وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    قرارات اجتماع اللجنة التنسيقية برئاسة أسامة عطا المنان    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    شول لام دينق يكتب: كيف تستخدم السعودية شبكة حلفائها لإعادة رسم موازين القوة من الخليج إلى شمال أفريقيا؟    مناوي : حين يستباح الوطن يصبح الصمت خيانة ويغدو الوقوف دفاعآ عن النفس موقف شرف    الخارجية ترحب بالبيان الصحفي لجامعة الدول العربية    ألمانيا تدعو لتحرك عاجل: السودان يعيش أسوأ أزمة إنسانية    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اسطورة الشريعة الإسلامية (4)
نشر في الراكوبة يوم 10 - 12 - 2012


[email protected]
الاسطورة على حسب تعريف الويكيبيديا: عبارة عن وقائع تاريخية قامت الذاكرة الجماعية بتغييرها أو تحويلها وتزيينها. وهو معني المقال الذي تحدث عن ان مفهوم الشريعة الإسلامية الذي تم ربطه بالرسالة الإرشادية المحمدية هي قيم مجتمعية كانت توجد قبل الرسالة الإرشادية فما فعلته النخب الإسلامية فيما بعد هي ان قالت ان تلك القيم قد نزلت من السماء باعتبارها قيم إلهية وبالتالي حورتها من قيم إنسانية إلى قيم إلهية واعطتها مفهوم الثبات فهي جزء من الإله بما انها قيم إلهية.
اشرنا في المقال السابق إلى كيفية تجميع المصحف العثماني واحتمال اختفاء بعض النصوص، ونتوقف هنا لنشير إلى ان اختفاء النصوص أو المصاحف الأخرى والقراءات المذكورة لا يؤيد أو ينفي الرسالة الإرشادية ولكن تنتفي القيم الجامدة التي تم احتواء النص داخلها. فالرسالة الإرشادية باقية في الحياة ولمن يسعي إلى استيعابها (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20))، ولكن احتواء الرسالة المحمدية ضمن قيم مجتمعية ومرحلة تحولات محددة، أدى إلى ان تبتعد تلك الرسالة عن مراحل التحولات اللاحقة على مستوى الثقافة العربية أو على مستوى الثقافات الأخرى التي آمنت بالرسالة المحمدية كما شيدتها النخب العربية. وبالتالي أدت إلى ثنائية الدين والدنيا والعبادات والمعاملات والحدود والتعازير والمصالح المرسلة وغيرها من المفاهيم التي جاءت كمحاولة لاستيعاب مراحل التحولات من خلال قيم جامدة وليس من خلال الواقع من قِبل النخب.
ومن هنا نجد ان الرسالة الإرشادية دارت حول مفاهيم كلية تحتوى في داخلها كل القيم التي يعرف من خلالها الفرد والمجتمع ذاته وهي مفاهيم الانا والمجتمع والاخر، وكذلك علاقة الإنسان بالطبيعة، ثم انتهت إلى تعريف الإله المتعالي والفعل الإلهي وعلاقة الإنسان بالإله كل تلك التعاريف تم تمريرها من خلال لحظة التحولات الداخلية للمجتمع العربي ولذلك نجد استيعاب القيم مع إشارات للإرشاد.
وقد ركزت الرسالات بان الأمراض المجتمعية هي واحدة في حقيقتها في الاختلاف بين حق الاصالة وحق الوراثة، فالفعل في الذهنية الإنسانية الذي اتي من حق الوراثة يختلف من الفعل الذي يأتي من حق الاصالة (والاصالة هي الانتماء إلى مجتمع محدد حسب التقييم الفردي ومرحلة التحولات إذا كان عشائري أو قبلي أو اهلي أو ثقافي)، فيجب ان ينطبق على الانتماء بالاصالة ما ينطبق على الانتماء بالوراثة، ولذلك عممت الرسالة المحمدية القيم الثقافية للمجتمع المكي على الكل الثقافي (فاموال السيدة خديجة وغيرها من نساء المجتمع المكي التي اتتها من انتمائها الوراثي هو الذي ادي إلى تعميم قانون الوراثة على الكل المجتمعي باعتبار الانتماء بالاصالة).
ماهية المسلم:
يظهر كثيرا مفهوم المسلم باعتباره انسان يحمل قيم محددة ولكن المسلم هو انسان يحمل مفاهيم تخضع لمرحلة التحولات المعينة بناء على مجتمعه الحقيقي وليس المجتمع التخيلي، فليس المسلم هو الذي يتبع الحرام والحلال في الاكل أو الشرب، فالاكل والشرب عبارة عن عادات ثقافية تخضع للمجتمع المحدد ومرحلة تحولاته، أو مساواة عبادة محددة بالإله باعتبار ان ترك العبادة المحددة هي ترك للإله أو كفر به، ولكن الإنسان المسلم هو الذي يرشد مجتمعه إلى عدم الشرك أي عدم مساواة أي قيمة إنسانية للإله المتعالي فذلك يؤدي إلى الظلم. فنسمع كثيرا من الفكر الإسلامي ان خير الأسماء ما حمد وعبد وان لغة اهل الجنة هي العربية وكل ذلك عبارة عن اعادة استيعاب الرسالة الإرشادية على اساس ثقافي، فالاسماء محمد وخالد وغيرها هي اسماء جاهلية ولم تأتي مع الرسالة الإرشادية وكذلك لفظ عبد (عبد العزي وعبد مناه ...)، فقد قنن الفكر العربي الإسلامي عبادة الإله كما كانت تعبد الآلهة في ذلك الزمن. وقد تم التركيز في ارشاد الفرد العادي إلى علاقة ذلك الفرد بالإله مباشرة دون وسيط، وكذلك تم التركيز على ان الحساب في الاخرة فردي حتى يراجع ذلك الفرد عمله على اساس فردي دون ان يرتكز على المجتمع فلن يفيده المجتمع إذا كان على خطا، ولذلك يجب على ذلك الفرد استيعاب الارشادات وتحوليها إلى أفعال مثال لا تعتدوا (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190))، والجزاء بالمثل فقط أو العفو (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40))، أو حتى الهجرة إذا ارشدت ولم يستجيبوا لك (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)) ، وعلى الفرد ان لا يقيم سلوكه وفق ما يجده ولكن وفق ما يدل عليه احساسه بالصاح والخطا فذلك ما سوف يحاسب عليه (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170))، وان لا يتبع كل ما تقوله النخب والعلماء الا ما توافق عليه (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67))، فليس هنالك صاح مطلق أو رسالة إلهية قيمية ثابتة ولكن الصاح هو استيعاب مرحلتك الانية كان الرسالة قد انزلت الان، أي ان تفسر لك كل ما يدور حولك وليس قياس ما يدور وفق قيم سابقة.
المجتمع المسلم أو الإسلامي:
من هنا يظهر لنا ان ليس هنالك مجتمع مسلم أو إسلامي بمفهوم مجتمع حقيقي ذو قيم واحدة، فذلك المجتمع عبارة عن مجتمع تخيلي حاول الفكر انشاؤه كما حاول الفكر الغربي انشاء مجتمع الدولة، فالمجتمع في جذوره الحقيقية هو مجتمع جيني ولذلك اتت الرسالات لمعالجة اشكالات تلك المجتمعات وتجاوز قيمها إلى قيم أخرى عند التحولات. فانتماء الإنسان الصيني مثلا إلى الرسالة الإرشادية المحمدية لا يعني ان يترك قيمه وعاداته مثل اكل الكلاب أو الضفادع فلم تأتي الرسالة لذلك فتلك قيم ثقافية وكذلك ليس عليه ان يغير اسمه أو ينتمي إلى ما يسمي بالقيم الإسلامية في الزواج والميراث وغيرها التي هي عبارة عن قيم مجتمعية للحظة تحولات تاريخية محددة، أو ان يترك مجتمعه الحقيقي الصيني لينتمي إلى المجتمع التخيلي (الإسلامي) فكل ذلك نتاج لاستيعاب الرسالة الإرشادية كرسالة ثقافية، بل الرسالة تحضه ان يكون كما هو وترشده إلى كيفية الانتماء إلى مجتمعه الحقيقي (الصيني) وذلك بتحويل الفعل بالوراثة إلى فعل بالاصالة للكل المجتمعي، وعدم البغي والظلم والعفو وغيرها من المفاهيم، وكذلك استيعاب الاختلاف بينه وبين الاخرين باعتبار الاختلاف الإنساني (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13))، فالرسالة الإرشادية تدعو إلى الايمان واستيعاب الواقع وليس رفض ذلك الواقع والانتماء إلى واقع متخيل.
مفهوم الإله المتعالي:
وكذلك استيعاب مفهوم الإله المتعالي أي الذي يتعالى على كل الصفات والقيم الإنسانية والمادية. فقد خلق الله الكون والإنسانية بحيث يكون هنالك تكامل عضوي عند مرحلة تحولات محددة فالفعل الجزئي الإنساني داخل تلك الكلية هو فعل انساني كامل ولذلك تتحول كلمات مثل انشاء الله التي تحتوى على مغزي فعل الهي عند الوعي الجيني تتحول إلى مزيد من الوعي بتلك الكلية، ويتحجج اصحاب ذلك الفكر بان الله امر الرسول بان يقول انشاء الله ولكن لا يسالون عن مغزي ذلك السؤال فقد كان الإرشاد في تلك الاية بان صفة رسول لا تجعل من صاحبها شريك في الرسالة الإلهية حتى يتحدث بالإنابة عن الإله، فعندما سؤل الرسول محمد عن المسائل الثلاث، كانت إجابته مباشرة باني سأجيبكم غدا، فانقطع الوحي مدة اسبوعين أو أكثر كما تذكر كتب التاريخ والتفسير ولما رجع الوحى كان التنبيه بان الرسالة خاصة بالإله ولذلك لا تقطع بامر فيها من عندك حتى تكون مشيئة الإله (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)). ولكن لقصور الرؤية النخبوية تم تعميم المشيئة الإلهية داخل الفعل الإنساني.
فالانسان الذي ينتظر الإله ليفعل بالانابة عنه سينتظر طويلا ولكن من يسعي إلى استيعاب التكامل الإنساني والطبيعي في لحظة التحولات التاريخية التي يعيشها يستطيع ان يستوعب الإرشاد الإلهي أو سنة الله فسنة الله هي احكامه التي تقوم عليها الإنسانية والحياة وليست افعاله. ففعله الإلهي لا يقوم على جزئيات وتكامل تلك الجزئيات كما الإنسانية. ولذلك عند حوار ابراهيم لم ينفي الإله قدرة الإنسان على الفعل الجزئي ولكن تم نفي قدرته على الفعل الكلي (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)).
مغزي الرسالات الإرشادية أو الدين:
ان الفكر الإسلامي قد اوقف الرسالة الإرشادية عند مرحلة تحولات معينة ولذلك أصبحت المراحل التي اتت بعد ذلك خارج اطار الرسالة الإرشادية أو الدين بالاصالة أي لا يمكن للدين استيعابها مباشرتا، ولكن يمكن القياس المرحلة التاريخية للرسالة المحمدية، وهو ما اوجد نفر يتحدثون باسم الإله يحللون ويحرمون باعتبارهم الهه، وهو ما جاءت الرسالة الإرشادية لتجاوزه من البداية بالتفريق بين الإله المتعالي والبشر.
الدين اذن هو استيعاب لمغزي الإنسانية والحياة وهو استيعاب للإله المتعالي (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4))، وهو استيعاب للتكامل العضوي بين الإنسان والطبيعة عند لحظة التحولات المعينة(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)) ويندرج تحت تلك المفاهيم الكثير من الأشياء. فمثلا مفهوم الاخر الإنساني أو الاخر الضد فكل اخر هو اخر انساني إلا في حالة واحدة سنأتي لها لاحقا. وقد بدا تعريف الاخر من تعريف الذات باعتبار ان المجتمعات العربية تشكل كل واحد، وذلك بارجاع مجتمع التحولات المكي إلى مجتمعاته الحقيقية من خلال الوعي بالإنسانية والتكامل السلوكي، فقد استوعبت قيم المجتمع المكي كقيم كلية لمرحلة التحولات التي يمر بها المجتمع العربي ككل في ذلك الزمن (كما اوردنا في المقال السابق) وذلك نسبة لتماهي السلوك مع الوعي الإنساني عند المجتمعات، فوحدة السلوك تعني وحدة عضوية عند الإنسان العادي. اما تعريف الاخر قام في تلك اللحظة التاريخية على الاخر اليهودي والانصاري ولذلك تم ذكرهم مفردين أو جمعوا في صفتهم المشتركة باعتبارهم اهل كتاب (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64))، ولكن تم التركيز على الوعي بالاختلاف ليس بينهم وبين العرب ولكن حتى بينهم في انفسهم (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)). اما الاخر الضد الذي اشرنا له سابقا فهو الذي يحاول ان يفرض وعيه عليك بالقوة فعند هذه الحالة يتحول ذلك الاخر أيضا إلى انسان ولكنه ضد فالإنسانية ثابتة ولكن ذلك الضد هو فعل جزئي من تلك الإنسانية فإذا وقفت فان الأصل باقي من حيث انه انسان ولذلك فاستيعاب الإرشاد الإلهي يؤدي إلى محاولة تجاوز كل امكانية الارشاد حتى لا تتصدم مع الاخر لان الكفر والشرك هو قصور استيعاب للمعني الحقيقي للحياة الإنسانية ولذلك تحاول ان ترشد ذلك الفرد أو المجتمع ما امكن وان توضح له قصور فكره ولذلك كان الاذن في محاربة الاخر برد العدوان بعد نفاذ كل امكانية لارشاده أو تفاديه (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)، ومع ذلك فان اراد الاخر السلم ولو من باب ظهور الضعف عليه أو الخداع فهنا لزم ان توافق على الصلح وذلك لان الغرض الأساسي ليس هزيمة ذلك الاخر ولكن ارشاده إلى قصور فكره (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62))، واما ما يقوله المفسرون بان الله قد استخدم التقية حتى يشتد عود المسلمين فذلك تفسير ثقافي فلا يحتاج الإله المتعالي إلى البشر لينتصروا له أو ينشروا له دينه فذلك تحوير لمعني الدين من رسالة ارشادية إلى رسالة ثقافية. وحتى الحروب والقتال جاءت بناء على قيم المجتمع الجاهلي، فالارشاد اتي مرتكزا على قيم مجتمعية حقيقية مثل الاشهر الحرم، فعندما حاربت سرية من سرايا الرسول قافلة قريش وقتلت بعض افرادها وتحدثت قريش على ان الرسول واصحابه قد اتوا كبيرة وافقتهم الرسالة الإرشادية تماما ولكن تم تنبيههم إلى اختلاف القيم باختلاف اولوياتها الإنسانية وليس وجودها كقيم إلهية (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217))، ولم تتجاهل الرسالة ذلك الحديث باعتباره اتي من مجتمع مشرك فقد عاملت المجتمع العربي ككلية واحدة باختلاف الاستيعاب بين جماعة الرسول وبين المجتمعات العربية الأخرى.
خاتمة:
وصلنا في المقال السابق إلى ان المصحف العثماني احتوى على ارشادات ولكن استيعاب ذلك الإرشاد يرجع إلى الفرد فكل الترميز الذي حاول اعادة استيعاب الرسالة الإرشادية هو استيعاب ثقافي تاريخي يرجع إلى مرحلة الرسالة المحمدية من تفسير وفقه وسنة وغيره. ولتوصيل الفرد إلى معني الإرشاد نصل هنا إلى معني الدين في رؤية التحولات الاجتماعية فالدين ككلية يشمل استيعاب مغزي الإنسانية والإله المتعالي وذلك ككلية وتحتوى تلك الكلية على تفاصيل كثيرة داخلها مثل الإله المتعالي وكيفية تصوره وافعاله وغيرها وكذلك يندرج في الإنسانية استيعاب الاختلاف بين المجتمعات والثقافات والاختلاف بين الفرد والمجتمع وغيرها. فالدين يعني باستيعاب كل ذلك بناء على المرحلة التاريخية المحددة التي تطرح بها تلك الأسئلة. فمع التحولات الإنسانية من عشائرية إلى قبلية وثقافية يختلف تعريف أو مفهوم الإنسانية وبالتالي تختلف القيم التي تدل على المفهوم في مرحلة محددة.
ان الاستيعاب وايصال الإرشاد لاي فعل انساني يكمن داخل الوعي بمفهوم أو معني الإنسانية فكل ما كان ذلك التعريف يتطابق مع مرحلة التحولات امكن استيعاب ذلك الفعل والتنظير له. فرؤية الإنسان وتفكيره يتحول بتحول معني الإنسانية على حسب مجتمعه الاني. فعند المجتمعات المغلقة كان تعريف الإنسانية سهلا إذا كانت عشائرية أو قبلية ولكن تعريف الإنسانية الثقافي هو الذي لم تستطع النخب ان تجد له معني ككلية قيمية تضم كل افراد ذلك المجتمع مما أدي إلى محاولة نشؤ مجتمعات بدلية إذا كانت فلسفة مجتمع الدولة أو المجتمع التخيلي بناء على رؤية الثقافة الغربية أو المجتمع الإسلامي على حسب الفكر العربي. ولكن كل تلك مجتمعات بديلة تخيلية لا تغني عن المجتمع الحقيقي وتعريفه. فتلك التعريفات تستوعب مفاهيم وقيم تؤدي إلى قصور في تعريف الكل المجتمعي. فالثقافة الغربية تتجاوز معني المجتمع الحقيقي والإرشاد كدور واجب على النخب واستيعاب مفهوم الإله المتعالي داخل الحياة الانسانية وغيره. اما الفكر العربي فقام على انشاء مجتمع بديل من خلال قيم تاريخية وهو ما يسمي المجتمع الإسلامي وذلك بتجسيد الإله داخل الثقافة مما يؤدي إلى عدم رؤية التحولات الاجتماعية أو استيعابها لاحقا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.