الدنيا ترحل في لولب سكران ، يترنح بالخُطى ، ويرشح بالوجع. (1) مقدمة : نحن نتفق ، أو نختلف ، فكثير منا تكاثروا خلاسيي الملامح . وفي البدء كانوا يغنّون بلسان ويصلون بآخر . ورثنا الجينات البيولوجية وجينات الثقافة التي تتخلق . وتبقى هيّ تعاني أوجاع الفراق وقساوة الظُلمات المجتمعية التي عمّقت الجراح ، خاطت الأورام وفي داخلها الصديد ، وتحلم بالبرئ ، فكيف يكون ذلك ؟! لسنا بصدد إنشاء محاكمة أو نصب مشانق للذين يحيون حياتهم كيفما اتفق ، يرضون غرائزهم في حيّز الممكن من الشرائع التي توفرها البيئة ، ولا يكترثوا أن أفعالهم لها ما بعدها ، أبعاد قد تشوه الطيبة والسكينة والتعايش ، ويظهر القيح في مُقبل الأيام . نُزيح المزلاج ونفتح بوابة الألم الدفين ، ونقبض على واحدة من بنات القص المُضيَّع ، ونأتي بها من دم الواقع المذبوح ونترك للسادة الكرام وللفضليات أن تتسع صدورهم ، ويرقبوا نبضات قلوبهم حين يلبسون أجساد شخوص القص الواقعي ويسألون أنفسهم عن مصائر حيوات ذهبت حكاياتها المؤلمة في صفحات تاريخٍ عصيّ أن يندثر . (2) رجعت بي الذاكرة الى ديسمبر 1972 . سنوات مضت . كان قد مضى على اتفاق "أديس أبابا" تسعة أشهر . في الجنوب قوتان مسلحتان مختلفتان وبينها روابط الاتفاق، ترابضان أمام مداخل ما كانت تسمى حينها بمدن جنوب الوطن ، فقد توقفت الحرب تماماً بعد الإتفاق السياسي ، وجاء سلام حقيقي . (3) رحلة إلى الجنوب قمنا بها خلال العطلة الشتوية ، وكنا حينها في الصف الثالث في شعبة هندسة العمارة بكلية الهندسة جامعة الخرطوم . عنوان الرحلة الدراسية ( المسكن في جنوب الوطن ). توقفت الحرب وخرج المشروع الدراسي الحُر الى العلن وتمكنا من انجازه آخر المطاف . وقف الجميع تضامناً معه بالمعينات ووسائل النقل والإقامة وهو يتخفف من الصرامة الأكاديمية ، ويلبس ثوب النزهة والترفيه ، ويرصد الحقائق على الأرض . القوات المسلحة وفّرت لنا رحلة بطائرة ( انتينوف ) روسية الصنع نقلتنا من الخرطوم الى جوبا .ووقّعنا جميعاً قبل صعود سلم الطائرة على مسئوليتنا الشخصية عن سلامة أنفسنا، لأنها طائرة نقل عسكرية . كُنا نيّف وعشرين طالباً ومن ضمننا طالبة واحدة. رحلة تقلبت خلالها كل مناخات الصحارى والسافنا والاستوائية قبل وصولنا " جوبا". أول مرّة نلامس الوجه الآخر من الأرض البكر . كم هذا الوطن كان فسيحاً . (4) في جوبا كان مسكننا الأول داخليات " المدرسة الثانوية " ( جامعة جوبا في تاريخ لاحق ). إنقسمنا الى فرقتين ، لغرب النهر " غرب الإستوائية " ولشرقه " شرق الإستوائية " . تتكون الفرقة الواحدة من أحد عشر فرداً ، وكنت ضمن فريق شرق الإستوائية ،و معنا بعض رفاق العمر الجميل : منهم يوسف ، بكرى ، جليلة ، والسراج وشخصي وعلي مادبو و" غالب بُر " من وزراة الثقافة والإعلام حينها وآخرين ، يقودنا مشرف الرحلة الأستاذ " حسن شريف "وهو أحد أساتذة الكلية ورئيس وحدة المباني بجامعة الخرطوم آنذاك . القرى وأشباهها في شرق الإستوائية هي المقصد . على سيارة النقل العسكرية الألمانية الصُنع " المجروس " إنتقلنا عبر الطريق البري شرقاً بعد عبورنا النهر . وكانت العبّارة النهرية هي التي أقلت الناقلة والمتاع لشرق النهر ، فجسر جوبا لم يكن حينها الا حلماً . وجبل " الرجاف " شاخصاً في الأفق البعيد ، فأطلّت علينا من الذاكرة قصيدة " ود الرضي " الغنائية " من الأسكلا وحلا " : صب يا دمعي لا تكون جَاف وياقلبى البقيت رجّاف البدر الخفا الانجاف اليوم شرّف الرّجاف (5) ديسمبر الشتاء في الشمال ، غيره في جنوب الوطن . هو أقرب الى الصيف . خضرة الشتاء هناك في "جوبا "غبراء ، غير التي في المناطق الأخرى. ريح طيبة مسالمة ، أفق رحب وأرض غنية . جبال متفرقة متوسطة الارتفاع . سهول ونباتات وبسمة الترحاب في أوجه الريفيين حين نلقاهم. تلقاك إشراقة مفرحة ما عهدناها أبداً . سقطت إلى غير رجعة ، تلك النظرة الجافية وخيفة التوجُس من أثر ما سمعنا من أقاصيص عن الحرب .واكتشفنا الودُ في عالم بريء ينضح إنسانية : أيها الغريب القادم من الشمال ، ترمُقك نظرة الإعجاب ، وبسمات بيضاء تلوّن الأوجه ، تقول لكم تفضلوا . تلمس جلالاً وهيبة ، ترمقنا كأن تاج الملوك في محيّانا ، أو وضاءة الصلاح تعلوا جباهنا . بدأت أستعيد حكاوي صديقي الراحل " عبد الله موسى " وذكريات الستينات عندما كان طالباً في مدرسة " رومبيك الثانوية " . غزل المدارس ، ومحلِّية لغة عربي جوبا . وطرائف العالم البريء الساحر ، قبل أن تصبح المدرسة معسكراً حربياً : ( كانت صدور الفتيات مكشوفة إلى الخواصر ، ونبال الصدور ممشوقة القوام . كنا نعجب أن لم نعتد الرؤية ، وعرفنا أن الحياة بحريتها هي مسلك عادي ، لا يثير الغرائز ، ولا تنفتح العيون لدهشة الإبهار . الفارعون في الطول و الفارعات من أبناء وبنات الوطن جنوباً ، أجسادهم حسنة السبك. سلسة التقسيم ، نديّة ، ليّنة طريّة ، وقوية البنيان . فيها الوصف وفيها نقيضه .) (6) لم هذا الترحاب يفيض حتى تحمّر الخدود من الخجل ؟. أين نحن من النظرة الجافية ، التي تقول : أيها الغريب من أنت وماذا تريد ؟ أيعقل أن يكون لهيب نار الحرب الأهلية من صُنع الصفوة منذ القدم ! . إنه الشعب الطيب المضياف في كل ركن وكل ضاحية وحيّ ورهط وقرية أو حزمة أكواخ ، إذ أنتَ تعبر من جوبا الى الضفة الأخرى شرقاً . سلاسل من جبالٍ خضراء ، وسهولٍ على مدّ البصر . قرى متناثرة هنا وهناك ، كأن عيون أهلها حين تبصرنا تقول بلغة القلوب : - أهلاً و مرحباً . قدمتم أهلاً وحللتم سهلاً . (7) ( تصميم البيت في جنوب الوطن ) هي الدراسة المبتغاة . ووسيلتها التعاطي الحُر و دخول الأكواخ ورسم مخططاتها والواجهات ، نحاول نقل ما لم يكن في الإمكان نقله من بيئة وحجر وشجر وإنسان وحيوان . جولة داخل مكوّنات أي من الأكواخ والبيوت تتلمس تنوعاً اجتماعياً ، واختلافاً بيّناً عن بيوتنا في الشمال . نتفحص مواد البناء وطرائق التنفيذ . نرسم التفاصيل باليد ، وصور ضوئية يلتقطها رفيق لنا مختص ، قدم معنا من وزارة الثقافة والإعلام . فأصبح للمشروع ثماراً للثقافة وللدراسة الجامعية وللترفيه وللرصد الثقافي والسياحي أيضاً . (8) الأكواخ ضيّقة المداخل لتحجُب الساكنين عن الضواري . لأول مرة تفهمت أن حبوب ( البَفْرة ) المطحونة مع الماء والمخمّرة هي وجبة غذاء ، بما تحويه من فيتامينات صنعها التخمير ، و عند إزاحة الغطاء عن الحاوية ،ترى الرغوة وتشمّ الروائح . إنها من الضرورات التي يتعين توفيرها في كل حين . ( للبَفْرة ) مفعول كمفعول السِحر . من حبوبها بعد الطحن اليدوي تُصنع (العصيدة ) . و من دقيقها المطحون مع الماء والخميرة الطبيعية يصنع النبيذ البلدي .ومن أوراق ( البَفَرة ) يُصنع الطبيخ في النار . وصلنا " توريت " ، تفقدناها شبراً شبرا . بيوتها والأكواخ ومنازل بناها الإنجليز للخاصة. و مقابر الذين دفنتهم الحرب الأولى فوق ترابها . كُنا نلتف حول أكواخ القرويين ، و نتسلل عبر الأعشاب الباسقة لنشهد " نُقارة الخميس " .شاركهم صديقنا " يوسف " في الرقص الجماعي المشترك بين الجنسين ونحن نشهد الفرحة الشعبية الأسبوعية . كانت " توريت " أكثر أمناً من أي شقة فيها تنام في دولة متحضرة . شهدنا احتفالات عيد الميلاد في الكنيسة التي تقع في جانب الطريق العام خارج "توريت " . تحف بها ايقاعات الطبول وملابس القرويين الملونة ، والقادمون من قُرى الأطراف للحفل السنوي بميلاد يسوع المسيح . كانت الكنيسة داراً للرحمة ، فيها التعليم وفيها الرعاية الصحية ، وفيها الخبز والكساء للفقراء ، تنتهج طريقاً هادئاً صبوراً للتبشير . (9) بإصرار صديقنا ورفيقنا ( بكرى ) قررنا زيارة ( كَتَري )، التي تقع في أعالي السلاسل الجبلية التي تمتد إلى " كينيا" . هنالك حامية عسكرية صغيرة أعلى الجبال ،على رأسها ضابط في القوات المسلحة النظامية ، كان أحد زملائه أيام الثانوية . وهي تبعد مسيرة ثلاثة ساعات عن ( توريت ) بالسيارة على الطريق البري . (10) عند اقترابنا من ( كَتَري ) بدأت السيارة الصعود من قبل عدة فراسخ على طريق ترابي ، تميل التربة فيه الى الإحمرار . أشجار الصنوبر العملاقة تغطي الطريق من الجانبين وتملأ الآفاق . تغيرت ملامح الطقس ونحن نصعد ، تحس برداً وسلاماً من حولك . أنت تدخل المشاهد الخلابة التي شربت من روايات القص الكلاسيكي التي كنت تقرؤها منذ زمان ، وهي الآن بين يديك نضرة مُبهجة . بيئة الإنسان حين ابتدأ حياته الأولى نبيلاً . سلسلة من الجبال المتصلة ، تكسوها الخضرة بكل احتمالات ألوانها . تتمايل جيوشها بين سطوع الشمس و ظلال داكنة من تحت البواسق من الأشجار . الشمس قرصٌ مُستدير ، ترى لونها أبيضاً قمراً بلا حرارة . السُحب من حولنا تراها من تحتك . على مشهد يستحلب الجمال كأننا في مدائن الأحلام ، ترى من البعيد شلالاً يهبط ماءه العذب من قمة الجبل ، رغوته بيضاء من سرعة الهبوط . ترقد القرية على جانب من سفح التل ونحن نصعد . (11) هذا وجه ( محي الدين ) المشرق عندما التقيناه . الأحضان وفرحه الذي لا ينتهي ، فحياة العسكر تفتقد الدفيء ، إذ هي تنأى بنفسها عن العامة . فما بالك إذ وجدت اليوم صديقاً من الصبا الباكر ؟. كانت فرحته بنا فوق كل احتمال . استأذن برهة وهمس لأحدهم ، ثم سرنا برفقته خمسين متراً حيث مسكنه . وأستقبلتنا سيدة الدار ، زوجه . لم أزل أذكر تلك السيدة الكريمة ، جميلة الملامح وفق ما تسمح به نُبل الرؤية وسلامة العين التي ترى بنفسٍ صافية من الكدر. هي نيلية السواد بثوبها الشمالي الذي ترتدي . جلال وجمال يُجبركَ أن تنحني احتراماً ولا تتفرس الملامح . وترحاب أهل البيت العامر بالدفئ الحنون على القلوب يضيء ولو لم تمسسه نار . النظرة من وراء خفوت . للسيدة الكريمة كل طبائع أهلنا في الشمال ، كثيرة الترحاب وقليلة الحديث . (12) سألنا عن النبع أعلى الجبل ، فقيل لنا نصف الساعة تكفي للوصول إليه . لم نترك السانحة ، وصعدنا جميعنا ، نتتبع ممشى جبلياً بدون عوائق تذكر . وصلنا قمة الدهشة حيث بحيرة الماء العذب في شبه دائرة قطرها حوالى خمسة عشر متراً ، وعمقها نصف المتر . تطُل الأشجار المتشابكة عليها في حلقة تشبه حفاوة الطفولة باللعب وتماسُك الأيدي . عند دخولك الماء تجد الينبوع الصاعد من تحتِكَ يداعب بطن قدميك ( حمّام جاكوزي طبيعي ) . للطبيعة طرائق مبدعة في إعادة تركيب الأشياء التي نقف عاجزين دوماً أن نفُك ضفائر أسرارها . (13) عدنا من رحلة الجبل ، وكنا على موعدٍ مع طعام الظهيرة .( جليلة ) أعدت مع سيدة الدار المائدة من بعد الذبائح ، وفق المتعود من النهج والسلوك الموروث عندنا مع الإسراف . المائدة المضيافة ونكهة الطعام على مائدة فاخرة ، فندقية الملامح ، حتى تحسب نفسك قد استأنست مع أحد مردة النبي سليمان، وقد جلب لنا كل مُتع الدنيا من الطعام ، في قرية تنام في الجبال البعيدة في شرق الإستوائية ، لكن بطبخ سيدة الدار . جمعتنا المائدة جميعاً . طفلٌ في الثانية وطفلةٌ في عامها الأول ، يتجولان بيننا ، يداعباننا بلطف ورقّة . اختلطت الملامح ، وورثا لون أمهما ، وملامح أبيهما . - هذا محمد ، وتلك فاطمة . هكذا أكمل ( محي الدين ) تعريفنا ببقية الأسرة . في ذلك اليوم انعتقنا في كل القيود ، زرنا ( ورشة الأخشاب ) التي أقامها الإنجليز في ثلاثينات القرن الماضي ، بتوليد طاقتها الكهربائية بواسطة طوربينات صغيرة تتحرك من أندفاع شلال الماء العذب الهابط من أعلى قمة الجبل . مياه الشرب تذهب لخزان المياه مُباشرةً من ذات النبع ، يفسح الدفع التثاقُلي للتغذية من الصنابير . لقد شُيدت عدة مساكن على أحدث الطُرز الهندسية في الثلاثينات . الحمامات ذوات المغاطس ، وأحواض غسيل الأوجه ، وأحواض غسيل الأواني في المطبخ، والقيشاني يُجمل الأسطُح . غرف النوم والمعيشة تأثثت من خشب صنوبري ، صقلته أيدٍ ماهرة . الباحات والغرف أفسح مما نرى اليوم . للحديث دفيء أعذب مما تحتمل أنت رقته وبشاشته . المرح بكوؤسه الثرّة ، الحكاوي بتفاصيل وشيّها ، الضحك المجلجل يهُز الأبدان ويغسل النفوس . أعذب من الدنيا كلها العواطف الغزيرة ، المتدفقة من صدورٍ حانية . هكذا كانت ضفيرة الوطن تغزل من الأنفس نسيجها ، فتلتقي الوشائج بالمحبة وبالتنوع العرقي واللغوي والثقافي ، وفِعل المدّ الذي يجري في الخلايا بالنماء الخُلاسي متنوع الإزهار ، مُتعدد الأهواء . ينام مقيلنا على قمم فارعة ، تصل العالم من سارية تلتقط شفرات العسكر من كل صوب . (14) أوائل التسعينات من القرن الماضي : بالأحضان على الطريقة السودانية ، التقيته : - جنابو ( محي الدين ) ! - زمن يا عبد الله ، الدنيا صغيرة جداً ، مشتاقين ، كيف الحال...وين إنتَ ؟ عرّفنا بعضنا ، والزوجات . داعبنا الأطفال قليلاً .معه طفل وطفلة : أربعة سنوات وخمس سنوات ، وانا معي طفلتين . تركنا الأطفال في رقابة الوالدتين ، ومن ثم المفاضلة بين أي الأماكن أنسب في متنزه المقرن العائلي آنذاك. سألت : - المدام قريبتك ؟ - أيوه من أهلنا ناس شندي . - كيف أحوالك ، ما رجعت الجنوب تاني ؟ . تنهد عميقاً ثم قال : - والله يا عبد الله بعد زيارتكم ديك ، وإتنقلتَ من ( كَتَري ) ، ما رجعت تاني . - والأسرة في (كَتَري ) ؟ تنهّد ... - طبعاً رحّلتهم لأهلهم ، وقلت ليهُم عندي مأمورية في الشمال وسأعود. خليت ليهم مصاريف كويسة . وإتنقلتَ نهائي من الجنوب . - وما رجعتَ ؟ - لأ ما رجعتَ ... الموضوع إنتهى زمان ، أوع المدام تسمع كلامنا . ما في أي حد من الأهل عَارِف . عندها أصبت بما يشبه الدوار ، أمسكت برأسي . - مالك يا عُبد ! - مافي حاجة ... أصلوا أنا اليوم مرهق من الصباح . خرجت الكلمات ، وأنا لا أدري . أبدَى هو تعاطفاً : - أنا معاي عربية ، ممكن أرجعكم . - أنا برضو معاي ، أحسن الأطفال يلعبوا شوية ،ما في مشكلة ، أنا بخير . تركني برهة ، وخاطبني عقلي متعجباً: ( الدنيا بالفعل ترحل في لولب سكران ، يترنح بالخُطى ، ويرشح بالوجع ) . من غصة في الحلق تداعت ،سألته بعد برهة وأنا استيقظ من هذه الحقيقة التي بدت كالحُلم : - أخي " محي الدين " ، كيف يا تُرى تنظر الآن لتاريخك ، وأنت ترى المروج والأودية والسهول التي أنبتت خُضرة إنسانية مورقة ؟ . هنالك الآن قطعٌ من دمك ومحبتك الغابرة ، وقد نَمَت على أطراف الأرياف البعيدة بدونك ، فوطن الأم هو خير ملاذ وقد هجر الأب فلذات كبده بأكذوبة وقطع ودّه وشرايين دمه بفأس صدء .لماذا ؟ - أحنى رأسه مُطرقاً ولم ينطق بحرف . (15) الطفولة المعذبة التي تشتاق في أيامها الأولى ،أين هي من بعد كل تلك السنوات ؟.كيف يهجد جسدك سيدي للنوم ، وصرخات ألمها وضجيج أفراحها كانت ترن في أذنيك في كل يوم من أيام و سنوات هجرك الأولى، رغماً عنكَ ؟. مضى الزمان ، ودارت دورة التاريخ برهةً في الكون الفسيح . تنتقل الآن الحيوات بنضارتها الى دفة كتاب من القص المنزوع من لحم الواقع ويقطّر دماً ،يحكي أثراً كتبه التاريخ ، وحفره في الأجساد وسجله النسيان !. مَنْ الجلاد يا تُرى ومَنْ الضّحية ؟ وهل آن لعلم الإجتماع أن ينصُب منصة ليقتص للعدالة ؟ . لمأساة علائقنا بالجنوب وأهله أوجاع أكبر من الكتابة ، طمرتها الصدور . جينات أكبر من كل دعاوى الإنقسام والفرقة . ماذا يا تُرى فعل كثير منا ليبقى الجنوب ولُحمته ضمن الصدور الحانية ؟ . تركنا لهم الفواجع نازفة وفررنا ، بل أرسلنا أرتالاً للحروب والموت ، حتى جاء الإسلاميون بفؤوس البتر والتكفير ، ونفد الجنوب المورق الطيّب بجلده يحاول أن يصنع وطناً آخر بعيداً عن عذاب السنين. ولما تزل فؤوس البتر تفعل فينا فعلها ،كأنها تقتص من تاريخنا. عبد الله الشقليني 13/04/2013 [email protected]