تطرقنا في الجزء الأول (1/2)، من هذا المقال، إلي الكيفية التي أخضعت بها، الطفيلية الاسلاموية السودانية، لسيطرتها و هيمنتها المطلقتين، كل مفاصل سلطة الحكم، مع مفاتيح الاقتصاد والمال وموارد البلاد. و بتبعية جهاز الدولة لها، آل لحزبها غلاباً و اغتصاباً، امتياز احتكار انتاج و تسويق، الخدمات الضرورية، كالكهرباء و الماء. و كان هذا الامتياز بالذات، حكراً على القطاع العام الحكومي، في السابق. و غنيٌ عن الذكر بالطبع، أن احتكار إنتاج وتسويق السلع و الخدمات، هو أقوى أسباب، ظهور العقود، المعروفة بعقود الإذعان، لكون المستهلك، و في غياب المنافسة لبيع السلعة/ الخدمة، لا يجد خياراً آخر له، سوى التعاقد مذعناً، أي مكرهاً مع محتكرها. لشرح كيف يؤدي الاحتكار، إلي ظهور الإذعان، في علاقات التعاقد، نقول أن ما يقوم به، منتج و مسوق السلع، و منها الخدمة الضرورية، لا يخرج من كونه، بيع السلعة أو الخدمة للمستهلك "المجتمع" بمقابل و بدل، وينظم العقد المبرم بينهما – أي المنتج و المستهلك – تفاصيل البيع و واجبات و حقوق الطرفين، التي تشترط، في العقود عامةً، تساوي و تكافؤ الطرفين دونما تمييز أو تفضيل. أما عقد الإذعان فقائم على إرادة المحتكر المنفردة، ولذا فهو ينظم تلك العلاقة، حسبما تمليه مصالح المحتكر. إذن فهو عقد ينتفي فيه التراضي، المطلوب في عقد البيع، كعقد من عقود المعاوضات. فاحتكار المنتج لسلعة/خدمة ضرورية لا استغناء عنها، يعني انفراده بتسويقها، دون منافسة أو مزاحمة، يجعل مستهلكها تحت رحمة منتجها، عند التعاقد على بيعها، مما يجعل أحد المتعاقدين - المحتكر - قوياً، و يجعل الآخر – المستهلك - ضعيفاً لاحتياجه للسلعة المحتكرة، بضرورة لا استغناء معها. و هكذا ينشأ للمحتكر مركز و وضع تجاري، داعم و معزز لمركز قانوني قوي، يُمَكِنه من فرض شروطه في التعاقد. و في المقابل يجد المستهلك نفسه، ضعيفاً و بغير حماية، بحيث يضطرُ للاذعان، لشروط و إرادة الغير في التعاقد. و خدمات الكهرباء و الماء والهاتف، من أمثلة السلع - الخدمات، التي تكون محل احتكار، و فرض عقود الإذعان بشأنها، على مستهلكيها، و هم جميع أفراد المجتمع، في حالتنا الراهنة. و لهذا تعتبر عقود الإذعان، النموذج الصارخ، للخروج على رضائية العقد. والرضا ركن ركين من أركان صحة العقد، ولذا يعتبر، في نظر الفقهاء، شكل من أشكال صيغ "التقاء إرادتي المتعاقدين الحرتين رضائياً". و مع انتفاء الرضا، تقوم عقود الإذعان، على الإرادة المنفردة، للطرف القوي في التعاقد، إذ هو من يفرض شروطها، على المتعاقد الآخر، و ما عليه إلا، أن يقبل بذلك، أي يرضخ ويذعن له جبراً. وهذا ما ألحق صفة الإذعان، بهذه بالعقود. و بصعودها إلي قمة السلطة والإدارة، كما أسلفنا الاشارة، اعتلت الطفيلية مواقع الاحتكار. و فرضت نفسها في مراكز، مكنتها من فرض، عقود الإذعان على غيرها؟؟. و تم لها كل ذلك، بحلولها بقوة السلاح و القمع، محل الدولة وقطاعها العام، و إحلال أفرادها و شركاتها، محل القطاع الحكومي المحتكر لإنتاج و تسويق بعض الخدمات الضرورية، كالكهرباء و المياه و الهاتف ... إلخ. فجمعت بين كونها محتكرة لإنتاج وتسويق الخدمة، و أنها قطاع خاص تعود أرباحه لنفسه، و ليس للمجتمع، و رغم ذلك، لا ينافسه أحد، بأمر من جهاز الدولة و تشريعاتها، بل بحماية تامة ، يفرضها و يحرسها جهاز الدولة والتشريعات تقي المحتكر مساوئ من المنافسة. وهكذا وضعت الطفيلية، يدها عنوةً وقسراً، على امتيازات الاحتكار، ليست لها و لا تستحقها. ورغم كل هذه العيوب، الظاهرة و "الجوهرية"، في ذات الآن، لمساسها بركن جوهري، من أركان العقد، فإن وجود عقود الإذعان، في حياة الناس، وقبولهم بها، ولو بقدر غير قليلة، من الكراهة و المضض، مما لا سبيل إلي إنكاره. و ربما كان القبول، في حالات معينة، مرجعه كون الدولة ب "قطاعها العام" هي محتكر الخدمة، و أن عائدات الاحتكار وقبول اذعانية العقد، ستعود بالنفع للصالح العام حين يصب الريع في الخزينة العامة. ولكن هذا الواقع قد تغيَر على يد، ممثلي الطفيلية الاقتصادية الاسلاموية الحاكمة، التي حوَلت معظم أو كل الهيئات والشركات، التي تنج و تسوِق الخدمات الضرورية، إلي القطاع الخاص المملوك لمنتسبي الحزب الحاكم، و الموالين له. ويعني ذلك أن الرأسمالية الطفيلية، قد أحلَت قطاعها الخاص، محل قطاع الدولة العام، في احتكار انتاج وتسويق الخدمات الضرورية، و وظَفت هذا الاحتكار، لتحل محل الطرف، الذي يفرض شروط الإذعان، على المستهلك المغلوب على أمره، فيصب ريع الخدمات، الناتج من عقود الإذعان، في جيوب تلك الرأسمالية الطفيلية، بدلاً من الخزينة العامة. و هذا وجه آخر، من بين و جوه كثيرة، لاحتيال الطفيلية " الإسلاربوية" على مستهلكي خدمتها المحتكرة بدون وجه حق أو سند، ليزداد أفرادها غنىً و ثراءً و تخمةً، ويزداد الشعب فقراً و مسغبةً و جوعاً. وعلى ذكر عقود الاذعان، و كونها ضربٌ من ضروبِ، علاقات "استكراد" الدولة لمواطنيها، واستهانتها بهم، و الاستخفاف بعقولهم و بإرادتهم الحرة معاً، أودُ لفت نظر القارئ، إلي جانب آخر، من جوانب النهب المعلن لأموال المستهلك، عندما يتعاقد مع إدارات الكهرباء و المياه. فالإدارات المذكورة تطالبه، بدفع كامل قيمة العداد الذي يطلبه، سواء كان للكهرباء أو للمياه، من حر ماله الخاص. أي أنها تبيعه العداد، بالقيمة التي تحددها هي كيف تشاء. و لكن هذه الإدارات، تقرر أن يشتمل العقد، و لأسباب يجهلها المستهلك، و لا علاقة لها، بعدالة التعاقد في الشرع، و لا سند لها في القانون، و لا تستقيم حتى مع العقل و المنطق والمجرى العادي للأمور، على نص يقر فيه المستهلك، أن العداد الذي اشتراه بحر ماله، ليس ملكه، بل هو ملك من باعه له، وتقاضى ثمنه بالكامل. و مفاد هذا الإقرار، هو نفي ملكية المشتري "المستهلك"، للعداد الذي اشتراه بماله، و إثبات ملكيته لبائعه "الإدارة". و ليت أمر هذا "الإستهبال" يقف عند هذا الحد، دون أن يتجاوزه، و لكن "ما كل ما يتمنى المرء يدركه"، كما في قول المتنبئ. فإدارات الكهرباء و المياه تذهب، "و بقوة عين تحسد عليها"، إلي الزعم الباطل، بان هذه العدادات مأجورة للمستهلك، وتفرض عليه، من ثم، أجرة شهرية ثابتة، تتحصل عليها شهراً بعد شهر، و تظهر في الفاتورة تحت مسمى "أجرة معدات" أو شئ من هذا القبيل. فهل رأيت أيها القارئ العزيز، بلداً غير السودان "المحتل"، تبيع حكومته " المختلة" شيئاً لمواطنيها، و تتقاضى ثمنه بالكامل، ثم تعود لتدعي أن ملكية المبيع، لم تنتقل ليد شاريه، بل بقيت في يد بائعه، ثم تفرض بعد ذلك أتاوةً شهرية، يدفعها المشتري مكرهاً تحت مسمى أجرة لما اشتراه؟؟؟؟؟ من وجد بلداً مثل هذا فليدلني عليه، و لن أنسى له هذا الصنيع أبداً. قد يقول قائلٌ، على سبيل التبرير أو الاعتذار، بأن هذه العلاقات بقوانينها، موروثة من زمان يعود، إلي عهد الإدارة الاستعمارية. ولكنه العذر الأقبح من الذنب. فليس في الناس، من هو أكثر ذماً لقوانين الإدارة الاستعمارية، من حزب الطفيليين ومناصريه. فماذا فعلوا بمثل هذه القوانين الشائنة والظالمة، وهم يحكمون طوال ما يقارب ربع القرن من الزمان؟؟؟. زادت خلاله قيمة عداد "الكهرباء أو المياه" الواحد، من قروش أو جنيهات معدودة، لا تتجاوزها، إلي ملايين الجنيهات. و من باب ذكر الشيء بالشيء، كما يقال، أذكر أنه في بداية تسعينات القرن الماضي، عندما دشنت الطفيلية حملتها التترية المحمومة، على هيئات و مؤسسات القطاع العام الخدمية ، و قامت بتحويلها نهباً و "بتراب القروش"، إلي قطاعها الخاص الحزبي، أقول أذكر أن آلت مصلحة خدمية، إلي ملكية شركاتهم، و كانت - و لا تزال حتى اليوم – رابحة وذات ايرادات مالية ضخمة. ولكن الطفيلية لم تكتف بأرباحها، و بتلك الموارد المالية الضخمة، بل فرضت على عملائها و مستهلكي خدماتها، أجرة شهرية لمعدات اشتراها منها، المستهلكون من حر مالهم الخاص، و ظهرت هذه الأجرة، في الفاتورة تحت مسمى "أجرة معدات". كما يظهر فيها، رسم آخر يدفعه المستهلك، تحت مسمى آخر هو – صدِق أو لا تصدِق – "ضرائب". بمعنى أن الهيئة الخدمية العامة، الآئلة نهباً و "بتراب القروش" إلي قطاع خاص الطفيلية، لا تدفع فلساً و احداً، من الضرائب المستحقة عليها من قبل الحكومة، بل تلزم مستهلك خدماتها، بسدادها نيابةً عنها مكرهاً صاغراً. من ابداعات الكاريكتيريست المصري الراحل، صلاح الليثي، أن خطط ذات مرة، و بريشته المميزة رسماً، لاثنين من الموظفين العموميين في مصر، في وقت ساد فيه فساد و نهب كبير للمال العام، يقول فيه أحدهما للآخر:" الدكتور مانعني ما أكلش غير مسروق"، و ذلك على وزن ما ينصح به، الأطباء بأكل المسلوق وتفادي أكل غيره. و يبدو واضحاً، أن الطفيلية السودانية "ممنوعة ما تأكلش غير مسروق". ما تقدم غيض من فيض، أمثلة بيع الطفيلية لشعبنا: "السمك في الماء"، و "الطير في الهواء". وحقاً إن طرائق استهبال الطفيليين لشعب السودان، وفنون سرقتهم لموارده الشحيحة و المعدومة، واستنزافهم و نهبهم لقوت عياله، و أكلهم أمواله بالباطل المحض، لا تحصى و لا تعد. أعتذر لاضطراري للتوسع، في الحديث عن أحكام و قواعد القانون والفقه، مع علمي بما في قراءة ذلك من عنت و مشقة للقارئ غير المتخصص، و أنه يكلفه رهقاً فوق طاقته، ولكن ماذا نفعل؟ فتوعية الناس بحقوقهم، لحضهم على التمسك بها، و تحريضهم على تلمس أسباب صونها و حمايتها، كل ذلك يتطلب الصبر و التضحية، فليعذرني القارئ إذن. أمين محمَد إبراهيم [email protected]