إسحق أحمد فضل الله يكتب: (وفاة المغالطات)    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    شاهد بالفيديو.. لدى لقاء جمعهما بالجنود.. "مناوي" يلقب ياسر العطا بزعيم "البلابسة" والأخير يرد على اللقب بهتاف: (بل بس)    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    لماذا نزحوا إلى شمال السودان    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي .. سلام على الفاشر وأهلها وعلى شهدائها الذين كتبوا بالدم معنى البطولة    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    بمقاطعة شهيرة جنوب السودان..اعتقال جندي بجهاز الأمن بعد حادثة"الفيديو"    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    شاهد بالفيديو.. "بقال" يواصل كشف الأسرار: (عندما كنت مع الدعامة لم ننسحب من أم درمان بل عردنا وأطلقنا ساقنا للريح مخلفين خلفنا الغبار وأكثر ما يرعب المليشيا هذه القوة المساندة للجيش "….")    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ونسات في البوفيه (2) (تذَكُّرات معاشي)

وساقنا الحديث إلى "العتاولة, الفُتُوَّات, وبالشاميّة "الأباضايات" ممن عاصرنا من التلامذة حسن دقيل "ود يوسف الخِدِر" والتجاني يونس (من آل الشريف الفضل) وغيرهم من الطِوال. ولكننا توقفنا وقفة خاصّة عند ذلك الولد الأخدر ذي الشعر السبيبي الناعم, خليفة ود عبدالله الريّح. كان نحيفا إلا أن كل شيء يتعلق به كان يبرُق. أينما وليت بصرك تراه, وإن مشى وراءك لا تراه لأنه "نبلته" تتربص بكل دابة غير أليفة أو داجنة, وهي لا تخطيء الهدف أبدا, وذخيرته صفائح من حديد يجلبها من فريق الحلب (أولاد عوض الله , والخالة نصرة المتخصصة في العلاج بالظار) إلا أنه لا يرميك ولكنه بعد أن يكتفي من ترويع الطير سيخرح من جيبه حديدةً مجوّفة مخروطيّة الشكل وفي قاعدتها يربط "لستكة, شريحة مطاطة" يقطعها في دكان العجلاتي (عمنا الصِّدِّيق حاج ابراهيم) ثم يصل أعلاها بمسمار طويلٍ سميك (7 لينيا) يلقطه من محل النّجّار محمد عطيّة, ويخرج علبة يأخد منها بأطراف اصبعيه مسحوق النار(الكبريت) و"برّاحة, بتمهل" يغرز المسمار في عقِب الحربة ويمطُّ اللستك وفي أثناء الونسة يفجأك ب "طاااخ".تتلفح بذراعيك وكفيك تغطي الراس والوجه وتهوى إلى الأرض ولما تفيق من الصرع مشحونا بالغضب يكون "حسّاس , لقبه لاحقاً" مرق بعيدا يبعث لك بضحكات استفزاز وهو يقف في وسط "الكوشة" مع عيال الشياطين, ولكي لا تلحق به يتوجب عليك أن تواجه الشوك وقطع الزجاج المبعثرة وكل صفيحة صدئة, ناهيك عن الضريسة والحسكنيت (حبوب نباتٍ برية محاطةٌ بشوكٍْ دقيقٍ طعناته لاذعة). وكان الخليفة (تيمنا بأخيه الأكبر الذي اختطفته المنون صبيّا) أصغر أخواته من فاطمة بت علي ود العصملي وأبوه عبدالله ود الريح من جهة السروراب, ولعلّ لهم علاقة بالجميعاب إذ كان من قرابتهم محمد ود الخليفة ابن الزهو بت الباشا (الزبير ود رحمة). ومن شقيقات الحسّاس الزهو, واسمها يدل على قرابة أو عشرة عميقة بالجميعاب. أما خاله بكر ود على ود العصملي فكان من عُقلاء أهل البلد وأبكرهم في التعليم الحديث. توفي والده في رحلة تجارية للجنوب وتركه وأخواته الأصغر من أمهم فاطمة بت صبير ورهطها في الجزيرة ممن استعرب من البُجا, وترك معهم أخوات وأخوات غير شقيقات هم أحمد "سمّوحة, كونه كان وسيما جُمَّالاً" وإدريس ورحمة الله وسليمان ونور البيان, ونور البيان لها ولدً صميم كريم اسمه عبدالماجد فذهب بي الظن إلى أنه أسمي على عبدالماجد جدي, ذلك لأن عبدالماجد وُلد بضاحية الدبكر لمّا كان كل أولئك النفر يسكنون على مقربة من جبال الكاركو تحسباً من انتقامات الخليفة ممن تخلف عن النصرة من أهل البحر وآثر "البِعد ولا الدار أم سٍعٍد", لكن اتضح لي مؤخرا ان ود العصملي له ولد اسمه عبدالماجد وعليه فإنه أسمي على عمه, ولكن هذا لا يعني أن عمه نفسح لم يكن أسمي على عبدالماجد. والغريب أن عمهم هذا لم يشاهد في البلد وكان أغلب الظن أنه مات في الغربة مثل ابيه, ثم اتضح أن ذلك الرجل لم يتغرب بعيدا (بمقاييس اليوم), كان في الفاشر واقترن هناك بإحدى بنات فريق أولاد الريف وولد منها بنتاً عاشت مع أخوالها زمنا ثم تزوجها رجلٌ من بيت سيماوي وانجبت له المُسَمّاة سليمة على عمتها هنا معنا في أبوزبد, وناس سيماوي كان منهم المسئول عن مرافقة المحمل وكسوة الكعبة في عهد السلطان علي دينار. لعلها ليست محض مصادفة أن يقترن ود ريفٍ (من بعيد) ببنت ريف من بعيد أيضا. وكنت رأيت أخوالا وأعماما لا ألتقى معهم إلا في النسب البعيد, ولكنها حال المغتربين يختزلون شجيرات العوائل لما يكونوا من الأقليات ويتمترسون بالمصاهرات, وله نظائر في زمننا هذا, فتجد السوداني في بلاد المهاجر يفَضِّل أن يزوِّج ابنته أو ابنه لأولاد " سجمان الحلة" في السودان, يفضله على الخواجة أو الآسيوي ويكاد يموت غيظا إذا كان من مُلّوَني ما وراء البحر. هذا سلوك أسمّيه سلوك "دا بسجمو ورمادو أحسن" وهو سلوك لا يقبله عقل حسابات المنطق المعاصر. التعقُّلُ المحضُ لا يجيزه, ولكنه يطفو إلا السطح كلما وُوجِهنا بفرحٍ أو مُصاب أو أي مشروعٌ مؤثر على الوجدان. ساعتها نضحي بالحب الذي نقًدِسُ و "نلعن أبو خاشُهْ" ونضحّي بالدين نفسه ونستجير بِ"الرجالة" والتقاليد!! لماذا؟ فإذا تأملّت في هذا السؤال المرهق فإنك ستنقادُ إلى البحث في كيفية عمل الدماغ البشري وكيفية تخزينه المعلومات واسترجاعها وما يصحب ذلك من معلومات تراكمت في ذهنية الناس عبر عصور طويلة وتم تغليفها جيّدا ومن ثم دفنها في ما يعرف باللاوعي, وكيف يتسنى لهذه المعلومات التسرب خلسةً للتدخل في ما يمليه الحضور الذهني العلني (الوعي) ومن ثم يبتديء تضاربٌ لا يزيده تأثير المحيط الاجتماعي إلا بللاً, وتُنتجُ التناقضات والازدواجيات. كأن المُخًّ تموج فيه صراعاتٌ يصرُّ فيها الداخلُ أولاً على كبح الواصل متأخرا, بمعنى طغيان المكون الاجتماعي والمخزون تاريخياً في اللاوعي, على مكوِّن الحضور الآني (الوعي) وهو بمثابة حاسبة منطقية صغيرة لا يؤخذ بنتائجها لأنّها ستُقهر وتُقْبَر من جانب المخزون الذي اتخذ مكانه في أضابير الذاكرة مُبكِّرا. ويبدو لي أن هذا التنازع بين القديم والجديد هو ما يفسر الاضطرابات (النفسجسمانية) التي تتبدّى عند اتخاذ القرارات الصعبة, وهي القرارات التي تضطر فيها للحكم لصالح القطيع المتجذر في نفسك عبر الثقافة الأولى وتعاليمها وبطريقة غير مباشرة عن طريق الموروث الخفيِّ إما في الذاكرة أو في الشفرة الجينية (أو فيهما معا). ومع تأكيدي بأن تفكّري هذا لا برهان علمي له إلا أن هناك بوارق يمكن أن تكون سندا أولياً ومن أمثلتها حكمة العجائز, هؤلاء تسقط ذواكرهم معظم المعلومات المكتسبة حديثا , وبرغم ذلك يؤهلهم الإجماع للترجيح بين أفكار المختلفين الأصغر عمرا.
روى لي أخي وصديقي محمد حسن أحمد مختار (بين أبوزبد والمتمة التي بقي فيها أكثرهم, وشجرة نسبهم ترتفع حتى جدهم المبارك ومنه انحدرت لهم بيوتات اشتهر فيها صالح عبدالقادر المبارك, من أبطال ثورة 1924).
قال محمد حسن: لما كنت أدرس في بورت سودان الثانوية سمعت بسفينة رست في الميناء كانت تحمل حيوانات نادرة روّضوها لعروض "السيرك". فخرجنا للمشاهدة وكنت لأول مرَة أشاهد الأسد, وازدحم المكان بالناس وبخيول "الكارو" وبدى الاسد كمن ضجر بالمشهد فزأر عاليا, وفجأة "جفلت" كل الحصين وجرّت العربات في كافة الاتجاهات, واستغرب لٍم وجِلت خيول بورتسودان من حيوانٍ لم ترَهُ من قبل, وكيف عرفت أنها تواجه خطراً, وهل كانت ستخاف لو نهق حمارٌ وحشيٌّ أو طقْطقَ دلفينٌ ؟ لا ندري, ولكن في كل الأحوال نحس بأن دراسة الغرائز الطبيعية قد تفتح الباب للعلماء المختصين لتقصي حقيقة اللاوعي وهل هو موجودٌ أم محضُ وهم, وإذا وٌجٍد فهل مكانه في المخ أم في الشفرة الوراثية, ولعل مسئولية ذلك ستبدأ عند أخصائي المخ وعلم الوراثة إلى جانب الأطباء المهتمين بعلاج الأطفال وكبار السّن.
معذرة, هذا استطرادٌ لا بد منه, لأنه من النقص بمكان أن تسرد ذكرياتك دون توضيح ما نبشت في دواخلك وما أثارت من تساؤلات وبعض أجابات غير تامات. ما الفائدة إذن؟ هذا ليس سردا قصصيا محضا, فالراوي أولى بالبدء في تحليل روايته بعيدا عن إصدار أحكام جُزافيّة, ولأن الذكريات لا تستثني كل شيء يجد الراوي نفسه أمام تحدي الخوض في كل شيء, بقدرِ ما لديه ولو "شِقِّ تمرة"". ثم وقفة قصيرة للتأمل في حديث التنشئة: (يولد المرءُ على الفطرة وأما أبواه فيهودانه أو ينصِرانه أو يُمجِّسانه). لعل التلقيم الأوّلي - في الدين وفي غير الدين - فيه استباق لما يمكن أن يُطْعَمَ الطفل أولا, لأن السابق سيكبت اللاحق في بعض المواقف فينتج تناقضٌ عمليٌّ كُتِبَ على الناس. لو صحَّ تأمّلي. قف.
وتتواصل اللقاءات مع الرواي ود العمدة في البوفيه. وواصلنا الحديث عن الخليفة, صيأد الطيور والأضب والطير بالنبل والطقِّ (بالحجارة) وبالشراك. لم يكن يصطاد ليأكل مثلنا, كان يستمتع بالقبض وتحسس الفريسة والتأمل في أحوالها ويتلذذ بفك أسرها في النهاية. ذاك ولد كأنه لا يعرف غير المرح والتنكيت العملي ولا ينازعه في ذلك إلا ابن خالي "بلّة" واسمه محمد أيضا,وسار عليه لقب "بلة" لأنه أيضا الوحيد من بين عدد من البنات ويختلفان في العمر فبلة كان امتهن التدريس إثر تخرجه في كتاب أبوزبد. وكان أوّل الصف غالبا ما يجد طريقه للوظيفة مباشرة وهؤلاء العباقرة كان يطلق عليهم اسم "العُرًفا, جمع عريف" لأنهم ينيبون عن المعلم في كل شيء في الملعب وفي الداخلية وفي ضبط المدرسة وجداول الحضور والغياب وحتى داخل الفصل تعطي لهم صلاحيات العقاب الخفيف في حال تأخر المعلم أو غيابه. وكانوا بدرسون تحت إشراف أساتذتهم بالأمس القريب. وبعد حين يبعثون لمدرسة العُرفاء في بخت الرضا, وفيها يعد المدرسون لتدريس المواد الأساسية أما طلاب المعهد فكانوا يُختارون من خريجي الوُسطيات ويتلقون تثقيفا عاليا في كل مجالات الحياة من مقدمات في الفلسفة وعلم النفس والفنون والأدب العربي والأجنبي وكانت مكتبتهم تضارع مكتبة الجامعة وأساتذتهم علماء أجانب وسودانيون طبقت شهرتهم الآفاق (عبدالله الطيب وأحمد الطيب, والمحامي أحمد زيم العابدين والأخوان سليقة والشاعر أحمد جاد كريم وإدريس جمّاع وودالشيخ وتنقو وعمران العاقب الذي حيّرت العقّاد ترجمته قصيدة من عيون الشعر الإنجليزي وهي قصيدة "الملاح القديم" للشاعر صمويل تايلور كوليريدج...وقائمة الأفذاذ تطول). ولعل كلمة "عريف" التي وفدت من مصر كانت استُلِفت من الجيش, ولست متأكدا. وفي أيامنا وأيام الخليفة حساس كان التلميذ صاحب الحظوة في تلقي صلاحيات عن المدرسين يُقال له "ألفا, والمعنى واضح لأن الألف في رأس الأبجدية.
نبا حظ بلّةُ فعمل في مدرسة مكي شنتوت بالأبيض ومن تلامذته فيها النجم شرحبيل أحمد, ولما نُقِل لكادوقلي كان من تلامذته الكنار زيدان إبراهيم, وأخرون كان أباؤهم يقدرون التعليم واصلوا دراساتهم حتي كلية غرجون ومنهم جمهرة من أولاد الشرتاي بخاري (صاحب السعاتة) وأولاد الشيخ عبدالهادي عبدالجبار, كلهم تميّزوا وكان القاضي التجاني عبدالهادي يتحسّر على مصير جاره وزميله بلة, قال لي: "والله كان شاطر شطارة, كان "بشًفِّفني, بِبَصِّصني. وأذكر محمد ود عبدالرحمن شيبون السياسي الشاعر المهذب الذي وافته المنية في حادثة تراجيدية غامضة في مدينة رفاعة (ولعل كِبار أبوزبد وبعض زملائه اليساريين يعلمون التفاصيل ولكنهم يسكتون, ويشيرون في أبوزبد بأصابع الاتهام لرفيقه في الحزب محمد أحمد البُشرى"شابرو" في تسبّب الحادثة والمساهمة في تسميم علاقاته بالآخرين تمهيدا لانهيار نفسي أو ما شابه مما يؤدي بصاحبه للانكفاء ثم الانطفاء).
أما الدكتور خالد الفيل فكان أبوه نجارا ممن وفدوا للبلد من البطاحين وله أخ نجارٌ أعرفه اسمه أحمد فاقع اللون شعره أجعد ناعم يتلفلف كما في أفلام رعاة البقر (الكاوبوي) ولا يرتدي الزي البلدي أبدا ويخجلك هدوءه ورقته ولكنك ستلاحظ النجابة و"النجاضة, النضج" في بريق عينيه وكنا معجبين بكريمته الحَصَان النجيبة"الرضيّة" لم تكن في صفرة والديها ولم تُلَوّعْ بشلوخ مثل شلوخهم. ولا نعرف أين هم الآن, فالأقاليم صارت طاردة منذ منتصف الستينات ولما قَدِم وقت الجنجويد والنهب المسلّح وتكثيف الثروة للمحظيين في العواصم انكمش اليُسْرُ واشْرَأَّبَ العُسُر. لم أر خالداً في صِغَري ولكن عرفته من تغذية امي "ستنا بت العمدة", تغذيتي بالفضائل بذكر فُضلاء كان منهم أبي محمد "المعتصم بالله" ود عبدالماجد. كان أبي أحد معلمي خالد الفيل ذلك التلميذ الخلوق النجيب. قالت أن والده كان من أصحاب أبيها (أصحاب أبوها ديل ألِف؟) ولكن الرّجل مُعيِّلاً (محمول) ولا طاقة له بإرسال ولده الذكيَ ليتعلم في المدرسة الوُسطي في الأبيض ويريده يساعده في كسب العيش بصنعة النجارة. وفي اليوم الذي كان محددا لسفر التلاميذ للامتحان في الأبيض ذهب البارودي (لقب خلعه أل أبوزبد على الاستاذ محمد) إلى بيت ودّالفيل ليقنعه بالسماح لخالدٍ في الجلوس للامتحان الذي يتنافس فيه كل أبناء المديريّة (المحافظة) ليُختار منهم ثلاثون فقط للمرحلة التالية. " يا عمي ولدك دا ربنا رزقه الشطارة, فَلِيهْ نحرمو من العلم, المسألة دي فيها مساءلة يوم الحساب, "عملت شنو بما رزقناك", "نقول شنو, بعدين؟, ثم إنُو أنا متأكِّد أنّ ولدك دا سيُعْفى من مصاريف الدراسة وسيعطوه نثرية (إعانة) لأنو حيطلع البِرِنْجي (الأوّل) على كل الممتحنين. وأخيرا يوافق ود الفيل, وبمساعدة من أستاذه يصل الأبيض ويطلع الأول ويمشي الثانوية ويطلع الأوّل ويصل كليّة الطب ويتخرّج فيها الأول, ولكنه لا يعود من أم درمان التي سأقابله فيها لأول مرّة بعد اثنين وعشرين عاما من تاريخ دخوله المرحلة الوسطي, وهناك كثُرٌ ممن شدّ البارودي بأزرهم من التلاميذ, وسيأتي ذكر ذلك.
ونرجع لكبير العتاولة قليل اللحم كبير الرأس ود الريّح. في العام 1951.52 , عام الكسوف الكُليّ للشمس وهو نفس العام المعروف للمزارعين (وبخاصة القطن) بِسَنةْ خُمِّي (تخم فيها النساء المال بطيب خاطر من أزواجهن). ارتفع سعر الأقطان عالميا وجنى المزارعون مالا ما كانوا ليحلمون به, واشتروا ما يحتاجون وما لا يحتاجون وربما في اقتناء أشياء لا يعرفونها أبدا. حكي لي زميل الدراسة محمود بانقا الدبلوماسي الذي أحيل للصالح العام ( من جهة الحِويواء في الجزيزة) أن بعض الناس اشتروا ثلاجات تعمل بالجاز وبعد فترة أصبحوا يخزنون فيها الأمتعة القديمة. لا شك أن محمودا كان يمزح, فكم قضينا زمنا جميلا في مقاعد كلية الآداب تحت "اللبخ" نُطَرِّزُ الكلام ونستأنس بالنظر في أبهى البشر يتهادى نحو المكتبة بالرهيف والشفيف (والكاشف كمان).
في ذلك اليوم حضرنا "ليلة سمَر" اشتركت فيها الصفوف الأربعة ربما بأناشيد وأغاني لأننا لا نذكر إلا ذلك الإنجليزي الأحمر الذي يلبس الكاكي ويضع بين شفتيه الحمراويين "كدوسا, غليون" ويمشي أمامنا متعجرفا, وبه شخصيات باهتة نسيناها. إلا ذلك الولد الذى يغطّى اللون الأحمر جسده لأن حضوره غطّى على الكل بما فيهم معلّمينا. و " صَحِي, الدِّيكْ الفِصَيّحْ في بطْن أُمُّهْ بِصَيِّحْ" صدقه الخليفة (حسّاس).
عبدالماجد محمد عبدالماجد الفكي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.