعتمد النظام منذ استيلائه علي السلطة في 30/يونيو/ 1989م سياسات تبقيه في معزل عن الثورة والاطاحة به رغم ان فرص الثورة في السودان توافرت حتي قبل ان تهب الشعوب العربية لانتزاع حقوقها في سياق موجة الربيع العربي العاتية التي اقتلعلت انظمة عتيدة في محيطنا الاقليمي، في المقالة التالية نستعرض سياسات النظام التي مكنته من البقاء طوال (23) عاما وعما اذا كانت هذه السياسات كالسحر الذي ينقلب علي الساحر في نهاية المطاف: التجويع مقابل البقاء: انتهج النظام عقب نجاح انقلاب 30/ يونيو سياسات جديدة لاعادة صياغة المجتمع السوداني بهدف قتل الروح الوطنية وكسر صموده وقدرته علي النهوض من جديد لاسقاط الانظمة الشمولية، وبما ان الروح الوطنية كانت هي الوقود الذي تزودت به ثورتا اكتوبر الاخضر وابريل، فان النظام اعتمد علي نهج يودي في نهاية المطاف لهدم روح التراحم والتكافل والتعاضد ونصرة المظلوم في المجتمع السوداني، وقد تمكن النظام خلال سنوات حكمه الماضية من خلخلة تلك الروح واحل ملحها روح تتسم بالانانية، ومع التركيز علي سياسة التجويع والافقار الممنهجة، اصبح الناس، كل علي حدة، يفكر في حدود (الانا) الضيقة، بالتالي صار الهم الاكبر لعموم شعب السودان المكافحة في سبيل البقاء والانصراف عن القضايا الوطنية الكبري لهموم الدنيا، ولكن ما غفل عنه النظام، رغم نجاح سياسته هذه في اضعاف الثورة في نسختها الاولي، ان ثورة الجياع ليست مثل كل الثورات التي اقتعلت انظمة عتيدة من حولنا، بالطبع نحن ليس مثل الشعب الليبي أو المصري أو اليمني أو السوري أو التونسي، فتلك الشعوب هبت لتاثر من حكامها الذين صادروا حقوقها في الحرية وليس لانها جاعت، بل ان الشعب الليبي كان يرفل في نعيم الدنيا، بينما في السودان، وبفعل سياسات النظام، كان التهميش التنموي والاقتصادي سببا رئيسا في اشتعال الحروب في الاطراف كواحد من اشكال التمرد علي النظام الذي انتقل للعاصمة في الشهور الثلاث الماضية في الثورة السلمية التي حركها الجوع والاذلال واصرار النظام علي قتل الروح الوطنية للانفراد باتخاذ القرارات المصيرية، وكان انفصال الجنوب بمثابة انبعاث جديد للروح للحفاظ علي ماتبقي من نسيج اجتماعي وتفادي مخاطر الابادة الجماعية للشعب السوداني، حتي في المركز، باتباع سياسة التجويع، ومع تردي الاوضاع الاقتصادية، فان سحر التجويع في طريقه للانقلاب علي الساحر الذي ما عاد قادرا علي كبح جماع الفقر الذي صنعه أو ايقاف النزيف الاقتصادي. تغيير المناهج: (جيل الانقاذ) صار الثمة العامة لجيل انا واحد منه بحكم تطور الشخصية، فانا عندما قامت الجبهة الاسلامية بالانقلاب علي الديمقراطية الثالثة كنت في الصف الثالث المتوسط، وكنت شاركت، مثلي مثل الكثير من دفعتي الذين بلغوا الان الاربعين من عمرهم، في انتفاضة ابريل التي وقعت في عام 1986م وانا بعد في الصف السادس الابتدائي، حينها كان التعليم في السودان يحظي باحترام فرضه معلمين اجلاء طبقوا المناهج التربوية التعليمية كما ينبغي، واذكر اننا بالاضافة لحصولنا علي التعليم المجاني، فقد تمتعنا بفرص نادرة لم يحظي بها جيل (مرحلة الاساس) لتطوير مقدراتنا ومواهبنا، فقد شكلت الجمعيات الادبية والمكتبات المدرسية والمسرح المدرسي أهم ملامحنا جيلنا الشخصية التي صقلها حب الوطن والدفاع عنه عبر نشيد العلم الذي كنا نردده كل صباح بحماسة حتي ان نشيد العلم كان يسمع في كل احياء مديتنا، ثم اتي من بعدنا جيل عملت الانقاذ علي تجريده من روحه الوطنية بتطبيق سياسات تعليمية ومناهج ثبت فشلها بمرور السنوات، فالكثير من المؤاد التي تدرس الان لطلاب الاساس في مراحلهم الاولي عبارة عن حشو لايناسب مقدرات الطلاب واستعدادهم الفطري للتعلم، وقد ادت سياسات النظام الذي رفع يده عن التعليم الي انتاج جيل (تائه وطنيا) ان صحت العبارة، جيل يشكل الفاقد التربوي فيه اغلبية لم يعد وجودها مقتصرا علي الريف حيث تنعدم الخدمات الاساسية كليا، وانما حتي في المدن الكبري، وقد كشفت دراسات حديثة عن ارتفاع نسب التسرب من المدارس في كل المراحل لاسيما مرحلة الاساس وذلك لعجز الكثير من الاسر عن تحمل كلفة التعليم الباهظ، لقد اراد النظام تنشئة جيل كامل تشكل نسبة الامية فيه حوالي 80%، ولكن سياسة التجهيل، بجانب تحطيم كل من نحج في الوصول لمراحل تعليمية متقدمة بابقائه في دائرة البطالة القاتلة والضياع بين الدروب وادمان المخدرات التي تورطت الاجهزة الامنية في الترويج لها، خلقت جيلا تغلب عليه روح الانتقام ممن كل من تسبب في ماساته الراهنة وانتزاع حقوقه عنوة واقتدارا، وكما سياسة التجويع، وجد النظام نفسه في مواجهة جيل من صنعه، جيل قرر ان يحدد مصيره اخيرا، ليس لاجله وانما لاجل اجيال قادمة ستخرج من صلبه. الفساد وسيرة الاسلام السياسي: مؤخرا اعترف رئيس العصابة الحاكمة المطلوب لدي محكمة الجنائيات الدولية بالاثار الخطيرة لسياسة التمكين واعلن توبته عنها، ولكن بعد ماذا؟، ان سياسة التمكين افسدت الخدمة المدنية السودانية التي كانت تتمتع بالسيرة الحسنة، وقد اخترق النظام كل القوانين المنظمة للخدمة المدنية التي تحدد هيكلها الاداري عبر نظام ترقية صارمة، ولكن، ومنذ تطبيق سايسة (الكادر المفتوح) بدأ الانهيار الفعلي للخدمة المدنية حيث صار الحصول علي ترقية يعتمد في المقام علي اهل الحظوة والتمكين للفساد، لذلك فان القيادات الموجودة علي قمة هرم الخدمة المدنية الان (مدجنة) بشكل كلي، ويتسم ادائها بالضعف المهني، مثلا يقوم والي الولاية بتعيين المدراء العاميين والتنفيذيين لاي وزارة او محلية، وفي سبيل التمكين فقد تم تهميش القيادات الحقيقية في الخدمة المدنية الأمر الذي اتضح جليا في الوزارات الخدمية الكبري (الصحة والتعليم والزراعة)، وبما ان الفساد صار من اهم مقومات الترقي، فانه تشكلت شبكات لنهب المال العام يتورط فيها صغار الموظفين مع الكبار، لذلك صار من المستحيل محاكمة القيادات لان محكامتها ستعري النظام برمته ودروه في تدمير الخدمة المدنية المحرك الرئيس لحياة المواطنين والثورة عبر سلاح النقابات والاتحادات والعصيان المدني والاضراب عن العمل، ولكن رائحة الفساد التي ازكمت الان، والفجور في ممارساته امام العيان، وضعت عامة الناس في مواجهة خطر مشترك ينهش في اجسادهم، فالفساد هو الذي ادي للانهيار الاقتصادي الراهن وليس انفصال الجنوب، وقد شكل الفساد الوقود الذي ذود ثورات الربيع العربي بزخم كبير فعقب انهيار كل نظام يظهر فساده، ولكن في الحالة السودانية ظهر فساد الرئيس واشقائه واركان حربه الكبار منذ وقت مبكر، وكما نال الفساد من الخدمة المدنية، فانه نال من سمعة رئيس العصابة الحاكمة الذي كان يحظي، حتي وقت قريب، بتعاطف شعبي باعتباره شخصية ذات طابع قومي لم تتورط قط في الفساد، كما ان نهج الفساد هزم المشروع الاسلامي الذي ما زال النظام يتخذه درعا واقيا لثورة الشارع التي تمضي الي نهاياتها، ليس لوضع حد للفساد، وانما لتطهير الخدمة المدنية مستقبلا واعادتها سيرتها الاولي بعد اسقاط النظام الذي سيسقطه فساده اولا واخيرا. اذا انتصرت الثورة ولكن..!! لم تموت الثورة السودانية ولكن روحها تتهيأ للنسخة الثانية، ولعل من اهم الصعاب التي ستعترض طريق الثورة واعاقة مسارها ما ذكرنا من اسباب موضوعية، لذا ولكي تكسب الثورة نقاط اضافية في نسختها الثانية لابد من استصحاب افكار جديدة واولها النظر بعين الاعتبار لسياسات اعادة صياغة المجتمع ومنها صيغة (الانا) المفرطة في الانانية التي تقتل روح التضامن كمطلب فوري وضروي لمنح النسخة الثانية من الثورة زخما اضافيا، فتحويل صيغة (الانا) لصيغة (نحن) يعني توجيه ضربة قاتلة لقلب النظام، صحيح ان توحيد جهود الشارع امر صعب، ولكنه ليس مستحيلا علي اية حال، بل ان النظام سيساعد الثوار بتوحيد اسباب الثورة ضد الظلم والقهر والاذلال والتجويع، وكل ما نحتاجه لالغاء صيغة (الانا) هو التوعية بالحقوق العامة، وبحكم التجربة المريرة للنظام في هضم حقوق الشعب، فان عامة الناس صار يطرح اسئلة جريئة عن حقوقه في التنمية المتوزانة العادلة والعيش، والمطلوب من شباب الثورة ارشاد الناس للاجابة الصحيحة وهي اسقاط النظام لان في بقائه استمرار عذاب الاسئلة وحريق المكان بالكامل..!!