محمد احمد محمود ومفهوم الإنسان النخبوي: لقد عرفنا في المقال السابق مفهوم الإنسان النخبوي بأنه هو الإنسان الذي يشكل عالمه بنفسه من خلال انتقاله من حالة اللا-توازن أو عدم الايمان الكامل (بالواقع) سلوكا وفكرا إلى طرح الأسئلة الكلية والجزئية عن الحياة (وايجاد) الاجابات لها، والكلمات بين الاقواس لمزيد من التركيز فهي مفتاح التعريف. فمن الكلمات التي بين الاقواس نري ان انطلاق الإنسان النخبوي يكون من داخل الواقع أي ينشغل بذلك الواقع فكرا وسلوكا وبالتالي عندما تخرج الأفكار تصبح معبرة عن ذلك الواقع والمجتمع كما هو، أي يسعي النخبوي خلف الظواهر الاجتماعية لدراستها واستيعاب جذورها وعلاقتها بالكلية المجتمعية وفائدتها أو اثرها السلبي فيبدا من مجتمعه ثم يصيغ رؤية تعبر عن كل الحياة مركزها مجتمعه. فاذا تركنا موضوع الدين قليلا فهل ما يقوله محمد محمود له ادني علاقة بالواقع والمجتمع السوداني هل له علاقة بدارسة قيم وظواهر الواقع السوداني؟ ما علاقة المجتمع السوداني بالعلمانية والمادية والجندر، فقبل ان يخبرنا عن العلمانية هل سعي إلى معرفة الواقع السوداني؟ هل سعي إلى معرفة القبلية والعشيرة وغيره مما يهم المجتمع السوداني؟ هل ذهب إلى القبائل الرعوية ليري ما تفكر به وما تحلم به؟ هي تاكيدا أزمة النخب عندما لا تتصالح مع ذاتها وتنطلق من واقع متخيل. فالإنسان النخبوي الفاعل على مستوى مجتمعه هو إنسان يحس أو يشعر ثم يعي بان هنالك قصور داخل المجتمع فيحاول تكملة ذلك القصور، أي هو الإنسان الذي يعدل أو يهدم ليبني، والمسافة بين الإحساس والوعي هي المسافة التي يجب على النخبوي ان يقطعها منفردا أي يجب عليه عدم نقل المجتمعات إلى متاهات لا تستوعبها المجتمعات، فإذا لم يجد اجابات فعليه ترك مجتمعه كما هو فالمجتمعات تستطيع ان تتماسك جزئيا إلى ان يجود التاريخ بنخبوي اخر يكمل ما بدأه سابقوه. ولكن ابي محمد محمود إلى ان يقود كل المجتمع إلى مدار الأسئلة الكلية قبل ان يصل إلى اجابات حقيقية. فما الذي بناه محمد محمود وحاول ان يوصله إلى مجتمعه كنخبوي تحديدا في موضوع الكتاب (نبوة محمد)، أي ما هي الأسئلة وما هي الاجابات التي توصل اليها؟ فبعد سنين من البحث المتواصل يأتي ليهدم فقط دون ان يبني للمجتمع قيم بديلة لما هدمه، وهذا حقيقة ما تفعله كل النخب العلمانية فهي تهدم فقط في قيم المجتمع دون ان تبني قيم بديلة. ويرجع ذلك إلى ان قيم الثقافة الغربية لا يمكن ان تتوائم مع ما هو قائم ولذلك يجب هدم كل المجتمع وتحويله إلى افراد ومن ثم يمكن تطبيق العلمانية عليهم فلا وجود للدين والقبيلة وغيره داخل العلمانية. وناتي لموضوع الإله الذي تتهرب منه النخب العلمانية السودانية صراحة كما فعل د. حيدر، فهل بحث محمد محمود في موضوع الإله ثم وجد الاجابات، فالنسمع ماذا قال (والقاريء لكتابي يلاحظ أنني أفرّق بين ما أسميه "الاله العام" و"إله النبوة". والإله العام من الممكن أن يوجد في أذهان الناس باستقلال عن إله النبوة.)، أي يمكن ان يكون هنالك اله ويمكن ان لا يوجد تلك إجابة الباحث. فهو لم يركز على إجابة السؤال كما قال (وفي كتابي ينصبّ اهتمامي على إله النبوة ولا أتحدث إلا عرضا في الفصل الأول عن الإله العام (وهو موضوع أتمنى التوفر على معالجته في دراسة مستقلة عن فلسفة الأديان))، فعلي الإنسانية والمجتمع السوداني الان حسب محمد محمود ان يهدم مفهوم الإله ثم ينتظر الباحث إلى ان يتفرغ لياتي لنا باجابة ما عن الإله هكذا بكل بساطة. فالإله في نظر محمد محمود فكرة ولا يدري ان الإله في نظر المجتمع عبارة عن قيم تكمل بعضها بعضا فماذا يفعل المجتمع في تلك القيم الموجه للإله. والكتاب ليس سعي إلى هدم النبوة أو الألوهية كما قال الكتاب ولكن إلى هدم نبوة محمد تحديدا والإله العربي بصورة عامة فمن استعراضنا من عنوان الكتاب (نبوة محمد) إلى عناوينه الداخلية فهو موجه ضد الرؤية العربية. فيكون السؤال الحقيقي هو لماذا اجتهد محمد محمود كل ذلك الاجتهاد إذا لم تكن هنالك اجابات لاسئلته، وهنا نرجع إلى حديث د. حيدر بان العلمانية لا علاقة لها بالميتافيزيقي فهي لها علاقة فقط بالمقاييس المادية، أو كما ذكر محمد محمود بنفسه (ان الملحد أو العقلاني ليس بصاحب لاهوت ولكن بصاحب ناسوت لان مركز الدائرة بالنسبة له الإنسان وليس الاله)، فإذاً لماذا كان كل موضوع الكتاب عن اللاهوت؟ وبدون تعقيد فان محمد محمود يعتبر نفسه إنسان صاحب رسالة، ويؤمن بان خلاص مجتمعه في اعتناق الفكر العلماني، ولكن عندما حاول ان يوصل تلك الرسالة حتى لاقرب الاقربين وجد ان الفكر العربي المتدثر بالإسلام قد طغي على الواقع واصبح حتى محاولة الحديث عن العلمانية يجب ان يمر من خلال الرؤية العربية، فقد حجبت تلك الرؤية مجتمعه تماما فهو يحال اولاً تخليص مجتمعه من تلك الرؤية وثانيا توصيل الرسالة التي امن بها وهي العلمانية التي يعتبر قيمها عبارة عن قيم الخلاص لمجتمعه من كل ازماته. ولان فكر محمد محمود قد ساوي بين الإله والدين والرؤية العربية لذلك حمل محمد محمود معوله واصبح يهدم في كل ما لا تؤمن به العلمانية باعتبارها جدار عازل بينه وبين مجتمعه حتى يستطيع توصيل رؤيته. فإذا محمد محمود لا يطرح أسئلة كلية ولا حتى يبحث في الظواهر عن طريق اركيلوجيا الفكر أي البحث في جذور الأفكار ومن اين اتت وتاثيرها الاجابي أو السلبي، بل هو يلجا مباشرتا إلى نفي الدين لان العلمانية تنفي القيم المعنوية، فقد طابقت الثقافة الغربية نتيجة لتحولاتها التاريخية بين الدولة والمجتمع فأصبحت القيم المعنوية توجه للدولة باعتبارها هي المجتمع الحقيقي اما ما عداها فهي مجتمعات تقوم على المصالح فقط لا غير مثل النقابات والاتحادات والجمعيات وغيرها فلا وجود للقيم المعنوية خارج اطار الدولة أي لا وجود للدين ولا وجود للقبلية أو العشيرة أو حتى للاسرة، فأصبحت الدولة ليست قيمة سياسية داخل قيم كلية ولكنها أصبحت القيمة المعنوية الوحيدة التي تدور حولها كل القيم، وذلك عندما ننظر للثقافة الغربية من الخارج. ويجب على الكاتب ان لا يندهش نتيجة لتحول كتابه من كتاب فكري إلى كتاب سياسي، فالرؤية الغربية تتخذ الفكر والعلم مدخل لنشر رؤيتها للحياة كما تتخذ الرؤية العربية الدين والإله كمدخل، ولان الاستقطاب وصل إلى درجة عالية داخل الواقع السوداني بين الرؤية العربية والرؤية الغربية وتحديدا بعد الفشل الذي اعتري الرؤية العربية داخل السودان، ولن نقول بعد حكم الحركة الإسلامية ولكن منذ الاستقلال والنخب العربية تجرب في الدولة السودانية على هواها دون ان يجدي نفعا واخرها استخدام الدين وراينا ما وصلت اليه حال الدولة السودانية. فأصبحت النخب العربية تحتضن افكارها عن الدين والإله وغيره كما تحتضن الام ابنائها فهي لا تجد لتلك الأفكار بديلا ولا تريد ان تبحث عن الخلل داخل تلك الأفكار. فالرؤية عند النخب العربية والنخب العلمانية كاملة اما الناقص هو المجتمع السوداني الذي يجب ان يتكيف مع تلك الأفكار! ولذلك أي اقتراب من تلك الأفكار يواجه باقصي درجات العنف اللفظي والجسدي. ولكن ما يحسب لمحمد محمود في ذلك الكتاب إذا تجاوزنا الاجابات الملتوية هو طرحه لتلك الأسئلة عن النبوة والإله فحقيقة يكفيه شرف طرح السؤال الذي تتهرب منه كل النخب السودانية، ونتمني ان يواصل في ابحاثه وان لا يتوقف عند صدي الكتاب كثيرا فتحتاج الثقافة السودانية إلى كثير من الأسئلة والكثير من الاجوبة. خارج النص: اعتذر لمن يحاول ان يبحث عن اجابات للاسئلة المطروحة، فهذا المقال ليس موجه لمناقشة افكاري الخاصة، فهو أولا لابراز القصور النخبوي عامة عندما يحاول استيعاب الواقع من داخل الرؤية العربية أو الرؤية الغربية، وثانيا لتوضيح قصور الرؤية العلمانية بصورة كلية عن استيعاب الواقع وكذلك قصورها عن التحرك داخل الواقع الميتافيزيقي أو الماورائي أو ما نسميه بالقيم المعنوية عامة. اما الاراء الخاصة فهي موجودة في (مدونة الثقافة السودانية وازمة التدوين)، فإذا اردنا مثلا مقالات حول موضوع الكتاب فيمكن الرجوع في موضوع الإله مثلا يمكن الرجوع إلى مقال "الله أو الإله في الفكر الإنساني" اما في موضوع الرسول فيمكن الرجوع إلى مقال "محمد، الرسول الإنسان ام الرسول الإله"، وفي موضوع الرسالة يمكن الرجوع إلى "هل المصحف العثماني (القران الكريم) مقدس؟" وغيرها من المقالات التي توضح الرأي الشخصي. [email protected]