ونسات في البوفيه (1) ومرة كنت في مستشفي العيون قبالة شاطىء النيل, في البوفيه, أقابل فيه بعض أبناء منطقتي ممن يعملون فيه, ضحيّة من أولاد كمدنق (لقاوة) وجامع (قليصة) وعزالدين برام (الدبكر) ومن أبناء دفعتي في أبوزبد محمد ود العمدة كباشي. كان محمد يتأهل لوظيفة مساعد طبي بقسم العيون, والبقية في قسم البصريات. كان المستشفى نطيفا كالمنتجع ويشرف عليه أطباء مهرة, عبالقادر حسن اسحق والهادي أحمد الشيخ ويرأسهم حسين ود البكباشي. تعرفت عليهم وعلى بعض من زميلاتهم "الرهيفات" والحق أنني كثيرا ما كنت "أزوغ" من تناول الفطور مع زملائي في مكتب النشر الذي يفصله من المستشفى شارعٌ ضيِّقٌ قصير.أسرتني إحداهن حتى "الرُّكَب" ولا استطيع الإفصاح ولكنني كنت أصرف وقتا طويلا في طمس مشاعري ووقتا أطول في كيفية العبور للمحطة الواحّة. كنا جُرآء على اللعب الممنوع في أماكنه, ولكن ما أُسْمِيَ بخُلُقَ "أولاد البلد" كان يحضُرنا لدرجة الحصار كلما استشففنا في الأوانس سيماء تحملها عذراوات "حلّتنا". ونطيل السرحان مع محمد كباشى في التجوال في سرادق الذواكر, أيام الكُتاب, العيد والمراجيح التي ينصبها عيال فلاتة تحت شجرة الهجليج وكيف كنا نتسلى بالتسالي وبالكعك يخترق دهنه جيوب جلابيبنا و"تتحتحت" الغريبة في "كُسَر المخيط, فننفضها لعيال فلاتة نريهم أن "تعاريفنا, ملاليمنا" لم يبق منها شيء للمزيد من التمرجح, فيتحرشون بنا ولا ينقذنا إلا شيخ فريقهم الحاج "قربا, وترجمتها قُرْبى" ويطلب منهم السماح لنا بوقت إضافي لأن الدنيا عيد فنصعد في "العناقريب للمرة العاشرة؟ وتشّنف آذاننا موسيقى "الكيتا, وأصلها القيثار كما عرفت من زميلي في جامعة لندن, أحمد أنفاني,وترجمتها "ينفعني, كما تمنت أمه, وقد يمَّمها النفاع". وينتهي التمرجح بأحداثٍ طريفة كالتي حدثت مع زميلنا "درومة" درومة زميلنا في الصف, أبوه خفير كسائر خفر الناظر إبراهيم ناصر, لا ّتُظّنُّ فيهم الفطانةُ ابدا, لإن مظهرهم لا يدلُّ, ولكن درومة قطع ألستنا وألسنة أهلنا. لا يطالع دروسه مثلما نطالع ولكنه يتصدر للإجابة عن أي سؤال يطرحه المدرس ويجيب عنه بنفس اللفظ الذي سمعه ولو في أول العام, وتكرر ذلك حتى أن المدرسين كانوا يتجاهلون رفع يديه "فنْدي, فندي, فندي" والجميع وجوم, ولما نقف في عقبات المخ يأذن الأستاذ لدرومة بتلقيننا الإجابة الصحيحة, فنطئطىئ. هذا شأن درومة في ملعب الكرة وفي حصة "الجمباظ". لا نعرف اين يكون درومة الآن. ولكن من قبيلة الدروميين حسين بّلّال استقر به الحال سائقا في إحدى الجامعات, وكان مدير الجامعة يجلسه بجانبه في مقهى النشاط الطلابي فيستغرب الطلاب, وبعضهم يستهجن تلك المجالسة اللامتكافئة ويردونه للتواضع ولكن المدير يقول: "يا أولادي, والله لو ما الحظ أنا الكرسي بتاعي دا كان مفروض يكون قاعد فيه عمكم حسين دا, وأنا بكون السّواق بتاعو". ونذكر أستاذ حمدالنيل كان رائعا حاذقا التدريس ولا يعوضنا تمتمتُه إلا ضحكته المجلجلة لا تستجيب للتوقف إلا بدغدغة منديله المطرز. إلّا أن أستاذ حمد النيل أوجعني لمّا "رصّص, أطلق النار" على كلبي جمال , لا لشيء إلا لأن جمالا أزاح نجيبا المحبوب, فأمه سودانية, وهو بطل يحب الاتحاد والنظام والعمل, وقال خالي الشاطر: " البلاوي كلها حتجي من كلمة "نظام" دي, بوليس وسجون و,,... ولم أفهم منه شيئا. المهم خالتي أسمت عليه ابنها, محمد نجيب بكر . كنا في الثامنة لما اندلعت الثورة المصرية (اندلعت شنو؟ إنقلاب بس) وفرح الناس وامتدّ إلينا الفرح, كنا نحب مصر القريبة مٍنّأ لدرجة أننا تخيلناها على مقربة من الأبيض أو سودري لأنّ عمنا مختار محمد عبدالقادر كان يسكن في طنطا التي أنتهى إليها استقراره بعض تكرار السفر لها بالجمال ب "درب الأربعين" والأبيض وسودري وحفرة العطرون ثم مصر, كنا نحب مصر ونضحك على المصريين, فالمصري "خوّاف" و "ضرّاط" و "بلباص" و "كُلٌّو ....". وبعد كل ذلك نفاخر بمن تخرّج في الجامع الأزهر, ولا نسأل عن مؤهله لما يرجع بعد عشرين عاما. "وظيفتو جاهزة"". قرأ, لم يقرأ, جلس في الرواق السناري حتى عتّت, ختم القرآن في مقبرة أمام شاهد بنت أخت الباشا وتلقى أجراً وزيادة "فتّة" أو "كُشَري" ودخل الحمام العام واختار أخفَ الضررين بصابونة لوكس. المهم أنه رجع ولو قضى كل تلك المُدّة يستمع للغاشي والماشي يكون في جعبته من الفُتْيا ما يكفي لملاقاة احتياجات "ناس الله" أهل القرية. "مؤخر صُداق, وتعصيب معظم السكان في توريث اليتيمة ابنة اليتيم ابن ولد الأيتام في مقتبل أعمارهم بالوراثة, والميراث كان جنينة هشاب قلبها الزحف الصحراوي لرمال عاريةٍ عُريِّ الأجساد المُكَوَّمَةِ في نادي سدوم. وقَدِمَ الفقيه ونحرت الذبائح وتنافرت الرجال والنساء في جمع القشّ والحطب وفتل الحبال يُجَهِّزون له "قطيّة" كبيرة و"راكوبة" فسيحة" فرشها "بروش" تنافست في ضفرها "العوين" وكان أجلبها للمسرّة ما ضفرتة الماشطة, كانت حريفةً في نقلها مهارة ضفر الشعر لفنِّ ضفر السعف. وكل هذا لأن الرجل رجع من مصر يرتدي جلبابا "مُشًخَتاً, مخطط" وعمامة تبدو كطاسةٍ العمود الصغير (ينقل فيه الطعام, غالبا للإسبتالية) ووضع فوقها طربوش أخضر. ولو كان رجع من أسمرا أو فورت لامي لأرهقوه بالطلب. هكذا, كان تعلقنا بمصر يشبه الزيجة "أم تسعة": " ما بَرِيدكْ وما بَحْمَلْ براك" وإن سألتم "ما الزيجة أم تسعة؟!" أُحيلُكم للفقيه الذي كان يقصده الخُطّاب لمعرفة توافقهما إذا عُقِدَ القرانُ. يهرعون إليه فيسألهم عن أسماء الخطيبين وأسماء أمهاتهم, ثم يمسك بالمسبحة ويغمض عينيه ويغمغم وأصابعه تعُدّ في حبات المئذنة طرداً وعكساً وهو "يجرجر " في الحبّات العشر المثبتات في "كِلوة" المسبحة والعشرة اللوتي فوق مئذنتها. يجمع ويطرح حتى يصل الناتج إلا أقلّ من العشرة. فإذا كان الناتج اثنين فهو نجاح للزوج المرتقب في مهنته, وإن كان ثلاثة أو ستةّ قطّب الفقيه وجهه, أما الأربعة فهي فراق قريب بأحد الأجلين يستعيذ منه الفقيه جهرا لأيصال الرسالة للمخطوبين, والثمانية حب وأمان وصبايا, والواحد جيد ولكن يتوقع فيه فاجعة في المولود البكر, وتسعتنا مع مصر ففيها حّبٌّ و "نِقنقة, ضجر وخلافات" وهيام واعتذارات .وإثر كل مشاجرة مضاحعة ساخنة: "لا بريدك ولا بحمل براك" ويقولون "عِلم هاروت وماروت" وينسبه بعض اليهود من طائفة القبّالة للساحر العارف بأمر الخفاء – عندهم - إبراهيم. وهكذا تسرّب تأليه أبينا إبراهيم لعقيدة تلوثت فانمحت بدءً بالأندلس ثم غرب إفريقية ووسطها. الرابط بين علم الجفر وطقوس القبالة عريض. ويمنعون منه الشباب. يا لهؤلاء "الأرزقية" باسم الدين. مسخوا الدين كله من أجل التكسب ويتحججون بحرمة الربا وهضم حقوق الناس ..... وهل يفسد الكل وتسلم الجزئيات, يا أرُسطو. عبدالماجد محمد عبدالماجد الفكي [email protected]