«الحزن لا يتخير الدمع ثياباً كي يسمى في القواميس بكاء».. الصادق الرضي! قبل بضعة عشر عاماً - عندما كانت الأوساط الثقافية في منطقة الخليج تمور بالمعارك الفكرية والأدبية بين مؤيدين ومعارضين لثورة الحداثة - قرأت مقالاً لأحد النقاد بعنوان «ثلاث خطوات في حضرة البياتي» يتحدث فيه عن تأثره بالشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي وافتتانه العظيم بشعره وشخصه، قال فيه كلاماً على غرار.. « يأخذك حديثه يرسم لك مدناً من ثلج أسود وزمن تركض شمسه مذعورة في الشوارع»..! ربما كانت تلك لوحةً شعريةً حداثية أو رؤية نقدية سوريالية، لا أدري.. كل ما أدريه وأذكره جيداً هو أن مسألة الثلج الأسود أدهشتني قليلاً، بينما تفرّغتُ تماماً للضحك على حكاية الشمس المذعورة تلك.. أذكر أيضاً أنني لم استطع مقاومة التفكير بشكل الحذاء الذي كانت تنتعله شمس البياتي أثناء ركضها الهستيري في تلك الشوارع..! وعلى الرغم من برزخية وضعي الثقافي في تلك الفترة فقد تجاوزتْ ردة فعلي إزاء قصة الثلج الأسود والشمس المذعورة مجرد الضحك إلى محاولة البحث عن كلام آخر لكاتب المقال فوجدت له كتاباً يتحدّث فيه عن مفهوم القصيدة الحداثية التي يرى هو أنها لا تنتهي عند انتهاء الشاعر من كتابتها وإنما تظل تنمو في نفس كل قارئ من قرائها، حتى يوشك أن يصبح لها من المعاني بعدد ما لها من القراء..! ثم ظللت أتدرج في القراءة عن هذا إلى أن قادني ذلك إلى ثابت ومتحول أدونيس الشهير الذي يقول فيه بأن الحداثة ما هي إلا صراع بين نظام قائم على السلفية ورغبة عاملة لتغيير هذا النظام.. وعلى الرغم من تجاوزي لمرحلة البرزخ تلك إلى مراحل أكثر عُمقاً وحياديةً وبعد مرور كل هذه السنوات إلا أن الكثير من نصوص الشعر الحديثة لا تزال تدهشني كثيراً بغموضها الشديد، وعلى رأس تلك النصوص أشعار أدونيس نفسه..! فاشتراط الغموض والإصرار عليه مسألة لا تقل غرابةً وإضحاكاً عن قصة الشمس المذعورة تلك.. تعمد الغموض في النص الأدبي لا يمكن أن يُعد إنجازاً ثقافياً بأي حال.. ولعل محاولة التقليل من فكرة الغموض كحاجز هي من أهم إنجازات مسرح العبث نفسه..! إذاً تذليل الغموض وإزالة الحواجز كان من أبرز ملامح تطور المسرح، في الوقت الذي أصبح فيه الغموض شرطاً عبقرياً من شروط النص الشعري الحديث، فلا ينساب إبداع بعض الشعراء إلاّ من خلف حائط رابع مماثل، والدليل أن الكثير من هؤلاء الشعراء يؤمنون بأن النص الذي يفهم ليس بشعر..! الحقيقة أنّ لذة تفكيك النص الشعري ومحاولة سبر أغواره وإسقاط معانيه على صور من الواقع هي جزء لا يتجزأ الدور التاريخي للمتذوق، وشرط من شروط استمتاعه به.. أما أن يتحول تذوق النص إلى معاناة قد لا يكون الفهم - الذي هو أبسط حقوق المتلقي - نتيجة مباشرة لها، فهذا أمرٌ من شأنه أن يشوه معنى الشعر ومفهوم التلقي..! الرأي العام