ندوة الشيوعي    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ونسات في البوفيه (2) (تذَكُّرات معاشي)

وساقنا الحديث إلى "العتاولة, الفُتُوَّات, وبالشاميّة "الأباضايات" ممن عاصرنا من التلامذة حسن دقيل "ود يوسف الخِدِر" والتجاني يونس (من آل الشريف الفضل) وغيرهم من الطِوال. ولكننا توقفنا وقفة خاصّة عند ذلك الولد الأخدر ذي الشعر السبيبي الناعم, خليفة ود عبدالله الريّح. كان نحيفا إلا أن كل شيء يتعلق به كان يبرُق. أينما وليت بصرك تراه, وإن مشى وراءك لا تراه لأنه "نبلته" تتربص بكل دابة غير أليفة أو داجنة, وهي لا تخطيء الهدف أبدا, وذخيرته صفائح من حديد يجلبها من فريق الحلب (أولاد عوض الله , والخالة نصرة المتخصصة في العلاج بالظار) إلا أنه لا يرميك ولكنه بعد أن يكتفي من ترويع الطير سيخرح من جيبه حديدةً مجوّفة مخروطيّة الشكل وفي قاعدتها يربط "لستكة, شريحة مطاطة" يقطعها في دكان العجلاتي (عمنا الصِّدِّيق حاج ابراهيم) ثم يصل أعلاها بمسمار طويلٍ سميك (7 لينيا) يلقطه من محل النّجّار محمد عطيّة, ويخرج علبة يأخد منها بأطراف اصبعيه مسحوق النار(الكبريت) و"برّاحة, بتمهل" يغرز المسمار في عقِب الحربة ويمطُّ اللستك وفي أثناء الونسة يفجأك ب "طاااخ".تتلفح بذراعيك وكفيك تغطي الراس والوجه وتهوى إلى الأرض ولما تفيق من الصرع مشحونا بالغضب يكون "حسّاس , لقبه لاحقاً" مرق بعيدا يبعث لك بضحكات استفزاز وهو يقف في وسط "الكوشة" مع عيال الشياطين, ولكي لا تلحق به يتوجب عليك أن تواجه الشوك وقطع الزجاج المبعثرة وكل صفيحة صدئة, ناهيك عن الضريسة والحسكنيت (حبوب نباتٍ برية محاطةٌ بشوكٍْ دقيقٍ طعناته لاذعة). وكان الخليفة (تيمنا بأخيه الأكبر الذي اختطفته المنون صبيّا) أصغر أخواته من فاطمة بت علي ود العصملي وأبوه عبدالله ود الريح من جهة السروراب, ولعلّ لهم علاقة بالجميعاب إذ كان من قرابتهم محمد ود الخليفة ابن الزهو بت الباشا (الزبير ود رحمة). ومن شقيقات الحسّاس الزهو, واسمها يدل على قرابة أو عشرة عميقة بالجميعاب. أما خاله بكر ود على ود العصملي فكان من عُقلاء أهل البلد وأبكرهم في التعليم الحديث. توفي والده في رحلة تجارية للجنوب وتركه وأخواته الأصغر من أمهم فاطمة بت صبير ورهطها في الجزيرة ممن استعرب من البُجا, وترك معهم أخوات وأخوات غير شقيقات هم أحمد "سمّوحة, كونه كان وسيما جُمَّالاً" وإدريس ورحمة الله وسليمان ونور البيان, ونور البيان لها ولدً صميم كريم اسمه عبدالماجد فذهب بي الظن إلى أنه أسمي على عبدالماجد جدي, ذلك لأن عبدالماجد وُلد بضاحية الدبكر لمّا كان كل أولئك النفر يسكنون على مقربة من جبال الكاركو تحسباً من انتقامات الخليفة ممن تخلف عن النصرة من أهل البحر وآثر "البِعد ولا الدار أم سٍعٍد", لكن اتضح لي مؤخرا ان ود العصملي له ولد اسمه عبدالماجد وعليه فإنه أسمي على عمه, ولكن هذا لا يعني أن عمه نفسح لم يكن أسمي على عبدالماجد. والغريب أن عمهم هذا لم يشاهد في البلد وكان أغلب الظن أنه مات في الغربة مثل ابيه, ثم اتضح أن ذلك الرجل لم يتغرب بعيدا (بمقاييس اليوم), كان في الفاشر واقترن هناك بإحدى بنات فريق أولاد الريف وولد منها بنتاً عاشت مع أخوالها زمنا ثم تزوجها رجلٌ من بيت سيماوي وانجبت له المُسَمّاة سليمة على عمتها هنا معنا في أبوزبد, وناس سيماوي كان منهم المسئول عن مرافقة المحمل وكسوة الكعبة في عهد السلطان علي دينار. لعلها ليست محض مصادفة أن يقترن ود ريفٍ (من بعيد) ببنت ريف من بعيد أيضا. وكنت رأيت أخوالا وأعماما لا ألتقى معهم إلا في النسب البعيد, ولكنها حال المغتربين يختزلون شجيرات العوائل لما يكونوا من الأقليات ويتمترسون بالمصاهرات, وله نظائر في زمننا هذا, فتجد السوداني في بلاد المهاجر يفَضِّل أن يزوِّج ابنته أو ابنه لأولاد " سجمان الحلة" في السودان, يفضله على الخواجة أو الآسيوي ويكاد يموت غيظا إذا كان من مُلّوَني ما وراء البحر. هذا سلوك أسمّيه سلوك "دا بسجمو ورمادو أحسن" وهو سلوك لا يقبله عقل حسابات المنطق المعاصر. التعقُّلُ المحضُ لا يجيزه, ولكنه يطفو إلا السطح كلما وُوجِهنا بفرحٍ أو مُصاب أو أي مشروعٌ مؤثر على الوجدان. ساعتها نضحي بالحب الذي نقًدِسُ و "نلعن أبو خاشُهْ" ونضحّي بالدين نفسه ونستجير بِ"الرجالة" والتقاليد!! لماذا؟ فإذا تأملّت في هذا السؤال المرهق فإنك ستنقادُ إلى البحث في كيفية عمل الدماغ البشري وكيفية تخزينه المعلومات واسترجاعها وما يصحب ذلك من معلومات تراكمت في ذهنية الناس عبر عصور طويلة وتم تغليفها جيّدا ومن ثم دفنها في ما يعرف باللاوعي, وكيف يتسنى لهذه المعلومات التسرب خلسةً للتدخل في ما يمليه الحضور الذهني العلني (الوعي) ومن ثم يبتديء تضاربٌ لا يزيده تأثير المحيط الاجتماعي إلا بللاً, وتُنتجُ التناقضات والازدواجيات. كأن المُخًّ تموج فيه صراعاتٌ يصرُّ فيها الداخلُ أولاً على كبح الواصل متأخرا, بمعنى طغيان المكون الاجتماعي والمخزون تاريخياً في اللاوعي, على مكوِّن الحضور الآني (الوعي) وهو بمثابة حاسبة منطقية صغيرة لا يؤخذ بنتائجها لأنّها ستُقهر وتُقْبَر من جانب المخزون الذي اتخذ مكانه في أضابير الذاكرة مُبكِّرا. ويبدو لي أن هذا التنازع بين القديم والجديد هو ما يفسر الاضطرابات (النفسجسمانية) التي تتبدّى عند اتخاذ القرارات الصعبة, وهي القرارات التي تضطر فيها للحكم لصالح القطيع المتجذر في نفسك عبر الثقافة الأولى وتعاليمها وبطريقة غير مباشرة عن طريق الموروث الخفيِّ إما في الذاكرة أو في الشفرة الجينية (أو فيهما معا). ومع تأكيدي بأن تفكّري هذا لا برهان علمي له إلا أن هناك بوارق يمكن أن تكون سندا أولياً ومن أمثلتها حكمة العجائز, هؤلاء تسقط ذواكرهم معظم المعلومات المكتسبة حديثا , وبرغم ذلك يؤهلهم الإجماع للترجيح بين أفكار المختلفين الأصغر عمرا.
روى لي أخي وصديقي محمد حسن أحمد مختار (بين أبوزبد والمتمة التي بقي فيها أكثرهم, وشجرة نسبهم ترتفع حتى جدهم المبارك ومنه انحدرت لهم بيوتات اشتهر فيها صالح عبدالقادر المبارك, من أبطال ثورة 1924).
قال محمد حسن: لما كنت أدرس في بورت سودان الثانوية سمعت بسفينة رست في الميناء كانت تحمل حيوانات نادرة روّضوها لعروض "السيرك". فخرجنا للمشاهدة وكنت لأول مرَة أشاهد الأسد, وازدحم المكان بالناس وبخيول "الكارو" وبدى الاسد كمن ضجر بالمشهد فزأر عاليا, وفجأة "جفلت" كل الحصين وجرّت العربات في كافة الاتجاهات, واستغرب لٍم وجِلت خيول بورتسودان من حيوانٍ لم ترَهُ من قبل, وكيف عرفت أنها تواجه خطراً, وهل كانت ستخاف لو نهق حمارٌ وحشيٌّ أو طقْطقَ دلفينٌ ؟ لا ندري, ولكن في كل الأحوال نحس بأن دراسة الغرائز الطبيعية قد تفتح الباب للعلماء المختصين لتقصي حقيقة اللاوعي وهل هو موجودٌ أم محضُ وهم, وإذا وٌجٍد فهل مكانه في المخ أم في الشفرة الوراثية, ولعل مسئولية ذلك ستبدأ عند أخصائي المخ وعلم الوراثة إلى جانب الأطباء المهتمين بعلاج الأطفال وكبار السّن.
معذرة, هذا استطرادٌ لا بد منه, لأنه من النقص بمكان أن تسرد ذكرياتك دون توضيح ما نبشت في دواخلك وما أثارت من تساؤلات وبعض أجابات غير تامات. ما الفائدة إذن؟ هذا ليس سردا قصصيا محضا, فالراوي أولى بالبدء في تحليل روايته بعيدا عن إصدار أحكام جُزافيّة, ولأن الذكريات لا تستثني كل شيء يجد الراوي نفسه أمام تحدي الخوض في كل شيء, بقدرِ ما لديه ولو "شِقِّ تمرة"". ثم وقفة قصيرة للتأمل في حديث التنشئة: (يولد المرءُ على الفطرة وأما أبواه فيهودانه أو ينصِرانه أو يُمجِّسانه). لعل التلقيم الأوّلي - في الدين وفي غير الدين - فيه استباق لما يمكن أن يُطْعَمَ الطفل أولا, لأن السابق سيكبت اللاحق في بعض المواقف فينتج تناقضٌ عمليٌّ كُتِبَ على الناس. لو صحَّ تأمّلي. قف.
وتتواصل اللقاءات مع الرواي ود العمدة في البوفيه. وواصلنا الحديث عن الخليفة, صيأد الطيور والأضب والطير بالنبل والطقِّ (بالحجارة) وبالشراك. لم يكن يصطاد ليأكل مثلنا, كان يستمتع بالقبض وتحسس الفريسة والتأمل في أحوالها ويتلذذ بفك أسرها في النهاية. ذاك ولد كأنه لا يعرف غير المرح والتنكيت العملي ولا ينازعه في ذلك إلا ابن خالي "بلّة" واسمه محمد أيضا,وسار عليه لقب "بلة" لأنه أيضا الوحيد من بين عدد من البنات ويختلفان في العمر فبلة كان امتهن التدريس إثر تخرجه في كتاب أبوزبد. وكان أوّل الصف غالبا ما يجد طريقه للوظيفة مباشرة وهؤلاء العباقرة كان يطلق عليهم اسم "العُرًفا, جمع عريف" لأنهم ينيبون عن المعلم في كل شيء في الملعب وفي الداخلية وفي ضبط المدرسة وجداول الحضور والغياب وحتى داخل الفصل تعطي لهم صلاحيات العقاب الخفيف في حال تأخر المعلم أو غيابه. وكانوا بدرسون تحت إشراف أساتذتهم بالأمس القريب. وبعد حين يبعثون لمدرسة العُرفاء في بخت الرضا, وفيها يعد المدرسون لتدريس المواد الأساسية أما طلاب المعهد فكانوا يُختارون من خريجي الوُسطيات ويتلقون تثقيفا عاليا في كل مجالات الحياة من مقدمات في الفلسفة وعلم النفس والفنون والأدب العربي والأجنبي وكانت مكتبتهم تضارع مكتبة الجامعة وأساتذتهم علماء أجانب وسودانيون طبقت شهرتهم الآفاق (عبدالله الطيب وأحمد الطيب, والمحامي أحمد زيم العابدين والأخوان سليقة والشاعر أحمد جاد كريم وإدريس جمّاع وودالشيخ وتنقو وعمران العاقب الذي حيّرت العقّاد ترجمته قصيدة من عيون الشعر الإنجليزي وهي قصيدة "الملاح القديم" للشاعر صمويل تايلور كوليريدج...وقائمة الأفذاذ تطول). ولعل كلمة "عريف" التي وفدت من مصر كانت استُلِفت من الجيش, ولست متأكدا. وفي أيامنا وأيام الخليفة حساس كان التلميذ صاحب الحظوة في تلقي صلاحيات عن المدرسين يُقال له "ألفا, والمعنى واضح لأن الألف في رأس الأبجدية.
نبا حظ بلّةُ فعمل في مدرسة مكي شنتوت بالأبيض ومن تلامذته فيها النجم شرحبيل أحمد, ولما نُقِل لكادوقلي كان من تلامذته الكنار زيدان إبراهيم, وأخرون كان أباؤهم يقدرون التعليم واصلوا دراساتهم حتي كلية غرجون ومنهم جمهرة من أولاد الشرتاي بخاري (صاحب السعاتة) وأولاد الشيخ عبدالهادي عبدالجبار, كلهم تميّزوا وكان القاضي التجاني عبدالهادي يتحسّر على مصير جاره وزميله بلة, قال لي: "والله كان شاطر شطارة, كان "بشًفِّفني, بِبَصِّصني. وأذكر محمد ود عبدالرحمن شيبون السياسي الشاعر المهذب الذي وافته المنية في حادثة تراجيدية غامضة في مدينة رفاعة (ولعل كِبار أبوزبد وبعض زملائه اليساريين يعلمون التفاصيل ولكنهم يسكتون, ويشيرون في أبوزبد بأصابع الاتهام لرفيقه في الحزب محمد أحمد البُشرى"شابرو" في تسبّب الحادثة والمساهمة في تسميم علاقاته بالآخرين تمهيدا لانهيار نفسي أو ما شابه مما يؤدي بصاحبه للانكفاء ثم الانطفاء).
أما الدكتور خالد الفيل فكان أبوه نجارا ممن وفدوا للبلد من البطاحين وله أخ نجارٌ أعرفه اسمه أحمد فاقع اللون شعره أجعد ناعم يتلفلف كما في أفلام رعاة البقر (الكاوبوي) ولا يرتدي الزي البلدي أبدا ويخجلك هدوءه ورقته ولكنك ستلاحظ النجابة و"النجاضة, النضج" في بريق عينيه وكنا معجبين بكريمته الحَصَان النجيبة"الرضيّة" لم تكن في صفرة والديها ولم تُلَوّعْ بشلوخ مثل شلوخهم. ولا نعرف أين هم الآن, فالأقاليم صارت طاردة منذ منتصف الستينات ولما قَدِم وقت الجنجويد والنهب المسلّح وتكثيف الثروة للمحظيين في العواصم انكمش اليُسْرُ واشْرَأَّبَ العُسُر. لم أر خالداً في صِغَري ولكن عرفته من تغذية امي "ستنا بت العمدة", تغذيتي بالفضائل بذكر فُضلاء كان منهم أبي محمد "المعتصم بالله" ود عبدالماجد. كان أبي أحد معلمي خالد الفيل ذلك التلميذ الخلوق النجيب. قالت أن والده كان من أصحاب أبيها (أصحاب أبوها ديل ألِف؟) ولكن الرّجل مُعيِّلاً (محمول) ولا طاقة له بإرسال ولده الذكيَ ليتعلم في المدرسة الوُسطي في الأبيض ويريده يساعده في كسب العيش بصنعة النجارة. وفي اليوم الذي كان محددا لسفر التلاميذ للامتحان في الأبيض ذهب البارودي (لقب خلعه أل أبوزبد على الاستاذ محمد) إلى بيت ودّالفيل ليقنعه بالسماح لخالدٍ في الجلوس للامتحان الذي يتنافس فيه كل أبناء المديريّة (المحافظة) ليُختار منهم ثلاثون فقط للمرحلة التالية. " يا عمي ولدك دا ربنا رزقه الشطارة, فَلِيهْ نحرمو من العلم, المسألة دي فيها مساءلة يوم الحساب, "عملت شنو بما رزقناك", "نقول شنو, بعدين؟, ثم إنُو أنا متأكِّد أنّ ولدك دا سيُعْفى من مصاريف الدراسة وسيعطوه نثرية (إعانة) لأنو حيطلع البِرِنْجي (الأوّل) على كل الممتحنين. وأخيرا يوافق ود الفيل, وبمساعدة من أستاذه يصل الأبيض ويطلع الأول ويمشي الثانوية ويطلع الأوّل ويصل كليّة الطب ويتخرّج فيها الأول, ولكنه لا يعود من أم درمان التي سأقابله فيها لأول مرّة بعد اثنين وعشرين عاما من تاريخ دخوله المرحلة الوسطي, وهناك كثُرٌ ممن شدّ البارودي بأزرهم من التلاميذ, وسيأتي ذكر ذلك.
ونرجع لكبير العتاولة قليل اللحم كبير الرأس ود الريّح. في العام 1951.52 , عام الكسوف الكُليّ للشمس وهو نفس العام المعروف للمزارعين (وبخاصة القطن) بِسَنةْ خُمِّي (تخم فيها النساء المال بطيب خاطر من أزواجهن). ارتفع سعر الأقطان عالميا وجنى المزارعون مالا ما كانوا ليحلمون به, واشتروا ما يحتاجون وما لا يحتاجون وربما في اقتناء أشياء لا يعرفونها أبدا. حكي لي زميل الدراسة محمود بانقا الدبلوماسي الذي أحيل للصالح العام ( من جهة الحِويواء في الجزيزة) أن بعض الناس اشتروا ثلاجات تعمل بالجاز وبعد فترة أصبحوا يخزنون فيها الأمتعة القديمة. لا شك أن محمودا كان يمزح, فكم قضينا زمنا جميلا في مقاعد كلية الآداب تحت "اللبخ" نُطَرِّزُ الكلام ونستأنس بالنظر في أبهى البشر يتهادى نحو المكتبة بالرهيف والشفيف (والكاشف كمان).
في ذلك اليوم حضرنا "ليلة سمَر" اشتركت فيها الصفوف الأربعة ربما بأناشيد وأغاني لأننا لا نذكر إلا ذلك الإنجليزي الأحمر الذي يلبس الكاكي ويضع بين شفتيه الحمراويين "كدوسا, غليون" ويمشي أمامنا متعجرفا, وبه شخصيات باهتة نسيناها. إلا ذلك الولد الذى يغطّى اللون الأحمر جسده لأن حضوره غطّى على الكل بما فيهم معلّمينا. و " صَحِي, الدِّيكْ الفِصَيّحْ في بطْن أُمُّهْ بِصَيِّحْ" صدقه الخليفة (حسّاس).
عبدالماجد محمد عبدالماجد الفكي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.