وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أهمية القدوة الحسنة في تحقيق التميز المهني


الرشيد سيد أحمد في مئويته:
أهمية القدوة الحسنة في تحقيق التميز المهني
الإنجاز المبهر لمهندس من الزمن الجميل-- نموذجا
بروفيسور د. محمد الرشيد قريش
مستشار هندسي ([email protected])
مركز تطوير أنظمة الخبرة الذكية
لهندسة المياه والنقل والطاقة والتصنيع
لكن لماذا من المهم بمكان أن يبذل المجتمع جهدا مركزا للبحث عن مثل هذه النماذج المضيئة وتقديمها كمثل يحتذي للنشء المتطلع لخدمة وطنه وتحقيق الإنجازات الثرة؟ هناك أسباب عدة:
 أولا أن أي إنجاز هو نتيجة تفاعل "الحافز" مع "القدرات"، و"النمذجة" هي احد أهم وسائل التي توفر مثل هذا "الحافز"، بل وكثيرا ما يكون هذا الحافز هو الدافع ليبزّ الناشيء مرشدة، وما ظاهرة "الحوار الذي غلب شيخه" منا ببعيدة
 ثانيا، أن "النمذجة"– بجانب "التشكيل" ) (Shaping- هي النمط أو الأداة الأخرى والأسرع لتحقيق التعلم : ففي الحالة الأولي ينطوي "التشكيل" علي تقدم طالب المعرفة الناشئ خطوة خطوة في اكتساب المهارات المعقدة تحت سمع وبصر أستاذه المعلم (أو النموذج المحتذي) ، كما هو الحال في تعلم قيادة سيارة "قياسية التحول" (Standard-Shift) أو تعلم برنامج كمبيوتر، أما في حال "النمذجة" فان التعلم يحدث بصورة فورية من خلال مراقبة النموذج المحتذي ثم محاكاة ذلك لاحقا ، على سبيل المثال مراقبة متدربي المهن الحرفية لفني بارع وهو يؤدي عمله أو مشاهدة متدربي برمجة الكمبيوتر لفلم تدريبي.
 ثالثا، فان القدوة الحسنة أو المرشد يعطي النشء مثالاً مجسدا لأمكاناتهم الكامنة في ظل منظور واقعي لبيئة العمل. ويلفت نظرهم –بإبصارهم فقط لإنجازات النموذج -- إلى مواطن القوة والتميز لديهم. ليفتح الأفاق واسعة أمامهم ليكونوا أكثر مما هم عليه الآن، كما يمكن أن يكون مصدر الهام لهم للتطلع لتحقيق أهداف طموحة وأحلام كانوا يعتقدون أنها ليست في متناول أيديهم، مطلقا عنان الخيال الإبداعي لدي النشء منهم، ولنا أن نذتذكر هنا مقولة اينشتاين أن "الخيال أكثر أهمية من المعرفة". وان فكرة أرسطو عن الأخلاق الفاضلة تعتمد إلى حد كبير على تأثير القدوة الحسنة علي الناس، أي أننا –عن طريق "النمذجة" أو المحاكاة المستمرة لطباع أو سلوك الأشخاص النموذجيين ودورهم الاجتماعي – نستطيع أن نتعلم أن نكون أخلاقيين من باب العادة وحدها ، ف"إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ " (كما جاء في الحديث الشريف المرفوع)
 كل هذه المعاني استبطنها رجل أَجِابُ دَاعِيَ اللَّهِ للتَّأَسِّي برسوله (صً) فكان الإنجاز الهندسي المبهر في خدمة وطنه فصدق فيه قول الحسن بن علي (رضي الله عنهما) عن المسلم، مما يشهد له به كل من عرفه:"قوة في دين ، وحزم في لين ، وإيمان في يقين ، وعلم في حلم ، وكيس في رفق ، وإعطاء في حق ، وقصد في غني وتحمل في فاقة ، وإحسان في قدرة ، وصبر في شدة"، وكأن أبو تمام قصده في قصيدته السينية حين قال: إقدام عمرو في سماحة حاتم ، في حلم أحنف في زكن إياس (والزكن هو حسن الفراسة وصدق الحدس)
 ونحن إذ نقدم هنا هذا النموذج المضي للناشئة من المهنيين في مضارب العلوم المختلفة، نأمل أن يجدوا فيه القدوة الحسنة لخدمة بلدهم وتحقيق طموحاتهم المهنية، "فصنائع المعروف تقي مصارع السوء" كما جاء في الحديث الشريف، وحتى لا يصدق علينا القول أن "زامر الحي لا يطرب" وأن العالم فينا " كالحُمَّةِ (أي عين الماء الحارة) يأتِيهَا البُعْدَاءَ ويَزْهَدُ فِيها القُرْباءُ!
طبت حيا وميتا يا أبا اسحق:
وقد كانت في حياتك لي عظات وأنت اليوم أوعظ منك حيا
بدء رحلة عمر من الإنجاز الهندسي المبهر:
 في صباح باكر من عام 1926، بدأ "قطار الغرب" يسحب عرباته بصورة وتيرة كما يفعل كل مرة ينطلق فيها من عاصمة الرمال قاصدا عاصمة البلاد، وبدأت حركة القطار روتينية لكنها دقيقة ومتمهلة وكأن القطار في تمهله يدعو المودعين لضبط ساعاتهم علي ساعة إقلاعه كما عود الناس دائما في ذلك العهد الذهبي للسكة حديد، لولا الظهور المفاجيء في محطة القطار لذلك المربي الوقور قوي الشكيمة محمد حسن دياب—وأكثر المعلمين مهابة في زمانه -- وقد بدأ وكأنه يهرول محاولا إدراك ذلك القطار الذي بدأ له "مستعجلا ببطء" --كما قد يحلو لشاعر انجلتري تشوسر (Chaucer) أن يقول --وكأن القطار يغري شيخنا باللحاق به، لكن هيهات! فحين أدرك الشيخ الوقور استحالة ذلك قنع بأن يترك الأثير يوصل الرسالة التي جاء من اجلها لتلميذه الذي استشف فيه نبوغا مبكرا وحسن خلق مما جعله قريبا من قلبه، وها هو الآن يبصره واقفا علي باب احد عربات القطار الذاهب به وبأقرانه للالتحاق بكلية غردون، لكن الشيخ الوقور ما جاء هنا فقط ليودعه وليقول له كما قال ود المكي في "قطار الغرب" "سلم للأهل ولا تنسنا من الجواب"، بل جاء صوته صادحا يشق سكون الصباح بأمر حسبه أهم من ذلك بكثير: "الهندسة يا الرشيد"! "الهندسة يا الرشيد"! ثم غفل المربي الكبير راجعا راضيا وكأنه كان يدرك بفراسة المؤمن كم بعد وعظم ما أهدي وطنه بكلمتيه القصيرتين تلك!
 الفتي التقطت أذنه رسالة أستاذه ورسخت في قلبه، فمضي ليلتحق بقسم الهندسة بكلية غردون ويصبح –مع مكي عباس- رئيسين لداخليتها، ليقول عنه المهندس الكبير خضر بدري لاحقا: كنا نطلق علي الرشيد لقب "العميد" وهو ما زال طالبا بيننا ! غير أن التحدي الكبير الأول له ولأقرانه في كلية غردون في تلك السن الغضة – الخامسة عشر أو يزيد قليلا- تمثل في أن عليهم القفز من المرحلة الوسطي إلي مرحلة الكلية، إذ لم يكن هناك مدارس ثانوية، وكان التحدي الكبير الثاني له ولأقرانه في قسم الهندسة—وهم الذين لم يمروا بمرحلة الثانوي-- أن أوجب عليهم دراسة نفس كورس الهيدروليكا الذي يدرس لطلبة الهندسة المدنية في كلية بنت (Bennet) في شفيلد بأنجلتري! تحدي بدأ عصيا، لكن ليس علي أولئك الفتية النجباء، و لتمضي الأيام بعدها بالفتي موضوع المقال ليبدأ فصلا جديدا من حياته وهو لم يتجاوز العشرين من عمره !
"ما أكثر العِبَر وأقل الاعتبار" --"إنما يقدر الكرام كريم ويقيم الرجال وزن الرجال" (شوقي):
 وبعد ما يناهز ربع القرن من الزمان، نلتقي بهذا الفتي في باب "الرأي العام من يوم إلي يوم" كمهندس قدير وهو يختم عطاؤه في الخدمة المدنية، ذلك الباب الأثير عند قراء الجريدة وقتها والذي كان يحرره الأديب والمؤرخ الكبير حسن نجيله صاحب كتاب "ملامح من المجتمع السوداني": ونقرأ في مقال مطول له بتاريخ 14-10 –1964 ما يلي: "منذ أيام... وبجانبي صديق كريم رأيته يهز رأسه متعجبا... فسألته عن سر تعجبه...فأجاب...أن المهندس الكبير الرشيد سيد أحمد تقاعد بالمعاش، ولا أدري كم لدينا من خبرات هندسية بشئون الري ومشاريعه القادمة والسابقة في عداده لنستغني عن خبرته لمجرد أنه بلغ الخمسة والخمسين "وهي سن النضج واكتمال الخبرة"، "...الأمم التي أكثر منا تقدما وأقل حاجة... تجعل سن التقاعد الخامسة والستين وقد تمدها للسبعين للممتازين... فما بالنا نحن... نعفيهم من الخدمة ثم نسعى لنستورد أمثالهم من الخارج وهيهات أن يكونوا سدادا لهم" !
 وحق للكاتب الكبير وصديقه أن يعجبا، و نحسب أن الكثيرين ممن سيقرأ ون الكلمات اللاحقة عن بعض المسيرة المهنية الحافلة لهذا المهندس سيشاركونهما العجب ليس فقط في سداد رأي هذين الأديبين حول هذا المهندس، بل أيضا في بعد نظرهما في ذلك الزمان البعيد حول سن المعا ش ويكفي فقط أن نشير إلي أن مؤسسة عريقة كجامعة الخرطوم لم تهتدي أو تنجح في تمديد سن المعاش لبعض منسوبيها لسن الخامسة والستين إلا بعد ما يقارب نصف قرن من تلك المرافعة!
إنما تعرف الشجرة من ثمارها:
مضي الزمان بهذا المهندس في كلية غردون ليتخرج كأول دفعته في قسم الهندسة مع نيله جائزة القسم المسماة "جائزة ليون" لكنه آثر بعدها الالتحاق بوزارة الري رغم الفرصة التي كانت متاحة له للتدريس في الكلية، ليعمل كقدوة ومعلم (Mentor) للعديد من المهندسين الناشئين في الوزارة، أخذا بيدهم عبر مسيرتهم المهنية الطويلة، ومشرفا علي مشروع التخرج للعديد من طلبة كلية الهندسة بجامعة الخرطوم، وكاتبا لكثير من التقارير العلمية حول الري ومياه النيل وتصميم الترع
 ذلك النجاح الأكاديمي المبكر لهذا المهندس لم يبطره ، كما لم تبطره شهادة عارفي فضله، ممن عملوا معه عن كثب عشرات السنين، كعميد المهندسين السودانيين العارف بالله صغيرون الزين حين قال في حقه:
"والله لا أعرف أحدا أكثر منه علما أو أكثر منه تقوي أو أكثر منه نكرانا للذات"
 أو شهادة المهندس محمود جادين، أول وكيل لوزارة الري عنه حين قال:
"أرض الجزيرة الخضراء إن كانت تلفظ، لنطقت باسمه"
 أو ما قاله زميله علي محمود في حفل تقاعده عام 1964من أن:
"اسمه سيظل مرتبطا بوزارة الري مدي الحياة نتيجة أعماله الجليلة التي أداها لهذا الوطن"
 ولا أحسب أنه كان سيبطره -- لو عرف -- ما خطه رؤساؤه من مهندسي الري الأنجليز في ملفه السري حول أداؤه المهني العالي ملخصين ذلك في ثلاث كلمات –وهم المؤمنون بأنهم الأمثل:"هذا معيار إنجليزي" (This is British Standard"! ")، أي المثال الأعلى والمتميز الذي يقاس عليه، تماما كما نقول مثلا أن التعليم الأكاديمي هو المعيار الذهبي (الGold Standard )الذي تقاس عليه المناشط التعليمية الأخرى
 وكل ذلك الثناء المستحق لم يثني هذا المهندس من أن يرسي سجل مهني متميز أوصله لمنصب نائب وكيل وزارة الري لشئون مياه النيل وكان أول من سودن مستشاريها البريطانيين (ألن ومورس)! ، "في ظرف من أحرج الظروف—كما قال عنه نائب وكيل وزارة الري محمد صادق حسن—(حيث) "ساهم... في التحضير والدراسة لقيام مشاريع الري الكبرى كخزان الروصيرص وخزان خشم القربة" وكهربة سنار وقاد وحده مفاوضات تمويلهم واستطاع بإصراره الشديد إقناع البنك الدولي والممولين الألمان بالتخلي عن اعتراضهم علي تمويل –وبالتالي تصميم-- سد الروصيرص علي أسس تقبل تعليته في مرحلة لاحقة وهو ما يجني ثماره السودان الآن،
 كما أسهم هذا المهندس في أعمال "الإدارة المركزية للكهرباء والمياه" بحكم منصبه كمساعد مستشار وزارة الري والقوي الكهربائية المائية، ثم عمل عضوا في مجلس إدارتها بعد تقاعده ، وكان فيما كان أحد مؤسسي "الجمعية الهندسية السودانية" ونال زمالتها عام 1954 وعمل أمينا لمالها لربع قرن ، وكان أحد مؤسسي نادي الخريجين بواد مدني مع رفاقه الأساتذة أحمد خير والشيخ ا سحق شداد وحماد توفيق وآخرون وتحدثت جريدة صوت السودان عام 1943عن حفل وداع أقامه أعضاء النادي و"تحدث فيه الأستاذ حماد توفيق (أول وزير للمالية بعد الاستقلال)... والقي فيه الأستاذ (مصطفي) أبو شرف (أحد كبار المساهمين في الحركة الوطنية التي أتت بالأستقلال ) أبيات من شعره الرصين" احتفاءا ب "عضو...حاز إعجاب وتقدير جميع أخوانة... (و) كان لنقله رنة حزن في جميع أوساط... واد مدني لما جلب عليه من أخلاق كريمة وحسنات نادرة ونشاط متواصل" و"كيف انه كان عضوا عاملا في جميع اللجان التي اشترك فيها" !
 وكتب له المربي الكبير عوض ساتي -أول مدير لوزارة المعارف وأول سفير للسودان ببريطانيا – خطابا في نفس عام1943 هو قطعة أدبية فذة تستحق أن تنشر كلها، لكننا نقتطف منها قوله له" الذي يدهشني حقا انك... كنت...-- رب الحجى والنهي –أكثرنا مرحا...وكنت محور الدعابة الحلوة والنكتة البارعة. يالك من شاب مدهش ! كم أنا معجب بك وبشمائلك ! "، فما أصدق الروائي الإنجليزي سوم رست موم حين قال "أن الإنسان في حقيقته مجموعة رجال لا رجل واحد"
 و كان هذا المهندس أيضا احد مفاوضي اتفاقية 1959 لمياه النيل، حيث شهد بدوره البارز فيها مستشار الري الأجنبي ألن (Allan) بالقول في رسالة له: "أجدني متأكدا من أن الجزء الخاص بك في المناقشات التي جرت حول "اتفاقية النيل الجديدة" أسهم بصورة كبيرة في تأمين ما تم الاتفاق عليه بعد ذلك للسودان" (أي بدفع المفاوض المصري لترفيع عرضه للسودان من 8 الي10 ثم إلي 13 وأخيرا إلي18.5 مليار م3 ، (رسالة بتاريخ (15-9- 1964
 ويعود هذا المهندس بعدها ليعمل كنائب رئيس الجانب السوداني في الهيئة الفنية الدائمة لمياه النيل، وعندما تقاعد ، كان رئيس الجانب المصري للهيئة الفنية الدائمة المشتركة لمياه النيل أول من شهد بدوره المركزي في تأسيسها حين كتب له قائلا:
"وإنني إذ ذكرت فضلك وجهدك في خدمة مياه النيل وهيئتها، فما قلت إلا حقا لأنك كنت يدا قوية بنت لهذه الهيئة تقاليدها" (رسالة بتاريخ 27-12-1964)
ولو أن هذا السجل المهني الفريد توقف عند ذلك لكفي صاحبة فضلا، لكنه مضي ليتضمن أيضا:
 تخطيط وتصميم كل الترع لمشروع القاش ومشروع دلتا طوكر وتشييد منشئات التحكم في المياه وترع وحياض الري
لمشروع تسني باريتريا وعمل الميزانيات لها والمحافظة علي مجري القاش وخور بركة وتهذيبهما للحماية من – وضبط- الفيضانات من خلال إقامة السدود و منشئات ترويض النهر المختلفة (Cut-offs, Levees, Check Dams, Diversions)
 وهو عمل بارز شهد له به كبير مهندسي الري الإنجليز عند انتهاء عمله في شرق السودان قائلا:
"أود أن أشكر لك... كل الحرص والتفاني في العمل والإخلاص للواجب الذي أظهرته...وللمعايير الهندسية العالية التي عالجت بها العديد من المشاكل الصعبة التي نشأت في القاش" (رسالة جورج ن. ألن -- 1945)
 وحين عرض هذا المهندس تجاربه تلك في ترويض القاش وبركة في “المؤتمر الدولي الرابع حول الري والصرف" الذي انعقد في يونيو 1960 بمدريد، (أسبانيا)، عجب المؤتمرون الأوربيون من أن مثل هذا العمل الهندسي الدقيق قد قام به المهندسون السودانيون في أربعينات القرن الماضي! وقد نعود لوصف تلك التجربة الثرة في زمن لاحق إن شاء الله -- لكن ذاك ليس كل إنجازاته، التي تضمنت أيضا:
 تخطيط وتصميم مشروع الحصا الزراعي، وقد حصل بسبب دوره فيه علي نوط الجدارة من الطبقة الأولي من السيد رئيس الجمهورية
 وكان له الدور المعلي في تخطيط وتصميم مشروع المناقل (000800, فدان) مما جعله يكني وسط خبراء الري الإنجليز بالوزارة: ب "رشيد المناقل" (Rashid of Managil) --وهو ما يسمي في اللغة الإنجليزية (Eponymy)، أي "المعادل المعنوي" لمنح صاحب الإنجاز البارز، المواطنة الشرفية لذلك الإقليم --وذلك حسب إفادة أحد أولئك الخبراء الإنجليز، والذي أردف مؤكدا المعني لمحدثه الأستاذ حامد حميده: "أجل، تماما كما نقول في انجلتري ! “Prince of Wales"!
كل هذا ولا زال في رصيد هذا المهندس بقية، بل الكثير! ومنه:
 تخطيط وتصميم ( 500,000 فدان ) من المشاريع الزراعية الخاصة بالنيل الأبيض والأزرق
 وتخطيط وتصميم وتحسين 32 مشروعا من مشاريع الإصلاح الزراعي بالنيل الأبيض والأزرق
 وتخطيط وتصميم وتنفيذ مشروع السليت الزراعي (27,554 فدان)
 وتخطيط وتصميم المرحلة الأولي (16,000 فدان) والثانية (22,000 فدان) لمشروع الواحة
 المشاركة في تخطيط وتصميم مشروع امتداد شمال غرب الجزيرة ( 100,000فدان)
 والمشاركة في تخطيط وتصميم امتداد مشروع الجنيد ( 30,000 فدان)
 وتصميم الترع والمصارف المرتبطة بقنطرة كيلو 57 وعمل الميزانيات لها
 وإعادة تصميم مشروع طرمبات فطيسة وتخطيط وتصميم قنوات ومصارف الهشابة والأشراف والمراقبة علي بيت الوابور(Pump House) والذنبية (Inlet Channel) وحوض الرمي (Discharge Basin)
 والقيام بالمسح والدراسات لخور الجاسر (Investigation & Cross-sectioning)ومشروع الطلمبات بوادي حلفا (Detailed Contouring & Levelling) ، وتحسين مشروع ري خور أبو حبل
 وتخطيط وتصميم (بالاشتراك مع شركة مردوخ ماكدونالد):
 امتداد مشروع الجنيد ( 52,760فدان) وامتداد مشروع خشم القربة (112,610 فدان)
 مع التخطيط الأولي لمشروع ري أراضي الرهد والحواته (1,527,000 فدان)
 والتخطيط الأولي ل ( 50,000فدان) من امتدادات المشاريع الزراعية بالنيل الأزرق والرئيسي و الشمالية
كل هذا السجل الحافل بالإسهامات في خدمة الوطن دفع مستشار وزارة الري البريطاني والذي عمل في السودان لما يقارب ثلاثين عاما أن يجمل حكمه علي إسهامات هذا المهندس في كلمات معبرة:
"إنني أدرك كم السودان مدين لك في نصيبك الكبير من العمل لتطوير أعمال الري والتنمية وخاصة في مجال مياه النيل" (رسالة و.ن.ألن 15 سبتمبر 1964) ، وفي كلماته صدي لمقولة ونستون تشرشل الشهيرة:
"لم يكن هناك يوما مثل هذه الكثرة من الناس تدين بهذا الكثير لمثل هذه القلة من الناس"
""Never was so much owed by so many to so few
حسنا نقول، "فجمال المجد أن يثني عليه، ولولا الشمس ما طلع النهار"، كما أخبر المعري بذلك ، لكن ما يدهش حقا هو أن كل هذا الثناء الذي كيل لهذا المهندس لم يحفل هو بإخراجه إلي النور طوال حياته ولم يطلع عليه أحد: لا أولاده ولا أهل بيته ولا إخوته، ناهيك أن يذكره للغرباء، وظل الأمر خفيا حتى تعثرت عليه أسرته وهي تنقب في أوراقه بعد وفاته! رغم أن العلماء أجازوا لمن جهل الناس فضله أن يخبر بذلك، قياسا علي الآية الكريمة "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (يوسف 55) فتأمل أيها القاري الكريم من رجل!
ألا رحم الله الرشيد سيد أحمد بقدر ما أجذل لبلده من العطاء
و"طوبي لمن حسن مع الناس خلقه وبذل لهم معونته" (حديث شريف)
و"إن الله يحب الأخفياء الأحفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا
وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى ".
(حديث شريف)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.