كانت تتشامخ زهواً في مواجهة البنايات الحديثة.. مولية ظهرها لميدان الخليفة( عبدالله التعايشي)... خليفة " محمد أحمد المهدي " ونصيره إبان البدايات الأولى لخروجه على سطوة الغازي.. عطا يقف على مبعدة منها.. مفتوح العينين من فرط الدهشة !!؟.. كأنه يراها لأول مرة.. وبصره يتحسس الجسد المضخم بأريج العراقة والمجد .. متصاعداً من ساسها لرأسها..!!؟... غير قانع بالنظر فقط.. فأنامل أصابعه الطويلة تمسح على حواف قاعدتيها متقارباً حيناً.. ومتباعداً حيناً آخر ... في تناوب رتيب .. كأنه يؤدي طقوساً دينية .ويكرر الأشواط عدة مرات ، خاتماً بعدد فردي !!؟... تراجع الى الوراء ، موسعاً في خطاه الخلفية حتى يتمكن من إيقاعها بين إطار حيز الإحاطة البصرية( البعد عن المكان يكسبه هالة من البهاء والشمولية ) !!؟... عطا رهين عناوين مكتبته المتواضعة يقلب الكتب ويفتش بين المراجع تجذيراً لأصل وفصل المدعو " عبدالقيوم " هذا الذي وسمت هذه البوابة بإسمه .. ولكن دون جدوى !؟...( ما أفقر مراجعنا التاربخية.. حتى الأحداث المعاصرة التي لم تنبت جذورها خارج عقود القرن العشرين .. لا نجد لها توثيقاً ) خرج يسأل " سؤال الضهبان " .. تخير عينة عشوائية من معمري حي " ودنوباوي" أفرغ ما في خزائن ذواكرهم ، بعد أن عصرها عصراً.. فجاءت رواياتهم متباينة التفاصيل والمتون والحواشي ... متوافقة في حقيقة جوهرية واحدة وهي أن " عبدالقيوم " كان حارساً لهذه البوابة ... هذا كل ما خرج به منهم ، رغم الحصار الذي ضربه حولهم عدة أيام .... ثمة إحتمال ثان... تتواتره النخبة دون جزم... لعله المهندس الذي صممها وأشرف على تنفيذها ( الى متى تظل الرواية الشفاهية مصدراً للمعرفة التاريخية ) ؟؟!...التاريخية ) ؟؟!... ظل عطا تائهاً، وهائماً على وجهه ... بين أرجاء البقعة التي تحدها الطوابي الحامية لها من جهة النيل الأبيض.. وعطا لا يكف عن الدوران حول آثار الثورة المهدية مزهواً حتى يصل الى ميدان الخليفة ومتحفه ثم عائداً على أعقابه إلى ذات النقطة.. محيطاً في شكل دائري بقصر المهدي ذي القبة الفضية المتعالية في خيلاء..!!؟.ً وفي نهاية المطاف يجد نفسه مصلوباً... أمام ( بوابة عبدالقيوم ) كأنه ينعي الحال لطلل صمد وقاوم عوادي الزمان ومكر البشر طويلاً دون أن تمسه يد العناية .!!؟ ولكنه سرعان ما أحبط وضاق ذرعاً وهو يرصد مراقباً عشرات الناس من كل جنس ولون.. ينفذون عبرها دون مساءلة كأنها مدخلاً لإحدى مؤسسات فساد الأمكنة .. !!؟.... متاحة لمن يملك الثمن أو القدرة على الإلتواء !!؟... تراجع عطا ثم تباعد منصرفاً حينما غزاه شعور طاغ بالضآله... دفعه دفعاً للهرولة هرباً من نظرات السابلة التي تحاصره دون إهتمام ككيان كمي مهمل !!؟... منذ تلك اللحظة التي عانقت فيها نظراته بوله جنوني " عقد " البوابة ذي الشكل الهلالي... المشرع صوب فضاء رحيب.. ظلت البوابة لم تبرح حواسه المتماثلة في بهاء.. ترفده اللحظة التاريخية التي أفرزت مثل هذا الصرح ...!!؟.. فكانت البوابة منذ الوهلة الأولى ... الحلم المتدلي في مشانق اليقظة..!!؟... يصحو وينام وهي بهيكلها الشامخ.. تظل على الدوام في وعيه كجرم هائل يقرع ذاكرة شعب بأكمله !!؟... ( أهي ترميز لحقبة زاهرة من زمان ولى...!!؟.... يسعى جاداً لإسترجاعه وإسقاطه على واقع بشع ..؟.. أم هي مجرد أثر تاريخي يستجلب السائحين ويستقطب إهتمام الباحثين عن جوهر الثورة المهدية !!؟... عطا ظل يهجس بها.. والبوابة ظلت هاجسه...!!؟... أهو رجل مأزوم يعيش لحظة حضارية زائفة ؟؟!... لكن، أو ليست هذه البوابة تضرب عميقاً في أعماق هذه الأرض السمراء الطيبة ، التي وهبت هذه البوابة شموخها وعراقتها !!؟..( أو ليس كلانا من تراب هذه الأرض !!؟..) ..... * * * إعتاد أهل البقعة في تلك الأيام ... حينما يخرجون من بيوتهم في سعيهم اليومي مبكرين الى مقار أعمالهم .. أن تصافح عيونهم رجلاً غرائبي الأطوار يجوس حول البوابة !!.. ويتمسح بركيزتيها غير مبال بنظرات السابلة المملوءة بالإستغراب والإهتمام البالغ..!!؟... * * * أصيل يوم صحو .. ونسيم النيل يلامس نوار أشجار النيم المصطفة في توازي على جانبي شارع الإذاعة والتلفيزيون ، فتهب نفحات مخضلة بالأريج على فضاء اللوحة التاريخية !!؟... فتهتز مشاعر عطا مسافرة بين أقبية الأزمنة في حضرة البوابة .. يظل عطا مشدوداً على وتر معطوب .. يحدث نفسه همساً: ( أصيل يوم صحو.. ونجمة الفجر تأخذ قطرة من دمي !!؟..) وصورة عبد القيوم بجرمه الهائل يقف في صرامة أمام الركيزة اليمنى للبوابة.. الجبة المرقعة ينسدل ذيلها حتى منتصف الساقين بعروقهما النافرة حيث تتفرطح قدمان على سطح نعل الحذاء الموسوم ب"الشيقيانة" سحب عطا متمهلاً بصره نحو الأعلى متصاعداً حتى مهوى عزبة العمامة المنسدلة على الكتف الأيمن .. ثم إنحدر في زاوية قائمة الى الجنب الأيسر من الهيكل الضخم حيث يتدلى سيف في غمده حتى وجه الأرض.. ولم يبعد بصره في رحيله المسحور عن إستدارة " الدرقة " وصلابة بنيتها وهي تتقدم الحارس ، وتحميه..!!؟... هنا إلتمعت ومضة خاطفة في خاطر عطا.. أضاءت العتمة التي أصابته بغشاو ة !!؟... طارئة ففجرت الرؤية وكشفت له سر إقتران إسم عبدالقيوم بالبوابة..( من غيره يمكن أن يحمي البقعة ويصون ترابها من عبث العابثين و الطامحين الغزاة !!؟..) إقتراب عطا في خطوات متسارعة صوب الركيزة اليمنى حيث ينتصب " عبدالقيوم " في ظنه الذي تماهى مع الواقع المحسوس وبلغ في وعيه درجة التجلي !! إنتصاب عطا ك" الديدبان"أمام البوابة.. أثار فضول بعض المارة فأستوقفهم مشهده وهو يمد يديه في إتجاه البوابة كأنه يقبل مسلماً ومرحباً بشخص مهاب طال غيابه ، عطا... في حال غياب الوعي بمن حوله مخاطباً " عبدالقيوم " في رجاء وتوسل ( أنت الحارس والفارس.. من غيرك في مكنته أن يضبط تدفق العابرين من خلال هذه البوابة دون قيد ولاشرط ؟؟!.. من غيرك يمنع المرتزقة المتسللين والمهربين و ذوي العاهات والجواسيس وعملاء المخابرات الأجنبية ومحدثي النعمة وأثرياء العمولات وجرذان السوق السوداء .. ويحجر عليهم الولوج عبرها !!؟... تراجع عطا بضع خطوات الى الوراء في إنتظار أن يستجاب الى رجائه وتوسلاته ... لكن عبثاً !!؟.. فمن ظنه كياناً حقيقياً من دم ولحم إستحال الى مجرد رسم أثري منحوت على ركيزتي البوابة .. إلا إن هذا الوهم سرعان ما أنقشع وزالت غشاوته.. وكاد عطا أن ينصرف الى حال سبيله لولا هجمة شرسة من شظايا الذاكرة أيقظت فيه الوعي ببشاعة واقع الحال ومرارته العلقمية مقارنة بعهد ماجد ... كان فيه أنصار المهدي بدماء الشهادة الزكية وحدها يصونون لهذه الأرض ترابها من دنس الغزاة... ومن هذه البقعة عبر الأنصار بمراكبهم البدائية وأسلحتهم البيضاء النيل الأبيض وأتوا برأس " غردون باشا " أحد أمهر قواد الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس ... وأكثرهم دراية وحذاقة بطبيعة هذه الأرض وطبع أقوامها وعلى مقربة من هنا حيث متحف بيت الخليفة ... كانت تخرج الأوامر من لدن خليفة المهدي عبد الله التعايشي الى جيوش الأنصار المرابطة في الحدود والثغور بضم الشرق والشمال .. بل وإخضاع ما دون ذلك من عروش وحكومات ... بل رسائله قد وصلت إلى ملكة إنجلترا نفسها ، تعرض عليها الدخول في حظيرة الإسلام !! *. *. * الأسى رداء أسود شفيف يدثر كيان عطا وجسم البوابة يبدو في غبش الفجر، طريق الخروج الوحيد وسط غابة من المخارج المسدودة !!؟... عبد القيوم وجسم البوابة يتداخلان ، وفي لحظة ما إنبهم على عطا الأمر ، فصرخ متسائلاً : - أيهما الأثر التاريخي ؟!!... - أيهما الحارس ؟؟!!... نظر عطا الى نفسه ملياً في إمعان بالغ... فهمس مستنكراً: - لماذا هو هنا في هذا الوقت ؟؟!. : - أهو حارس لهذا الأثر المهمل حقاً ؟ لكن ثمة صوت أكثر عمقاً وتصميماً خرج من داخله " بل أنا عبدالقيوم الآخر !!؟؟.... وفي صبيحة ذلك اليوم لاحظ الناس في غدوهم ورواحهم إن هناك رجلاً يتمنطق بالزي الأنصاري المعروف يسد عليهم مدخل البوابة ويمنع عبورها على كل من لا يحمل هوية إنتماء لهذه الأرض السمراء !!؟.... فيصل مصطفى [email protected]