"من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل أصبحت الأيدلوجيا في السودان وسيلة "الطامعين" من الفقراء للإستيلاء على السلطة والتمتّع بالثروة وإذلال الشعب؟
نشر في الراكوبة يوم 10 - 11 - 2012

هل أصبحت الأيدلوجيا في السودان وسيلة "الطامعين" من الفقراء
للإستيلاء على السلطة والتمتّع بالثروة وإذلال الشعب؟
عبد الجبار محمود دوسه
[email protected]
في الثالث من نوفمبر الجاري، استضافت جمعية الثقافة السودانية في مدينة مانشستر البريطانية الدكتور حيدر إبراهيم مدير مركز الدراسات السودانية، متحدثاً في ندوة بعنوان "الإسلاميون السودانيون: خيار الأيدلوجيا والوطن" في واحدة من أروع وأبلغ الندوات مضموناً، حيث أبدع فيها المتحدث من خلال تشريح مفصّل ومعمّق وبليغ لمضمون موضوع الندوة، وكان الدكتور عبد السلام نور الدين هو الآخر قد قدّم الضيف المتحدث بفيض من الفصاحة والرصانة والواقعية قبل أن يضيف في تعقيبه لختام الندوة بالإقتضاب الحصيف اللبق. حديث الدكتور حيدر كان قد حرّك مكامن الإبداع في دواخل الحضور فطرحوا سيلاً من الأسئلة والإستفسارات العميقة، بيد أن الوقت المحدد للندوة لم يسعفه للرد عليها، ومن بين هذه الأسئلة، عنوان هذا المقال، ولعلّني كنت حريصاً أن استمع لرأي الدكتور حيدر فيه لو لا قيود الوقت التي حالت دون ذلك، ثم رأيت أن أتوسّع في مضمون السؤال باعتباره من الظواهر التي تقتضي التحليل والتعمّق، أملاً في الوصول إلى إجابات شافية تساهم في معالجات دائمة.
الأيدلوجيا كما يُعرّفها العلماء باختصار هي أنها عِلم الأفكار أو عِلم الإجتماع السياسي، وذلك يعني باختصار ودون أن نمضي عميقاً في الشروح العلمية المطوّلة، إنتاج أو فلسفة أو قولبة أو الصياغة السياسية للأفكار لإيجاد معالجات للقضايا اليومية المرتبطة بحياة البشر. إلى أي مدى كان ذلك متّسقاً أو متضارباً مع الواقع السوداني المعاصر، هو ما سنذهب في صياغته في شكل تساؤلات نمضي في شروحها وفق رؤيتنا آملين أن يستثير ذلك نوازع المتخصصين للمزيد من التحليل والتعمّق والخلاصات.
غالب الأمم إن لم نقل جميعها قد عهدت عصوراً جسّدت حكومات على رأسها أُسر بمسميات متعددة، منها على سبيل المثال، القياصرة كما هو سابقاً في روما وروسيا، والإمبراطوريات التي حكمت في اليابان وإيران وإثيوبيا، والممالك الكثيرة التي شهدها العالم ومنها بريطانيا واسبانيا والسعودية والمغرب، والسلطنات مثل السلطنة العثمانية وسلطنة عُمان وسلطنة بروناي، هذه جميعها مجرّد أمثلة وليس حصراً، ونستخدمها للإستدلال على النحو الذي نزاوج فيه بين السلطة والنزوع البشرية نحو الإستفراد والإمتلاك والممارسة، لكل نظام من هذه النُظم حد من السطوة على المعارضين بشكل خاص قد يتصاعد أحياناً بقدر اشتداد الحراك المعارض، بيد أن بعض هذه النظُم كانت بالنسبة لشعوبها في مقام القداسة واجبة الطاعة، ربما كان سياق ذلك العصر هو ما فرض بعضاً من كل ذلك مما اعتبره بعض المحللين على أنه ضرب من التنويم للعقل والإرادة معاً، رغم ما تمتّعت به غالب تلك النظم من هيكلة تنظيمية ومضمون للدولة بمفهومها المؤسسي، في إشارة إلى تباين ذلك الواقع مع الديموقراطية التي وعيها العالم بعمق في عصر المعلوماتية.
إن الحقيقة الماثلة تاريخياً هي أن أغلب تلك النظم كانت تتبادل التحانن والتحابب مع شعوبها بحكم أنها تعمل على رعايتها وتعظيمها وتمليكها دوراً مميّزاً في محيطها الإقليمي والدولي، ربما في بعض الأحيان يتجاوز حدود الطموح إلى مصاف الأطماع التي تبلغ حد التعدّي على الجوار القريب أو البعيد، وما ندر من الحالات تكون بعض تلك الأنظمة قاسية مع شعوبها، لا سيما وأن طائفة الرعاية ومردوداتها تظل وكأنها إشارة حمراء لتنبيه الحاكم بما يمكن أن يخلّفه من عار على الأسرة التي ينحدر منها والتي هي عنوان السلطة والدولة والشعب، ورُغم ما يُمكن أن يؤخذ بأنه معيار معكوس ذلك الذي يقدّم الأسرة على الشعب، إلا أن الناتج هو القدر المتفاوت في تصاعد حدّته من الردع الضميري الأسري الذي في غالب الأحيان يأتي إيجابياً فيضع حدوداً لا يتجاوزها الحكام ممن هم من هذا القبيل فتجعل من الممارسات الباطشة القليلة مجرّد استثناءآت في قاعدة حكمها، وقد تفاوتت وتباينت التعاريف على تسمية تلك الأنظمة فكان منها حكومات النبلاء، وحكومات الإقطاع أو الأثريا وغيرها مما لا يخرج عن نفس المضامين .
لا يغيب عن شروحنا الإشارة إلى أُطُر المستويات الإجتماعية المصغّرة للمجموعات البشرية المتمثّلة في القبائل وزعاماتها والإدارات الأهلية وتقاليدها التي كانت وما زالت في غالبها توارثاً أسرياً لمقامات قيادية للقبيلة نشأت في ظروف بالغة التعقيد لما اعترت تلك القبائل وأضحت بالعُرف تاريخاً ممزوجاً بالتوافق والرِضَى لشكل التوارث ربما عِرفاناً لأدوار عميقة الإيجابية لها تأثيرها قامت بها تلك الأسر صوناً للقبيلة تراثاً وترابطاً وتواثقاً وتراحماً وتعاضداً، لا سيما عند الخطوب والمحن، بيد أننا لن نغفل الإستثناءآت التي أبرزت تنافراً بين الزعامات والرعية في بعض الكيانات بسبب سوء تعامل تلك الزعامات مع رعيتها بمعيار هو الآخر محل تباين، أو بسبب تنافس عشائر وفخود وأُسر على الزعامة، لكنها لا تخرج عن القول السائد بأن لكل قاعدة شواذ، وهي أيضاً في الغالب لم تسجّل فجوراً لا في ممارسة الأسرة الرامزة، ولا في خصومة المجموعات الرافضة. هذه الصورة نعرضها آخذين في الإعتبار توفّر شرطية الدور المحدود جداً لتدّخل الدولة في استقلالية وممارسات تلك الكيانات، وهي حالة لم تعد موجودة في السودان على الأقل في العقود الأربعة الأخيرة، حيث نمّت الدولة شعوراً سرابياً في دواخلها يجسّد لها السلطات الإجتماعية لتلك الكيانات والزعامات في هيئة فوبيا وكأنها تنتقص من سلطاتها وتتعارض مع طموحاتها في طاعة المواطنين لها، فعمدت على تقزيمها بل وذهبت أعمق فأجبرتها على الولاء والتبعية السياسية في ترويض طائف سرعان ما ينجلي.
لقد كانت الثورات والإنقلابات التي انتظمت بعضاً من الأمم والأوطان التي كانت تحكمها امبراطوريات وممالك وغيرها، قد قام بها أناس ينسبون أنفسهم للفقراء ويرفعون شعارات أيدلوجية باسم الفقراء ضد ما يعتبرونها نظم النبلاء والإقطاع والأسر والأثريا، فرفعوا شعارات براقة عن الحرية والديموقراطية والإسلاموية والعدالة الإجتماعية والمساواة، ونصّبوا حكومات بمسمّيات متعددة كانت دائماً تتبنى من الشعارات مثل، ثورة المساكين والكادحين والبروليتاريا والعمال والزرّاع وغيرها مما يدغدغ طموح الفقراء، ثم تَحشِر ذلك الطموح في وعاء يُحكِمون لحامه ليبقى متمحوقاً متقوقعاً حال وصولهم إلى السلطة، بينما يحققون أطماعهم كقادة وتظل بمرور الأيام والأعوام تتعملق وتنمو وتكبر، ورويداً رويداً تتباعد المسافة بين الشعارات ورافعيها والمرفوعة باسمهم إلى أن تبلغ حد الإنفصام والخصام، فتبقى الشعوب مخدّرة بإفيون الشعارات وتتباهج القيادات في سكراتها السلطوية وتنسى معاناة شعوبها التي ضخّمتها بحجم يفوق ذلّات أي عصر سابق، فالسلطة التي كان يراها الثائرون والإنقلابيون حكراً لمن يُسمونهم بالنبلاء، إستمرأوا حكريتها اليوم، فقراء الأمس أضحوا نبيولاء اليوم إذا صحّ التصغير، وعندما يبدأ الشعب الذي باسمه رُفعت الشعارات، وباسمه فُتحت السجون وعُلّقت المشانق للنبلاء والملوك والإقطاع والأثرياء يستفيق من خدره ويحاول التعبير عن مأساته، يجن جنون الحكام الجدد ويبدأون حملة من إذلال الشعب وإبادته، ففي الوقت الذي كان البعد الأسري يلجم النافرين من حكام النبلاء، فيروّضهم ذلك اللجام الأُسري فلا يتجاوزون في قساوتهم مع شعوبهم حدوداً بعينها، لا تجد بُعداً أسرياً يلجم النبيولاء الجدد الذين تسلّطوا باسم الفقراء، لذلك يصبحون أقذع لساناً وأقسى بطشاً.
إذا استعرضنا أمثلة من العصر الحديث وبدأنا بالثورة البلشفية التي أسست الإتحاد السوفيتي السابق في روسيا وما حولها، وأجرينا المقارنة مع حجم البطش الذي كان سابقاً في عهد القيصر للشعب الروسي على وجه الدقّة، لوجدنا أن المقارنة معدومة، حيث يتفوق حجم البطش في العهد السوفيتي كثيراً عن سابقه رغم الطفرة الإنمائية التي تميّز بها. كما لدينا مثال نظام الخمير الحُمر بزعامة بول بوت الذي استولى على السلطة في كمبوديا باسم الفقراء وأزاح نظام الأمير نوردوم سيهانوك، ثم بطش بالفقراء وأباد أكثر من إثنين مليون كمبودي قبل أن يفر إلى الأدغال غداة الحرب الكمبودية الفيتنامية في العام 1979م، مثال آخر للطامعين من الفقراء وهو منقستو هيلا مريم الذي استولى على السلطة في أثيوبيا باسم الفقراء بإزاحة الإمبراطور هيلاسلاسي، لكن المراقبين دمغوا عهده بعهد إراقة الدماء والإبادة قبل أن يفر عقب الثورة التي أزاحته بقيادة ملس زيناوي. هنالك الكثير من الأمثلة ومنها نظام الرئيس جمال عبد الناصر الذي خلف الملك فاروق، والرئيس عبدالله السلال الذي خلف الإمام محمد البدر في اليمن، والرئيس عبد السلام عارف الذي خلف الملك فيصل الثاني في العراق، والعقيد معمّر القذافي الذي خلف الملك السنوسي في ليبيا.
كثيرون سعوا وحاولوا بناء توارث السلطة باسم الفقراء على أنقاض الفقراء، هم بذلك فقط يغيّرون أشخاصاً بآخرين آملين أن يبنوا بالتوارث أمجاداً أسرية مشابهة، إنهم يقلّدون ولكن على أنقاض الشعب بتخديره بالشعارات، فإن بدأ يتململ يمارسون فيه أقسى صنوف التعذيب والقتل، بل يبيدونه دون وجل إذا دعى الأمر، فقد أورث الرئيس حافظ الأسد ابنه السلطة في سوريا، وسعى الرئيس مبارك لتوريث إبنه في مِصر، وكذلك أراد أن يفعل العقيد القذافي في ليبيا والرئيس على عبد الله صالح في اليمن، ولو كان للرئيس عمر البشير إبناً ربما نهج نفس النهج في السودان. إذاً هنالك فارق بائن في نهج وآليات ووسائل التوريث وطريقة التعامل مع الشعوب بين الأسر والممالك والإمبراطوريات الحاكمة، والتي في أغلبها جاءت وفق قدر من التوافق والرضى الشعبي إلا ما ندر، وبين المغامرين "الطامعين" من الفقراء الذين يسعون إلى بلوغ نفس الأهداف دون أن يتحرك لهم جفن فيما يفعلونه من إجبار للشعب على دفع أثمان غالية في مقابل تحقيقهم لأحلامهم.
هذه ليست دعوة لتعظيم أنظمة حكم الإمبراطوريات والممالك والسلطنات والأسر، كما هي ليست لتقزيم حقيقة دور الفقراء وحقّهم في الطموح، المقال يفرّق بين الطموح والأطماع، فالفقر ليس عيباً على صاحبه لأنه ليس بيده أو خياره، لكن للفقر سطوة إذا لم يُحسن الفقير القدرة على امتصاص طغيانه فهو يقود صاحبه إلى انتهاج مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وهنا فقط تكون المفارقة بين وسائل وأدوات وآليات الإلجام حيث يكون الأمر قد تجاوز مرحلة الوقاية إلى مرحلة العلاج، لذلك فالمقال يتناول أمثلة وشرائح يضعها في مقارنات لواقع في حِقب متفاوتة نستنتج منها حقيقة الدور الذي يلعبه البُعد الأسري العريق في تقليل الجنوح السلطوي السالب، ومن المهم الإنتباه إلى ما استخدمناه من مصطلح "الطامعين من الفقراء" وهو مصطلح حصري ويستهدف "الطامعين" منهم، وهو بذلك لا يعمّم على الفقراء، والجنوح السلطوي السالب عمل شائن يمكن أن يقوم به من هو من أسرة غنية أو لها تاريخ إجتماعي وأدبي عريق في مجتمعها، أو شخص ينحدر من اسرة عادية تُعرف مجازاً بالفقيرة، بيد أن الفارق هو في الغالب أن للأول ضوابط أسرية تلجمه وتقلل من تجاوزاته، بينما ليس للثاني أي لجام، خاصة في ظل الأنظمة أحادية السلطة كما هو حال حكومة الإنقاذ في السودان.
إذاً التعمّق في المقارنة بين الأمثلة الكثيرة التي يُمثّلها القادة الذين ينسبون أنفسهم للفقراء وينتزعون السلطة لتغيير نظم النبلاء لصالح الفقراء، إنما تؤكّد بأن الشعب يأتي دائماً في آخر قائمة إهتماماتهم. لقد أسقط الطامعون حقيقة اختلاف العصور والظروف التي تشوب وتؤثّر على النظم، فما كان سائداً من ظروف أدّت إلى تولّي بعض الأسر السلطة والإستمرار فيها فيما مضى، مغاير تماماً لما هو سائد بعد العشرينيات من القرن الماضي وحتى الآن، لا سيما بعد انتشار ثقافة الديموقراطية ووسائل النشر وسرعة انتقال المعلومة بالصوت والصورة، وتغيّر وبروز المنظمات والمواثيق الدولية التي تحكم علاقات الدول في الفضاءآت الإقليمية. قد يذهب القراء بأن لب المقال قد حاد كثيراً عن العنوان، ولكنني قصدت بالتوسّع فيما يُعتقد بأنه جانبي أن أعطي القارئ بعداً أعمق للصورة يمكّنه من التفاعل الأمثل مع التساؤل المطروح.
في واقع الدول هنالك بعض الأمثلة التي تحؤّلت فيها الأسر الحاكمة سابقاً إلى رموز دستورية بسلطة رمزية فقط كما هو الحال في بريطانيا والدنمارك ونيوزيلندا وغيرها كثير، وهنالك من أمثلة التوارث التي تأتي ضمن الممارسة الديموقراطية المحضة عبر الإنتخابات الحزبية التعددية كما هو الحال في الهند عندما خلف راجيف غاندي والدته في رئاسة الوزارة، وفي سريلانكا عندما خلفت تشاندريكا تونقا والدتها بندرنايكا في رئاسة الوزارة، وفي الباكستان التي تولت فيها بناظير بوتو رئاسة الوزارة حيث كان والدها ذو الفقار على بوتو رئيساً أسبقاً، وفي بنغلاديش التي تولّت فيها الشيخة حسينه واجد حيث كان والدها الشيخ مجيب الرحمن مؤسس جمهورية بنغلاديش، وفي الفليبين التي تولّى فيها بنيتو أكينو الرئاسة وقد كانت والدته يوماً رئيسة. لا بد أن أشير إلى حقيقة تستدعي التأمل، وهي أنه ليس ثمة أمثلة في التوريث في أفريقيا، فلم يعقب جيل التحرير والإستقلال أي توريث للسلطة، وأن الحالة الوحيدة لكابيلا في الكنغو إنما هي ليست أكثر من استثناء لا يُعتد بها. في كل هذه الأمثلة فالوارِث أتى منتخباً بحسبانه مواطناً له نفس الحقوق كما للآخرين، رغم الدعم المعنوي الذي وجده من حجم التعاطف الذي بُني على حجم المعاناة التي أصابت أسرته الحاكمة السابقة المحبوبة لدى الشعب من إنقلابيين أو طامعين طائشين.
في السودان حيث شهدنا ثلاثه انقلابات عسكرية، تحالفت فيها نُخب من المدنيين الطامعين الفقراء ومثلهم من العسكر في إثنتين منها باسم الفقراء متبنين أيدلوجيا بشعارات خدّرت الشعب وحكمته بالحديد والنار، وفعلت فيه ما لم تفعل النار في الهشيم، ولعل أكثر ما يجيب على التساؤل الذي طرحناه عنواناً لهذا المقال هو النظام المتسلّط حالياً (نظام الإنقاذ) برئاسة المشير عمر البشير، الذي استخدم الأيدلوجيا واستولى على السلطة باسم الفقراء وتحكيم شرع الله، فبدأت قيادته الحاكمة ونخبته بإظهار طبق الفول السوداني في الإجتماعات الرسمية، ولكن بعد أكثر من عشرين عاماً في الحكم يجد الشعب بأنه يُستَفز بفواح أطباق الكافيار المستوردة، ولا حاجة إلى سرد قصة الحالة المأساوية التي بلغها الشعب والوطن والتي تحفظون تفاصيلها عن ظهر قلب. لقد أصبحت الأيدلوجيا حصاناً يمتطيه الطامعين من الفقراء لإذلال الشعب، لمثل هذا تحسّبت الأمم الراشدة واستبدلت الإمبراطوريات والممالك والسلطنات الحاكمة حتى وإن كانت عادلة وحانية برعيتها، وأغلقت الطريق أمام المغامرين الطامعين للوصول إلى السلطة بالإنقلابات الأحادية الباطشة أو الثورات السائبة الطائشة، وتبنّت الديموقراطية ونظامها الرقابي الشفّاف والرادع للمغامرين للطامعين، من فقراء كانوا أو نبلاء متى جلسوا عبرها على كراسي السلطة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.