إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل من رواية جديدة (صانع الفخار أو آلام ذاكرة الطين)..
نشر في الراكوبة يوم 21 - 11 - 2012


صانع الفخار (أو آلام ذاكرة الطين)
(رواية عن الأسرار العاطفية للبلاد الكبيرة كما تناقلها رواة سوق ود أمجبو والمقابر الورا السوق الصغير حول صراعات النساء ومصطرعات الرجال في المدينة القديمة وتاريخها الغامض).
رواية
أحمد ضحية
[email protected]
إهداء إلى الكائن العجيب, الصديق إبراهيم خضرحمد
يحكى أن تاجرا زوج ابنتيه. واحدة الى فلاح, والأخرى إلى صانع فخار..
و بعد عام سافر الرجل ليزور ابنتيه, فقصد أولا زوجة الفلاح. التي إستقبلته بفرح. وحينما سألها عن أحوالها, قالت:
- زوجي إستدان ثمن البذور, واستأجر أرضا وزرعها. فإذا أمطرت السماء, فنحن بألف خير. وإن لم تمطر فإننا سنتعرض الى مصيبة!!
ترك الرجل ابنته وذهب لزيارة إبنته الأخرى.. زوجة صانع الفخار. التي استقبلته بفرح ومحبة. وفي جوابها على سؤاله التقليدي عن الحال والأحوال قالت:
- زوجي إشترى ترابا بالدين, وحوله الى فخار. ووضعه تحت الشمس ليجف, فإن لم تمطر, فنحن بألف وإن أمطرت فإن الفخار سيذوب وسنتعرض الى مصيبة.
عاد الرجل الى زوجته التي سألته عن أحوال إبنيتها فقال لها:
إن أمطرت ألطمي خدك ونوحي وإن ما أمطرت ألطمي خدك ونوحي.
الفصل الأول:
1
إحداهن قالت:"إذا حلمت كرجل بصانع الفخار, فهذا لا يشكك في رجولتك, بل ينبئ عن سيرتك ومسيرتك في العمل المتواصل الدؤوب, الذي سيعود بأفضل الثمار. أما إذا كان الحالم أنثى, فهذا يعني أنها ستنشغل بإمور تسعدها". فالفخار هو مهنة الأحلام في صراعها التليد مع الصبر على ألم لا حدود له! و..
و ما بالنا نتعجل القص والحكي؟!.. سنأتي لاحقا لنحكي عن أحلامها وأحلامه, التي شطرها من شطرها شطرين, تاركا الفخار وصانعه وذاكرة الطين المشتركة بينهما, في حيرة تامة!
من هي؟ ومن هو صانع الفخار؟!
صانع الفخار:
في مراجعة جادين جانو, لما حفلت به منحوتات صانع الفخار, إكتشف أن الطين هو القاسم المشترك بين كل حضارات البلاد الكبيرة, فأهم السمات الثقافية المميزة لهذه الحضارات, هي أواني الفخار التي على درجة رفيعة من الصقل, بالإضافة إلى الأواني الفخارية الأخرى, التي على هيئة حيوانات. إلى جانب صناعات الحديد و الخناجر النحاسية. والمصنوعات الخشبية المطعمة بالعاج والمايكا, في أشكال بديعة مزخرفة, كذلك الملابس المخيطة على قلانس جلدية, كما و المصنوعات الخشبية المطعمة بالعاج والمايكا, وعناقريب الخشب التي تتميز بمساند للرأس.
تقول النبؤة, التي أكتشفت مبثوثة في إحدى مخطوطات صانع الفخار, أن روحه وعقله سيولدان مرة أخرى بعد مئات السنوات, في صبي مغرم مثله بتشكيل الطين, كما أن روح وجمال حبيبته (الكيرا) هي الأخرى ستتقمص حبيبة المختار, الذي كشفت عنه النبؤة..
وتضيف النبؤة أن مقتله سيكون علامة فارقة في تاريخ وحياة البلاد الكبيرة, التي ستجد نفسها على حافة الهاوية عند مفترق الطرق من كل أجزائها!
منذ أن سمع جادين جانو بهذه النبؤة, ظلت تداهمه ذات الخواطر, التي كانت تداهم صانع الفخار, كما يتخيل هو خواطر صانع الفخار!..
فصانع الفخار منذ طفولته الباكرة, هيمنت على حياته تلك الرؤى الغامضة, عن الحياة والموت والكون وأسئلته المعقدة!. فانهمك تحت وطأتها مشكلا الطين أشكالا لا تخلو من نبؤات محتملة, أسهمت في تشكيل حياته وحياة من حوله, بل وحياة "جادين جانو" بعد مئات السنوات!
من عاداته التي لم يخالفها يوما واحدا منذ طفولته الباكرة وتسفاره حتى اللحظة التي سبقت مقتله حرقا في ساحة كنيسة "توتي" الكبيرة المطلة على مقرن النيلين, هي وقوفه عند كل صباح.. عند شروق الشمس, متأملا سهل البلاد الكبيرة الرسوبي المنبسط على مد الأفق المترامي, بإنحداره الطفيف.
كان يرى بعين خياله كل المرتفعات التي تتخلله: الغابات, الجبال, التلال, القيزان, الجروف الصخرية.. كان يرى النيل الذي يشق السهل قسمين كفلقتي نواة واحدة, فيقول في نفسه كمهووس بالفخار:"ترى كيف تكونت هذه التربة", التي سقتها دماء أسلافه عبر آلاف السنوات؟!..
التربة الرملية في إقليم الصحراء وشبه الصحراء, في السافل ودار الريح؟.. بهشاشتها وإفتقارها للخصوبة.. ترى كيف تكونت هذه التربة الطينية في الوسط ودار صباح, الغنية بالخصوبة والجمال الأسمر.. ترى كيف تكونت هذه التربات الحديدية الحمراء, منخفضة الخصوبة والقابلة للتدهور في الصعيد..
وهذه التربات الرسوبية السلتية على ضفاف النيل, وأشقاءه من أنهار دائمة وموسمية, ووديان تتخلل سهل البلاد الكبيرة الواسع.. الممتد بخصوبتها العالية بسبب الطمي الذي يجددها كل عام.. وهذه التربة البركانية الخصبة في دار الريح, وما تمثله من لغز محير في عالم الطين والخصوبة؟
كان صانع الفخار إذن مغرما بالطين وكل ما يتصل به.
المنحوتات التي خط عليها صانع الفخار رموزا معقدة, هي الشفرة لهوية البلاد الكبيرة, والتي تم التواطوء عليها من قبل الحكومات المسماة وطنية, وغالبية أحزاب البلاد الكبيرة, وعدد كبير من المثقفين والسياسيين وقادة الرأي العام. إلى جانب منظمات طوعية, وأحزاب دينية إحتيالية, وطوائف إشتهرت بإستغلال الدين في السياسة؟!
جادين جانو المهووس بجمع أعمال صانع الفخار, وكشف أسرارها على الملأ. بدأ رحلة بحثه عن منحوتات صانع الفخار المتفرقة في كل أنحاء البلاد الكبيرة, بالبحث عن ذاته والتعرف عليها, بحيث أصبحت ذاته هي نقطة البداية, لسبرأغوار سؤال الهوية المشفر في منحوتات صانع الفخار, التي في الوقت الذي خلى المتحف الوطني ودار الوثائق المركزية منها تماما, تفرقت ما بين خزائن السياسيين الخاصة, ومتاحف العالم الواسع, لكون مهدد بالزوال في أية لحظة, نتيجة الحروب وكوارث الطبيعة وفساد السياسيين وإستبداد الحكومات.
هذه المعضلات التي خبأ صانع الفخار نبؤاتها, في منحوتاته العديدة عبر كل سنوات عمره التي عاشها, منذ الطفولة, حتى مات مختبئا ومطاردا ومحترقا في ساحة الكنيسة الكبيرة, التي تطل على مقرن النيلين؟! هذه المعضلات, ستعبرعن نفسها عبر السنوات, التي تلت مقتله محترقا!
كان صانع الفخار يستقي بعض موضوعاته في النحت, بإلهام خفي من أنبياء غامضين, يتراءون له في الحلم.. في الليالي التي يغيب فيها القمر, وتصبح أضواء النجوم شحيحة؟! .. فكانت هذه الأعمال بالذات تجيء مشفرة برموز، هي مرجع مباشر لإماطة اللثام, عن ما يريد أن يقول بالضبط في كل أعماله.
ومن نبؤاته التي راجت في العصر "المروي" أن مملكة ستولد في سهول البطانة, مرتحلة من موقعها الأصلي, وبالفعل بعد عشرات السنوات, وبسبب البحث المتواصل عن المزيد من الطين الخصب, نقلت "كرمة" عاصمتها من "نبتة" إلى "البجراوية" جوار "كبوشية", بعد أن وضح أن منطقة "البركل" الصحراوية لا تفي باحتياجات السكان والحيوان, زيادة على ضيق الشريط الزراعي على النيل.
فالبجراوية مطلة على سهل البطانة, وهو سهل واسع وأرضه خصبة وأمطاره نسبياً غزيرة. كما أن مكنونات طين البجراوية تحتوي على خام الحديد, خصوصا في الصخور. بالإضافة إلى وجود أشجار كثيرة يمكن إستخدامها, في إيقاد كماين صهر الحديد, وصناعة الفخار..
- لايبدو أن هناك حدوداً لعبقرية "صانع الفخار"!
هكذا كان جادين جانو يهمس في سره, عندما تنتابه الدهشة, إثر فك شفرة أي رمز من الرموز التي حفلت بها مشغولات صانع الفخار, لكونه كان كفؤاً في علم الحركة، الرياضيات، علم التشفير وعلم الخرائط والجمال.
أول مرة تعرف فيها "جادين جانو على صانع الفخار" عندما حدثه معلمه الأول -جده الخزين ود طبلة- قبل زمن بعيد:
-"كان صانع الفخار يسبق عصره بمئات السنوات"!..
فهو من اخترع لغة التشفير ورموز تقنيات فك الشفرة، ورسم تصاميم أولية للأجهزة الداخلية للجسم البشري, أظهرت الخواص التي يتحدث عنها علماء هذا الزمان؟!.
حكاية صانع الفخارإذن, سيطرت على فضاءات وعوالم "جادين جانو", وشكلت حياته على النحو الذي قاد لأن يموت محترقا, في قطية نائية عند أطراف إحدى قرى دار الريح, ذات ليلة غاب فيها القمر وأشتد عواء الريح ذارا رمال الوديان في عيون البلاد الكبيرة, إثر غارة مشتركة للجنجويد والجيش الحكومي.
وهكذا بقتل جادين جانو حرقا, إختبأت الأسرار داخل شفرات رموزها, كخلفية مأساوية لأسئلة الذات والهوية في البلاد الكبيرة!..
لكن مع ذلك, هنا وهناك كان شبح صانع الفخار, يظهر للأطفال الرضع وهم يمصون حلمات أثداء أمهاتهم, فيبتسمون في دعة وحبور, والحليب يتسايل من بين شفاههم الرقيقة.
ظل جادين جانو طيلة حياة جده ومعلمه الأول -الخزين ود طبلة- ينصت بإهتمام لكل حكاياته عن "صانع الفخار" الذي ولد في اللحظة ذاتها, التي بدأت فيها الممالك المسيحية, تتكون على أنقاض العالم القديم للبلاد الكبيرة, بوصول أول بعثة أُرسلت من القسطنطينية إلي بلاد النوبة, برئاسة قس يُدعي "جوليان" عام 543م، بمساندة الإمبراطورة "ثيودورا"، فمكث " جوليان ", ونجح في نشر المسيحية بين النوبيين، ثم خلف "جوليان" "لونجينس" في عام 569م، والذي قضى فترة سبعة سنوات, وهو يعمل بين النوباطيين، ثم سافر إلي الصعيد عام 580م.
وقتها كانت مملكتي "النوباطيين" و"علوة" تؤمنان بمذهب اليعاقبة، بينما كان أهل "المغرة" يدينون بالمذهب الملكانيّ. وعندما إتحدت مملكتا النوباطيين والمغرة فيما بين عامي 650- 710م وصارتا مملكة واحدة، مكًن إتحادهما من قيام مقاومة قوية ضد غارات العرب من ناحية، وإنهاء الصراع السياسي الديني من ناحية أُخري، مما ساعد علي التطور الثقافي.
إذن كان ميلاد من سيعرف ب"صانع الفخار", في لحظة فارقة من منعطفات تاريخ سهل البلاد الكبيرة, فحمل روح ميلاد تلك اللحظة المتحفزة بالعبقرية والجنون.. لحظة تمثل عالما بكامله, بقدر ما أنطوى على الأسرار الباطنية, حفل بفنون المعمار وهندسة الزراعة و.. ويقال أنه هو من أعطى طريق الملح ودرب الأربعين إسميهما؟!
فدرب الأربعين الذي يبدأ من الفاشر, على تخوم الصحراء الكبرى في دار الريح, وينتهي عند إمبابة في صحراء الجيزة, في الجوار أسفل النهر، توضح خرائط صانع الفخار, العديد من المواقع على إمتداده, خصوصا أن للطريق نفسه إمتداد آخرا, يبدأ من الفاشر, ويتوغل غربا ليصل دار الريح, بممالك الجوار القديمة, حيث منبع الريح عند تخوم الأطلسي.
إذن كان الطريق "درب الأربعين" يصل بين عالمين يقفان عند شفاه الشمس, وهي تبتسم من وراء البحر الملون, وهي تنهي إبتسامتها عند الأطلسي وتغيب.
في تسفاره عبر هذا الطريق من الفاشر إلى أمبابة, حسب الأيام والليالي فوجدها أربعين يوما وليلة, فأطلق عليه إسم "درب الأربعين", ومنذها سار بصيت الطريق الركبان والحداة, حتى تناهى عبر التاريخ إلى جادين جانو, الآن.. وهو يكابد ما يكابد, من أحلام.
كان تاريخ "درب الأربعين" إذن - على حسب خرائط ومخطوطات صانع الفخار, التي حصل جادين جانو على بعضها -بطرق غاية في السرية والتكتم- منذ منتصف القرن الأول قبل الميلاد. فرضته ضرورات فك العزلة, والتواصل بين شعوب سهل البلاد الكبيرة والجوار.
أشار صانع الفخار في مخطوطاته إلى طرق أخرى, ظلت تربط شعوب سهل البلاد الكبيرة الواسع, بالعالم وهي الطريق الذي يربط بين دار الريح والممالك المنتشرة, في حوض تشاد ويمر بكبكابية, ومنها الى كردفان وسنار وشندي والبحر الملون.
بعد مئات السنوات سيصبح هذا الطريق, هو الشريان الحيوي الذي يربط دار الريح كلها, بمنبع الريح على تخوم الأطلسي, كما يربطها بالأراضي المقدسة خلف البحر الملون في دار صباح.
فعبرهذا الطريق يمضي الحجيج من "كانم وبرنو" من ممالك دار الريح العريقة,في طريقهم الى الحجاز. حجيج كثيرون تتقطع ببعضهم السبل بين الأهل والأوطان, وبعضهم يطيب له المقام إختيارا, وآخرون يتم ترغيبهم من سلاطين دار الريح الأقوياء, لتعليم الناس, فيقيمون ويصبحون فيما بعد أحد المكونات الأساسية لشعوب سهل البلاد الكبيرة الواسع.
ثمة طريق آخر يربط دار الريح بطرابلس وتونس, يوليه صانع الفخار أهمية خاصة, لا تقل عن أهمية درب الأربعين. تعود أهميته للإهتمام المتزايد لدى سلاطين دار الريح الأقوياء, بالحصول على الاسلحة من شمال أفريقيا, لتأمين مملكتهم, التي برزت على نحو مباغت من أعماق "جبل مرة", لتمثل منارة تلقي بضؤها على دار صباح ودار الريح الكبيرة حتى تخوم الأطلسي.
وهو أيضا لا يقل أهمية في مخطوطات صانع الفخار, عن الطريق الذي يربط فاشر السلطان بأسيوط في منحدر النهر "درب الأربعين".
كانت كل هذه الطرق تحمل في داخلها عوالما صغيرة متحركة, تتمثل في مجتمع القوافل, المنظم تنظيما دقيقا, لا يخلو في إدارته من تراتبية, تعني بكل شيء, حتى جوانب الأمن تجاه هجمات قطاع الطرق, ولصوص الصحراء والجنجويد.
حركة مجتمعات القوافل وأنشطتها لا تهدأ, منذ نقطة البداية حتى نقطة النهاية.
بعد مئات السنوات في محطات هذا الدرب, عثر الكشاف "جاك رينولد" على مخطوطات مهمة لصانع الفخار. أدى فك شفرات رموزها, لإكتشاف أن "وادي هور" في دار الريح هو نهر قديم بطول 1000 كلم ينبع من هضبة جبل مرة, ويلاقي النيل بالقرب من "دنقلا العجوز". وأنه كان يستخدم أيضا (نهر هور) لربط دار الريح بدنقلا العجوز.
إهتمام سلاطين دار الريح الأقوياء المتعاظم بكل هذه الطرق, وخاصة درب الاربعين وطريق الملح, ترتب عليه التجهيزات الكبيرة تجري على طول هذه الطرق, من حفر الآبار وصيانتها, وإقامة الحبوس لتأديب قطاع الطرق, وإقامة الربط لعابري السبيل والحجاج فيما بعد.
وربما السبب الأساسي لهذا الاهتمام, هو أن السلاطين وجيوشهم, كانوا هم الممولين الأساسيين للقوافل, وكما أن الطريق "درب الأربعين" إرتبط في وجداناتهم بأحداث دينية هامة عبر السنوات, آخرها تلك الكساوي التي كان يبعثها أولئك السلاطين الى خدام الحرمين الشريفين وأهل الحجاز.
وبإستثناء المعلومات التي أوردها صانع الفخار, لم يهتم أحد عبر العصور بإعطاء أي نوع من المعلومات, التي تميط اللثام عن هذه الطرق, سوى ما تم تناقله شفاهيا وغذاه الخيال الشعبي.
2
خدم صانع الفخار كمهندس للقصر الملكي في علوة, وكمهندس زراعي في المغرة, وكمهندس طرق في سوبا, وتنقل في أرجاء البلاد الكبيرة, متتبعا صوى الساري وعلامات الطريق, التي تفضي بطريق الملح إلى تخوم ممالك الساحل. أو تقود درب الأربعين عبر منعرجات اللوى إلى منحدر النهر.
وبحسب "الخزين طبلة" أن صانع الفخار ولد في "جبال كتري" في قلب البلاد الكبيرة، وتعلم على يد "الفقرا الرحل" وعمل في طفولته مزارعا بالأجرة في "حلالات وقرى دار الريح" وعندما إشتد عوده إرتحل إلى دار صباح. فكان له ما كان في قصور الممالك النوبية.
كتاباته ومخططاته كتبت بلغة الفور والنوبية القديمة, الممزوجتين في لغات الصعيد ودار صباح, ما جعل هذا المزيج اللغوي المحير من الرموز, عصيا على البوح بكل مكنونات, ما يريد صانع الفخار أن يقول؟!
بإنتقاله من دار الريح, التي تعتمد في حياتها, على مياه جوف الأرض و المطر, إلى دار صباح التي يشكل النيل شريانها.. وأمام رهبة هذا النيل, إبتدع صانع الفخار, طرق الري الفيضي والحوضي.
كان صانع الفخار يمتاز بخيال واسع وأصابع ماهرة.
عندما شعر من حوله في القصور, بما تنطوي عليه منحوتاته ومخطوتاته من روح ثورية. خشيوا من النتائج التي تختبيء خلفها, وهي النتائج نفسها التي حفلت بها معتقداته, حول أسئلة ذات وهوية البلاد الكبيرة. فصانع الفخار كان يؤمن, بأن العقل هو الذي سيؤهلنا يوماً ما, لمعرفة الإله المهيمن على كنائس الممالك النوبية, وأي إله آخرتقترحته الديانات السابقة أو اللاحقة.
هذا الإعتداد بالعقل, دفع رجال الدين إلى مطاردته, وتدمير ما طالته أيديهم من أعماله, بغرض أن يذكر التاريخ أنهم فعلوا كذا وكذا فيشتهرون! لكن التاريخ خيب ظنهم, ولم يذكر إسم أي واحد منهم! فظلت هذه الحقبة بحد ذاتها لغزا محيرا؟!.
فعندما توفيت الملكة النوبية (الكنداكة)أصدر كبير وزراءها (ك) أمراً بمسح إسم صانع الفخار, من كل نقوش الكنائس النوبية, وتدمير معمل صانع الفخار في "سوبا" تدميرا كاملا. كما حرمت الكنيسة النوبية صانع الفخار نفسه "حرمانا كنسيا" بتهمة الهرطقة!
وهكذا عاش صانع الفخار أيامه الآخيرة مطاردا, إلى أن تم إحراقه ذات صيف غائظ, في ساحة الكنيسة الكبيرة عند ملتقى النيلين؟.. فمات وحيدا حزينا أسيانا وآسيا دون خلف أو سلف؟!
لم يمض وقت طويل على وفاته, حتى تم إكتشاف معمل ثان في "الكوة"، لكنه أيضا دمر على يد كبير الوزراء.
مخططاته ورسوماته بيعت مقايضة بالملح للتجار القادمين من مالحة, و من أقصى دار صباح عند البحر الملون.. هذه المخططات تمت عملية تحديد أماكنها، على عهد الإحتلال, التركي المصري في كل من سوبا, الكوة, دنقلا, جوبا, أبيي, القلابات, الفشقة, حلايب, بني شنقول, قيسان, الروصيرص, الفاشر ومليط.
وخلال عهد حكومة "السودنة - الإستقلال" تمت محاولة البحث المكثف, عن وثائق تظهر تصاميمه ومخططاته من قبل بعثات فرنسية. فظهر وقتها إسم "صانع الفخار" للمرة الأولى, كأحد عباقرة البلاد الكبيرة, الذين عبرت أعمالهم عن روح عصر متحفز, ظل يتكون في التشظي لآلاف السنوات؟!
تصاميم أغلب هذه الرسومات, ما تزال غير واضحة, كما أن لغة المخطوطات المزيج من لغات عدة, جعلت من الصعب فك شفرات الرموز،على الرغم من ذلك ألهمت المهمشين بعد مئات السنوات, الإجابة عن سؤال الذات الذي ظل يؤرق صانع الفخار؟!
من الوثائق التي فشلت الحكومات المتعاقبة, وحلفائها في إخفائها وتسربت للعلن, تلك الوثيقة التي ترصد أوجه الحياة الإجتماعية والثقافية والفنية والسياسية, وكل الأننشطة التي حفلت بها الممالك القديمة, في دار صباح والسافل ودار الريح والصعيد, عندما ثبتت المسيحية أقدامها, في دار صباح القصوى و السافل والوسط؟!
بينما ظلت كل الوثائق, التي إكتشفتها البعثات المتعاقبة, منذ العصر التركي المصري, وحتى عهد الفريق عبود, تختفي في ظروف غامضة, وتظهر هنا وهناك على نحو متباعد, في متاحف العالم ودور وثائقه, والمجالس السرية والمعلنة لأهل الحكم والثقافة والسياسة والأدب, في البلاد الكبيرة.
بل أن الوثيقة الوحيدة, والتي هي "حجة في شكل حكم البلاد الكبيرة وكيفيته", والتي كانت موجودة في دار الوثائق المركزية بالخرطوم تمت سرقتها (من قبل أحد سياسي البيوتات في البلاد الكبيرة) وأختفت في ظروف غامضة, دون أن يبين لها أثر؟!
وهكذا ظلت أعمال صانع الفخار, غير منشورة بشكل رسمي، تبعاً لمنع آيديولوجي من نشر إسمه وتاريخه، وإرثه القومي, وخصوصاً خفايا أعماله. ما يؤكد أن هناك مؤامرة دائمة ومستمرة لاحتواءها آيديولوجيا, لإخفاء أفكار أصيلة و إختراعات كثيرة سابقة لعصرها، وكل الدلائل تشير إلى أن كل ما يتعلق بصانع الفخار من سيرة ومسيرة, محفوظ بسرية تامة من قبل الأمن والمخابرات و مفوضية أحزاب البلاد الكبيرة التي تتكون من سبعة أفراد.
صانع الفخار منذ طفولته الباكرة, إستهواه تشكيل الطين, فهو لم يخلق من النور أو النار, بل من الطين! لذا ظل دائم الحنين لمصدره الأول؟!. كما ظل دائم الخوف على هذا المصدر, الذي يتأثر دائما بمناخ البلاد
الكبيرة المداري, والذي يتميز بارتفاع درجات الحرارة معظم أيام السنة.. وتدرجه من جاف جدا في أقصى السافل, إلى شبه الرطب في أقصى الصعيد. حيث تصل درجات الحرارة أقصى معدلاتها في فصل الصيف و حيث يصل المعدل اليومي في بعض الفترات, إلى جحيم لا يطاق في الصعيد.
الأمر الذي يجعل الطين حزينا متشققا عن أساه!.. ظامئا ومتوجعا.. لا تهدأ آلامه إلا بهطول الأمطار التصاعدية, التي تتحكم في حركة الفاصل المداري, والتي يتصف بها سهل البلاد الكبيرة, باستثناء ساحل البحر الملون حيث المطر الشتوي, يداعب التربة المالحة, فيمنحها شيئا من البوح المبتل بالدموع!
أكثر ما كان يؤرق صانع الفخار من هموم, هو سيادة سمات الصحراء في السافل, والهطول المتقطع للأمطار في دار الريح. وتكرار موجات الجفاف, التي تتفاوت في طولها وحدتها, ما يجعل الطين حزينا وبائسا ويابسا ومكتئبا وكئيبا! لولا إشفاق البحيرات الداخلية والأودية الموسمية عليه, لذرته الرياح في فضاء الكون الواسع!
كانت نقطة البداية في الطفولة البعيدة الغابرة, هي وقوفه لساعات طوال أمام هيبة الطين.. غموضه.. مرونته.. سيولته و قدرته على التشكل الفائق.. وكثيرا ما توقف أمام نفسه كمخلوق من طين, وسرحت أفكاره في العالم اللانهائي للطين, إلى أن أصبح الطين منهجا يتحكم في عالمه, يصنف عبر نوعيته وهشاشته وصلادته: أنواع الناس وأحوالهم والأشياء ومعناها والأماكن وقيمتها, وكذا العلاقات المقيمة والأخرى العابرة! بل وأحيانا أصدقاء العلاقة الذين "يقفزون" على العلاقة ذات نفسها, فتروح الصداقة هدرا!..
هكذا إذن فتحه الفخار على عالم لانهائي.. لا محدود.. عالم مسكون بالحقائق وأنصافها وأرباعها, كما هو مسكون بالقدر ذاته بالهواجس والظنون والجنون!
"أنه صانع الفخار" أو كما بدأ أقرانه يطلقون عليه, وهم يلحظون إهتمامه المتزايد بتشكيل الطين..
خلال سنوات طفولته وصباه, تجمعت لديه مقتنيات ذات أشكال عديدة من صنع يديه.. أشكال لبشر وحيوانات.. أزيار وقداح صغيرة.. و..و أشكال حلمية هو نفسه لا يدري لماذا صنعها, ولا إلى ماذا تشير أو ترمز بالضبط؟!
كانت غبطته لا توصف, عندما يأتيه أقرانه الأطفال والصبيان بطينهم, ليصنع لهم منه شيئا ما..
في مراهقته أخذت أفكاره عن الطين, تتخذ منحى يليق بقلق المحاولة الأولى لإكتساب المعرفة, وإكتشاف العالم. فنال إهتمامه أنواع محددة من الطين: طين الغابات على ساحل البحر الملون.. غابات القرم (المانقروف) التي تنمو في الخلجان والشعب المرجانية, التي تأوي أصنافا متعددة من الحياة البحرية النادرة. وطين الجزر الرملية ذات الطبيعة الساحرة وطين أم درمان الصلد, وتلك الأنواع من الطين, الذي تزخر به البيئات المائية العذبة والمالحة.
والطين الرسوبي في السافل, وطين حوض تكوينات أم روابة, وهكذا وجد نفسه ينزلق في الطين إلى دهاليز الجغرافيا و التاريخ وأقبيتهما. فامتداد سهل البلاد الكبيرة عبر 18 درجة من خطوط العرض, وتباين أحوال المناخ والطبوغرافيا, أدت جميعها إلى تباين النباتات الطبيعية وتنوعها, وأسهمت في تعدد وتباين أنواع الطين؟ فكان يستخدم كل نوع من الطين للغرض الذي يلائمه!
فالأقاليم النباتية، المتدرجة من الصحراء في السافل, إلى الغابات المطيرة في أقصى الصعيد و دار الريح أدت لكل هذا التنوع الطيني وأثرت فيه كما أثر فيها.
لم يكن ما لفت نظره حقا أن إستخدام الطين, في أعمال الفخار والخزف مجرد محاولة أولى, لإشباع غرور الجنس البشري, في مشاركة الخالق أعماله ومهامه الجسيمة؟!..
إصداقا للقول.. بل هي الجرأة على منافسته, على طريقة الضالين المغضوب عليهم, وغير المغضوب عليهم, أيضا! في الحقيقة والواقع الأعم!.. كيف؟!
عن طريق حرق الطين وصقله في "الكمائن والهوانيب", تماما كما كان حال أبو البشر آدم –حسب الروايات الدينية- لحين من الدهر, تهطل عليه أمطار الفرح حينا وحينا أمطار الحزن..
إذن هكذا إكتشف –صاحبنا- النيل والخصوبة والحياة, إكتشف عالما كاملا متكاملا, جزيئاته تترابط في حبيبات الطين بسيولة النهر, لتعبر عن نفسها في الخلود الهش؟! تبدأ بالزير وتمر بالمبخر, وتنتهي عند كل ميلاد بشري جديد, بكل ما يحمل هذا الميلاد من خصوبة ونماء في حفرة الدخان!
للطين ذاكرة ووجدان يحتفظان بآثار العصور الغابرة: فلكلورها, سيرتها الشعبية.. مسارات صعودها وهبوطها.. أحاجيها وحكاياتها الشعبية.. ذاكرة ووجدان يحتفظان برائحة وعرق وملمس أصابع صانع الفخار, وهي تنتقل مخلخلة هذه الحبيبات الناعمة, لتصوغ منها شكلا ما, ربما هو فكرة في خاطر غامض, قد تفصح عنه العصور اللاحقة, ليخبيء المزيد من أسرار ما قبر!. وربما..
3
موقع السوق الورا, موقع غريب وفريد من الشرق والغرب.. فهو كيان مزهل! يتصل بالبحر والأنهار, حيث دلتات الطين الصلصال.. بإختصار: السوق الورا ظل عبر تاريخه ملتقي لطرق العالم القديم والجديد.. هذا الموقع المميز جعله مركزا حيا لتجارة الفخار, بالتالي إنتقال مركبات الثقافة والأديان والسحر والشعوذة والعادات والتقاليد و.. والأعراف و الطرق الصوفية, فيما بعد.
تجد في السوق الورا كل شيء بدء بالمشغولات الذهبية, وصناعات الحديد والألمونيوم والكوانين, مرورا بصناعات السعف وكناتين الكول, والتوابل والمأكولات الشعبية, وجزارات الكمونية واللحوم والأسماك والدواجن..
هكذا إذن نشأت علاقات تجارية وثقافية وسياسية معقدة, مركزها السوق الورا منذ الأزل. حيث كان القدماء يطلقون على السوق الورا تسمية "أرض الأرواح أو مقابر ود أم جبو "أو "أرض الله " لشدة إنبهارهم بهذه الكيمياء العجيبة, التي تربط الآخرين.. كل الآخرين به- خصوصا علاقة الموتى بالأحياء والبعاعيت- وتجعلهم يتفاعلون مع الحياة التي تتصل به.
شعوب البلاد الكبيرة إعتادت السكنى حول السوق الورا, منذ العصور الحجرية. حيث أتخذوا أولى خطواتهم نحو الحضارة. فقاموا بصناعة الفخار وإستعمال المواقد والنار للطبخ. وقتها كانت البلاد الكبيرة التي يعتبر السوق الورا حاضرتها, مركزا لحسد الجوار وأطماعهم. التي ترتبت عليها غزوات وإحتلالات وإقتطاعات, خصوصا في العهد الذي سبق الحضارة الكوشية, حيث حاول الغزاة القادمين من مصب النهر فرض لغتهم وثقافتهم؟!
وكان الحال هكذا أيضا على عهد الهكسوس.والعهد المروي, أي إستمر الإستهداف العنيف والمباشر في المرات الأولى, حتى القرن الرابع الميلادي. عندما ازدهرت تجارة الصمغ والعاج والبخور والذهب بين الغزاة المحتملين وبين السوق الورا.
السوق الورا كان غريبا بين الأسواق, في كل العصور خصوصا عصري الذهب الأبيض والأسود, فهو منذ القدم ظل متصلا بدول ما بعد الصحراء الكبرى, وبلاد النجاشي.. بل كان متصلا حتى بهند بوذا؟! كما أن هوميروس أكد بشدة, أن الآلهة يجتمعون في هذا السوق في عيدهم السنوي من كل عام؟!
لكل هذه الأسباب التاريخية, كان العشاق لا يصبحون عشاقا تاريخيين, إلا خلال علاقاتهم الناشئة في الكيمياء العجيبة لهذا السوق!.. فهي(أم تعب بنت الدريب) وهو(جادين جانو).. لم تتكرس علاقتهما ببعضيهما إلا في حياة هذا السوق..
4
صانع الفخار كان هو أول من تنبأ, بوجود الزيت الأسود, تحت الطبقات القصوى للطين, خلف السوق الورا, عند مقابر ود أمجبو.. وفي مواقع أخرى مختلفة, من سهل البلاد الكبيرة الواسع, لكن هذه النبؤة تم التواطوء عليها عبر الحقب المتعاقبة, ولم يماط عنها اللثام إلا في وقت متأخر..
وفي الحقيقة لم يتنبأ صانع الفخار بوجود الذهب الأسود, فحسب فقد سبقت نبؤته هذه, نبوءات عديدة ترتبط جميعها بمكنونات الطين, وما ينطوي عليه من معادن عديدة, في الأنحاء المتفرقة لسهل البلاد الكبيرة الواسع.
وأجمعت كل هذه النبؤات أن جشع الحكام وإستبدادهم وطمعهم وفسادهم, سيؤدي للإقتتال على مكنونات الطين, ما يضع السهل كله في مهب الريح السموم, فيتحول الطين إلى ما هو أسوأ من الحصرم.
الآن بعد كل هذه العصور,عندما ينظر "جادين جانو" إلى ما توفر بين يديه, من نبؤات يشعر بغصة في حلقه, فالتواطؤ على نبؤات مكنونات الطين, أدى إلى إنفجار هذه المكنونات, فتبع ذلك الحروب و الفقر والجوع, والتدهور البيئي وتمزق السهل الواحد, إلى سهول عديدة!
5
كان الطين إذن هو نافذته التي يطل منها علي تاريخ البلاد الكبيرة, في عصورها الغابرة وعصرها الحالي ومستقبلها بعد مئات السنوات. عندما يولد جادين جانو ذات صبيحة مشبعة بدعاش النيل النديان.
لذا وهو يرى الماضي والمستقبل متزامنان في حاضره, إهتم بالبحث في مفردات هذا الماضي, فعلم من الأدوات الحجرية, التي عثر عليها أثناء تسفاره وتجواله وتنقلاته, في سهل البلاد الكبيرة الواسع, أن الإنسان سكن هذا السهل في الخرطوم القديمة في عصر الحجر، وأن هذا الإنسان كان جنساً زنجياً يختلف عن أي جنس زنجي يعيش اليوم, وقد إتخذ أول خطوة معروفة نحو حضارة السهل، وكان ذلك بصناعة الفخار وإستعماله.
وأن أحفاد هذا الإنسان, كانوا مغرمين بالبحث في الطين, فقادهم البحث لإكتشاف النحاس, الذي قاموا بتعدينه, وصناعة العديد من الأدوات و المشغولات منه.
إذن هذا الإنسان ظل على الدوام مستهدفا من الجوار, على حدود السافل. ما قاد للإحتلال الفعلي لجزء من أراضي السهل أسفل النهر, إذ تمت السيطرة على منطقة "سمنة" التى بنى فيها الغزاة ستة عشرة حصنا منيعا.
أحفاد هذا الإنسان نفسه شيدوا حضارة كرمة, التي تدل تنقلاته في أرجاء السهل وما عثر عليه من جداريات ومنحوتات في الكهوف والجبال المحيطة, أن أحفاد الغزاة الأوائل, حرصوا على تشييد مركزا تجاريا كبيرا فيها, كان لوجوده أثر كبير في المصاهرة وإنتقال مركبات الثقافة..
وما لاحظه في بحثه عن "كرمة" الفخار الممتاز الذي سيعرف بعد مئات السنوات ب"خزف كرمة", والذي يُعتبر أجود خزف عُرف في وادى النيل, منذ فجر التاريخ.
الأحفاد المتعاقبين للغزاة الأوائل, على عهد الهكسوس, وجهوا همهم إلى بلاد النوبة، وشرعوا في تنفيذ سياسة توسعية تجاه البلاد الكبيرة، إلى أن تمكنوا بعد سنوات طويلة, من إحتلال أجزاء واسعة من السهل أسفل النهر, وحتى الشلال الرابع لمدة ستة قرون. إستنزف الغزاة خلالها الكثير من موارد البلاد الكبيرة المتعددة مثل الذهب، وخشب الأبنوس، سن الفيل، العطور، البخور، ريش النعام ، الفهود وجلودها، الزراف، كلاب الصيد، والماشية.
وفي هذا العصر بلغت البلادالكبيرة أقصى درجات رُقيها، إذ إزداد الرخاء وإتسعت التجارة بين البلدين وطُبعًت حضارة سهل البلاد الكبيرة, بطابع الجوار أسفل النهر.
قرون الإحتلال الستة أثارت الوعي القومي, لأهالي سهل البلاد الكبيرة. ونبهت السكان الأصليين, إلى أهمية بلادهم وكثرة خيراتها، فإستغلوا أول سانحة لاحت لهم, وهي تدهور إمبراطورية الجوار أسفل النهر، فأعلنوا إستقلالهم، و وأقاموا عاصمة لمملكتهم المستقلة في "نبته" الواقعة أسفل الشلال الرابع.
بل وتمكنوا فيما بعد من إحتلال الجوار أسفل النهر, وإخضاعه وتأسيس دولة قوية إمتدت من البحر المتوسط, حتي مشارف الحبشة لمدة تزيد عن الثمانين عاما.
وهكذا صارت كوش قوة لا يجهلها أحد. ولكن عندما غزا الجوار أسفل النهر الأشوريين, وإستخدموا الحديد كسلاح فاعل في ذلك الوقت, أجبروا "كوش" علي الرجوع إلي الوراء, داخل حدودها الأصلية ضمن سهل البلاد الكبيرة الواسع المتسع.
وبإنتقال العاصمة من نبتة إلى مروي, إزدهرت صناعة الفخار والحديد، حيث ترى في مروي أكواماً عالية هي أثار فضلات الحمم, التي كانت تخرج من أفران صهر الحديد. ولهذا السبب ستوصف بعد مئات السنوات ب "برمنجهام أفريقيا القديمة", لتستمر كحضارة أفريقية لما يزيد عن الثمانية قرون. تنشر النور حولها من عقائد وأفكار وقدرات فنية.
عندما إعتلي عرش النوبة ملك يُدعي "داود" عام 1272م قام النوبيون بالهجومٍ علي المدينة العربية "عيذاب"علي ساحل البحر الأحمر. محاولة منهم لدحر الغزاة العرب, من أراضي السهل الواسع جهة دار صباح.
بعد ذلك دخلت مملكة النوبة في عهد المؤامرات, وإستمر الحال هكذا إلي أن إنهزم "كودنيس" أخر ملك علي مملكة "دنقلا" عام 1323م، وإنتهت الدولة المسيحية، وصارت البلاد مفتوحة أمام الغزاة العرب وإنتشر الإسلام.
أما مملكة علوة, فلم تحمل جداريات ومنحوتات صانع الفخار, معلومات تذكر بشأنها, عدى الشذرات التي أفادت أنها، ستسقط عام 1504م علي يد تحالف العرب العبدلاب القواسمة والأفارقة الفونج.
بينت حضارة كوش أنها غربلة أفريقية للآراء والأساليب والمعتقدات، تأخذ منها ما ينفعها وتضيف إليها ما إبتدعته. إلى أن دهمها الخطر من جنوب الجزيرة العربية، عندما هاجر قوم من هناك إلي داخل الحبشة، وأنشأوا دولة أكسوم, التي قويت وإستطاعت أن تحول بين كوش وشرق القارة الأفريقية والمحيط.
وبالتدريج تمكنت هذه الدولة من قهر كوش عندما قام "عيزانا" أول ملك مسيحي لها بغزو كوش وتحطيم عاصمتها مروى عام 350م.
نواصل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.