٭ النومنكلا تورا أو النخبة تعني الطبقة السياسيَّة أو النخبة الحاكمة التي تشكَّلت بعد ثورة أو انقلاب عسكري نجح في إقصاء نظام حكم مستبدّ، وتلك النخبة مع مغريات السُّلطة نكصت بعهودها ووعودها التي كانت تنادي بها! ٭ وكلَّما مرَّت عليهم الأيَّام والسنون استأثروا بالسلطة أكثر فأكثر، وهنا تطيب حياة البذخ، ليتحوَّلوا إلى طبقة حاكمة مستبدَّة ومستعدَّة لفعل أي شيء من أجل الحفاظ على مصالحها! ٭ وفي حالة أيلولة الأمور إلى ذلك الحدّ تبدأ الخلافات بين الثوار وتتصارع الولاءات من أجل الحظوة عند الزعيم الخالد، وإذا قلَّ نصيب فرد منهم من القدر الذي يعتقده يتَّهم السلطة الجديدة بالانحراف عن مبادئ الثورة، وممارسة الفساد، ويبادلونه ذات التُّهم وفي أحسن الأحوال يتم عزلُه هذا إن لم يُعدم أو يُسجن بتلفيق التُّهم ضده! ٭ حدث هذا لتروتسكي الذي اختلف مع إستالين ولم ينجُ من الموت حتى بعد أن هرب إلى أمريكا الجنوبيَّة، فقد أرسل إستالين من يقوم بتصفيته هناك! ٭ هكذا الحال في عالمنا العربي، والسُّودان ليس استثناءً! ٭ وحتى تُحكم النومنكلا تورا قبضتَها على زمام الأمور يتحتَّم عليها وضع نهاية للحزب الذي قام بالانقلاب الذي قام بالثورة وتم استبداله بحزب آخر «شيوعي التسمية» لكنه ذو ميول ليبراليَّة قويَّة فأصبح حزب دولة ينفِّذ رغبات الدولة التي تتحكَّم فيها النومنكلاتورا! ٭ انتفت بذلك الصلة بين الشَّعب ونظامه الحاكم ولم يعُد للحزب قرار، فالقرار بيد المكتب السياسي للحزب والمؤلَّف من خمسة عشر عضواً بمتوسط أعمار ما بين الخمسة والسبعين عاماً الى الثمانين. وهكذا الحال في كل بلد تتحكم فيه النومنكلا تورا، وقد أثر التغيير الذي حدث في الاتحاد السوفيتي في عصر إستالين في مسيرة الاتحاد، وكان انهيار الاتحاد السوفيتي بسبب خلافات داخليَّة ومحاولة إجراء إصلاحات ببرنامج البريسترويكا «إعادة البناء» والتي حوَّلت التأييد العارم لقورباتشوف إلى كراهية الشعب له وعدم تحمُّسه للوقوف معه ضد الانقلاب الشيوعي، والوضع الغريب الذي حدث هو أنَّ الشعب لم يكن يؤيِّد الانقلاب وبذات القدر كان يرفض قراباتشوف! ٭ هذه الحالة أدَّت إلى انفراط عقد الاتحاد السوفيتي وأدخلت روسيا في فوضى اقتصاديَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة مدمِّرة، كادت تطيح بها كدولة عظمى! ٭ ومن نتائج الحكم الدكتاتوري الملموسة والخطيرة هي أنَّ أفق المواطن يضيق للحد الأدنى، ويضعف انتماؤه القومي الوطني، وقد حاول منظِّرو الحزب الشيوعي فرض جنسيَّة سياسيَّة جديدة، فكانوا أن أضفوها على كل الجمهوريَّات بالرغم من اختلاف ثقافاتها ولغاتها فكانوا جميعًا سوڤيت، هذه الجنسيَّة دامت سبعين عامًا ونيِّفًا ولكنها وُئدت على يد يلتسن في أقل من سبع دقائق! ٭ ومن آثار الحكم الاستبدادي والتي عادة ما تظهر بعد سقوطه هي الضبابيَّة التي تكتنف معاني الحُريَّة لدى المواطن الذي لم يمارسها طوال عقود الاستبداد، بل وفي الدول المتخلفة نجد أنَّ أكثر من ستين في المائة من الشباب شبُّوا وشابوا على الاستبداد، ولم يعرفوا الديمقراطية ومعاني الحرِّية ناهيك عن ممارستها! ٭ وهذا الأمر خطير جداً، فعدم فهم وممارسة الحرية يقود إلى المطالبة حتى بحريات يحرمها الشرع ويرفضها العقل السليم! ٭ ودائمًا ما ينفرط عقد المجتمع بعد نهاية كل نظام حكم استبدادي، حيث تختفي الأخلاق وينتشر الفساد وتحت مفهوم الحرِّيَّة المضطرب تنشأ أفكار انفصاليَّة تقود إلى حروب أهلية، ولنا نماذج حيَّة الآن بين أيدينا الصومال، والعراق، واليمن، وأفغانستان وسوريا، كل هذه البلدان رزحت تحت حكم النومنكلا تورا فكانت النتيجة المأساة! ٭ وقد تساعد ذات النخبة في عمليَّة التفكيك لتتحوَّل إلى أمراء حرب كما الحال في الصومال وأفغانستان، وقد تُعيق أيَّ نظام بديل كما يحدث الآن في مصر، الأمر الذي يقود البلاد إلى حرب أهليَّة تقضي على تاريخ امتدّ لأكثر من سبعة آلاف سنة! ٭ حتى في قصص القرآن الكريم نجد أنَّ النخبة أو النومنكلا تورا هي ظاهرة سياسيَّة منذ القدم ودائمًا ما كانت النخبة هي أكبر معارض للتغيير السياسي والاجتماعي، وكان سادة مكة أكبر معارضي الإسلام خوفاً على سيادتهم ونفوذهم، وقديمًا قالوا «أنَّى يكون له الملك ولم يؤتَ سعة من المال»! ٭ وحتى تضمن النخبة موقعها في السلطة والنفوذ والتأثير على المجتمع وضعت معياراً غريباً فرَّقت به السُّلطة إلى سُلطتين سُلطة الطاغوت قيصر وسُلطة المولى عزَّ وجل بأن قالت ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ناسين أو متناسين أنَّ ذات قيصر شيء لا يُذكر في ضمن ما لله.! ٭ وتحت شعار ما لقيصر لقيصر تنهمر الهبات على الحاكم فهذا ملكٌ له، أمَّا ما لله فإنَّ النخبة هم وكلاؤه في شكل كنيسة أو كنيس أو رجال ينادون بتطبيق الشرع قولاً لا فعلاً!!! ٭ لذا تجد حفاة عراة تطاولوا في البنيان تراهم اليوم بفضل النومنكلاتورا يتحكَّمون في مسار البلاد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي دون وازع أخلاقي وديني يردعهم! ٭ وقد جاء الإسلام بمعيار دقيق يختلف عن ذلك الذي لدى النخب، فالنومنكلاتورا على مرِّ العصور مقياسها الجاه والسلطة، وفقدانهما بالنسبة لهم هو بمثابة الموت، ولكن المعيار الإسلامي جاء مغايراً تماماً «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، فتقوى الله هي المعيار الذي يمنع النخبة من احتكار حياة الآخرين ويمنع الفساد والتحكم في مصير ومعيشة الشعوب! ٭ والنومنكلا تورا يجمعها هدف واحد هو الحفاظ على مصالحها المرتبطة بوجودها ولكنها فيما بينها تكنّ العداء بعضها لبعض وتتربَّص وتتحيَّن الفرص ليقضي بعضها على بعض خاصة إذا كبر نفوذ فرد منها إلى ما فوق السقف، فعلى هذا تدور الدوائر وتناله ألسنة الإعلام الحارقة وتُكال له كل التهم التي أدَّت إلى تردِّي البلاد لذلك الدرك السحيق! ٭ هكذا هم دائمًا تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى!! د. هاشم حسين بابكر [email protected]