د. عبد الرحمن السلمابي [email protected] مواصلة للجزئية الأولى والتي يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط: http://www.alrakoba.net/articles-action-show-id-16645.htm -6- مفهوم \"البيريسترويكا\" هي برنامج للإصلاحات الاقتصادية أطلقه رئيس للإتحاد السوفييتى، ميخائيل غورباتشوف وتشير إلى إعادة بناء للهيكل السياسى و الإاقتصادى للإتحاد السوفيتى. صاحبت البيريسترويكا سياسة الجلاسنوست والتي تعني الشفافية. أدت السياستان معا الي انهيار الأتحاد السوفييتي وتفككة سنة 1991. برنامج البيريسترويكا يتحدث عن تعديل سياسة التخطيط المركزي لتكون لامركزيه. كما أشارت الى تبنى إصلاحات سياسيه مصاحبه مثل السماح للترشيح لأكثر من منافس فى الإنتخابات تحت مظله الحزب الواحد و لكنها اخفت فى طياتها نوع من التعدديه الحزبية و الإقليمية الاستقلاليه. الإصلاحات الاقتصادية طالت نظام العلاقة الإنتاجية و التعاونيات و التصدير و الإستيراد و العماله واتاحت الملكية الخاصّة و تقرير مصير المنتج و عملت على جعل مقاولات الدولة ذاتية التوليد لدخلها؛ فأصبح عليها تغطية التكاليف (الرواتب، الضرائب، المواد الأساسية، والقروض وفوائدها) من عائداتها وبذلك ولم تعد الحكومة تتدخل لإنقاذ الالتزامات التي لم تكن مربحة وواجهت خطر الإفلاس و نقلت السيطرة على المقاولات من الوزارات إلى تجمعات عمّالية منتخبة. قام البرنامج بإلغاء احتكار وزارة التجارة الخارجية للعمليات التجارية. وسمح لوزارات الفروع الاقتصادية والزراعية المتنوعة بأداء عمليات تجارية خارجية في القطاعات التابعة لها. التعديل الأكثر تأثيرا الذي أدخله غورباتشوف على قطاع الاقتصاد الخارجي سمح للأجانب بالاستثمار في الإتحاد السوفييتي على شكل مشاريع مشتركة مع الوزارات السوفييتية ومع ملتزمو الدولة والتعاونيات. ولكن برنامج البيريسترويكا لم يقم بأي تغيرات جذرية حقيقة. بحلول 1990 كانت الحكومة قد خسرت السيطرة على الظروف الاقتصادية. إزدادت نفقات الدولة بحدة بسبب ازدياد عدد المقاولات الخاسرة التي إحتاجت لمعونة الدولة وإستمر دعم البضائع للمستهلكين. إنخفضت عائدات الضرائب بسبب امتناع سلطات الجمهوريات والسلطات المحلية عن تقديمها للحكومة المركزية بسبب روح الحكم الذاتي المناطقي المتنامية. وبسبب إنهاء السيطرة المركزية على قرارات الإنتاج، وخاصة في قطاع البضائع الاستهلاكية، كسرت علاقة العرض والطلب التقليدية، دون المساهمة في بناء علاقة عرض وطلب جديدة! وبالتالي، بدل أن تؤدي سياسات اللامركزية التي قدمها غورباتشوف إلى سلاسة النظام الاقتصادي، خلقت هذه السياسات معيقات إنتاجية جديدة. إذاً مفهوم \"البيريسترويكا\" الذى عنى الاصلاح الذى يشمل السياسة والاقتصاد والمجتمع والتى تبناها حزب السلطة الحاكم فى الاتحاد السوفييتى بزعامة قورباتشوف كان ايقاعها اسرع من أن تعزفه طبول ذلك الحزب الحاكم فتمزقت ثم تكسرت وتغنى الشعب بسيمفونيات تكن عن زئير للحريات ومتطلبات العدالة الاجتماعية الاخرى الذى ظل صامتا لأكثر من ثمانين عاما. -7- والدرس المستفاد هو أن أى حزب بنى مجده على أكتاف السلطه سوف يندك متى ما سقطت السلطة ، وتتنكر الشعوب لكل محاسنهم أو حسناتهم. وكذلك أن مرتكزات السلطة المستدامة تكمن فى الجلوس على قمة هرم ثلاثى الاضلاع يجب أن يبنى متدرجا لأعلى وبالتساوى ما بين تحقيق الاستقرار السياسى والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية حيث تلك هى الأضلع الهرمية. فأى اخفاق فى جانب يقود حتما لسقوط الهرم وتنهار السلطة وتدفن فى أحشائه. لقد حقق الاتحاد السوفييتى استقرارا سياسيا لا مثيل له وتنمية اقتصادية غير مسبوقة جعلته أحد ثنائى القطبية العالمية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية ولكنه فشل فى تحقيق العدالة الاجتماعية فانهار بعد حوالى ثمانين عاما. لقد أتى الحزب الشيوعى للسلطة بعد نجاح الثورة البلشفية فى عام 1917 م ووجد تجاوبا كبيرا وتأييدا من الشعب لا مثيل له. حيث فرض نفسه بأنه الحزب الأوحد الذى لا شريك له فى الحكم. فصار الانسان يولد هناك ويمنح عضوية الحزب عند الميلاد. ولكنه فشل فى تحقيق العدالة الاجتماعية التى دعى اليها حيث أعاقها بثلاث آفات هى الاستبداد بالرأى والقمع السلطوى (البوليسى) والفساد الادارى وربما المالى. فآفة الاستبداد بالرأى تشير الى أن السلطة السياسية الحاكمة من منطلق حزب السلطة تفرض رأيها وتفترض أنه الأقوم وعلى الجميع تنفيذه والانصياع له فيما دون ابداء رأى مخالف لأن عاقبة المخالفة أو الاعتراض تؤدى الى العقاب البدنى أو المالى أو النفسى. فالحزب الحاكم صارت منظومته أقرب الى ممارسات القوات النظامية بالرغم من اختلاف الأهداف. وأيضا يشير مفهوم الاستبداد بالرأى الى تمترس قلة من الفئة الحاكمة على الامور السياسية والتنفيذية بشكل مستدام مما لا يسمح بتجديد الدماء ولا يسمح بدخول عناصر جديدة الى تلك الدائرة المحتكرة لهؤلاء القلة \"والعاجبو عاجبو والماعاجبو يمشى يشرب من البحر\" فصار شراب مياه البحر الجارية افضل من تذوق مياه البركة الحزبية الراكدة علما بأن ركود المياه يفسدها. وتبدل شعار ديكتاتورية الطبقة العاملة فى الاتحاد السوفييتى الى ديكتاتورية الطبقة الحاكمة والإنتهازية الرأسمالية الجدد. فكان المكتب القيادى السياسى الحاكم محتكرا للسلطة لمدة طويلة حتى تجاوز جميع أعضاءه السبعينات من العمر ماعدا قورباتشوف الذى كان على مشارف الستينات من العمر. فتكشف ذلك بعد وفاة بريجنيف فى نهاية الثمانينات من القرن الماضى فخلفه اثنان من السبعينيين أندروبوف و شرنينكو. ولكن المشكلة صارت فى عدم مقدرتهما على الاستمرار فى السلطة لأكثر من بضعة شهور ما بين تسعة الى حوالى عشرين شهرا حيث لم تسمح لهما مقدرتهما الصحية نتيجة الكبر بذلك فكان أمر الله نافذا فيهما فأصاب ذلك المكتب القيادى فى مقتل حيث أصابه الشلل. ولم يكن المخرج سوى تعيين قورباتشوف أصغر الأعضاء سنا لمنصب سكرتارية الحزب الشيوعى الذى يعنى رئاسة الاتحاد السوفييتى الفعلية. ولم يكن أمامه بدا من سوى تبنى سياسة البروسترويكا الاصلاحية. والواضح أن آفة القمع السلطوى بواسطة القوات النظامية أى محاولة حماية العروش بالجيوش لم تكن صائبة هى الاخرى. حيث اذا ما صار العرش هشا ضعيفا لا يمكن للجيوش حمايته وهذا واضحا حتى فى ثورات الربيع العربى فى مصر وتونس وغيرهما. أما آفة الفساد الادارى والمالى فى الاتحاد السوفيتى السابق والمحكوم بحزب السلطة فكانت هى الاخرى اصابته فى مقتل صارت كل مفاهيم العدالة الاجتماعية حبر على ورق النفاق السياسى ولم تتنزل على أرض الواقع. لقد ابتدعت السلطة الحاكمة هنالك نظام \"النومنكلانتورا\" الذى بموجبه يحصل الناشطين سياسيا فى الحزب الحاكم امتيازات تفضيلية على غيرهم مثل توزيع السيارات والشقق السكنية والوظائف المرموقة والسفريات الخارجية ذات العائد المادى المجزى وقد تمتد لتشمل الأنواع الممتازة من الفودكا والكافيار وغيرهما من المطايب. ولعل من آثار ذلك هو حدوث غبن اجتماعى تراكمى من جراء عدم الانصاف فى المعاملة لكافة المواطنين. -8- ولكن الأخطر هو الخلل فى المقدرة الانتاجية وتدهورها نتيجة لذلك التمييز الغير عادل. ولكن الذى لم تستطيع الفئة الحاكمة استيعابه واستدراكه هو أن المقدرات السياسية والتنظيمية التى تحظى بالميزات التفضيلية تختلف تماما عن المقدرات الادارية التنفيذية التى هى ضرورية للعملية الانتاجية والخدمية وفقا لمفهوم التنظيم البيروقراطى والتكنوقراطى الذى ابتدعه العالم \"ويبر أو فيبر\" (ًWeber) حيث أتى بنظام فعال يستوجب الأخذ بنظام المقدرة والكفاءة والتدرج الوظيفى كاساس بينما النظام الشيوعى أخذ بمبدأ الولاء السياسى دون المقدرات والكفاءات ولم يأبه كثيرا بمفهوم التدرج الوظيفى وانما أخذ بنظام القفز بالزانة وهذا قاد الاتحاد السوفييتى للانهيار بالزانة نفسها وفى المقابل نجد أن الدول الغربيةوالولاياتالمتحدةالأمريكية قد تبنت النظام الابيروقراطى حرفيا فى أى من تنظيماتها الانتاجية أو الخدمية ونجحت فى ذلك بحيث قادها الى إحداث كفاءة عالية جدا فى ادارة دولها. وعلى سبيل المثال نجد أن كل السفراء فى وزارة الخارجية الامريكية أتوا عن طريق الكفاءة والمقدرة والتدرج الوظيفى المتبع عدا خمسة سفراء يتم تعيينهم سياسيا بعد اجتياز معاينات الكفاءات والمقدرات الخاصة بهم بواسطة الكونجرس الأمريكى. لقد تجاوز العالم الغربى منذ أزمان بعيدة مفهوم \"ما لله لله وما لقيصر لقيصر\" وصار الآن ما لقيصر لقيصر و \"ما لويبر لويبر\". والملاحظ أن حزب السلطة فى الصين اخذ بنفس هذا المفهوم مما ساعده فى الوصول الى الريادة الاقتصادية العالمية الان. وأخذ ايضا بمفهوم تجديد الدماء فى معظم الوظائف ذات الطبيعة الانتاجية بحيث لا يمكث أى شخص فى الوظائف العليا لأكثر من فترة مقدارها ما بين ثلاثة الى أربعة أعوام. وأخذ أيضا مفهوم العدالة فى تقسيم الامتيازات لكافة المواطنين. وأخذ بمبدأ حرية التملك والتعبد الدينى وسياسة الانفتاح المرشَّدة وغيرهم مما سعادهم على الاستمرار فى السلطة. ونفس المفاهيم طبقها الحزب الحاكم فى كوبا وامتدت العدالة الاجتماعية فيه لتطبيق مفهوم \"المساواة فى الظلم يكن عن عدالة\" فمنع استيراد السيارات منذ عام 1965 م وحتى الآن. وعلى جميع المواطنين هناك استخدام وسائل النقل العامة أو الدراجات وغيرها. لذلك نجد أن جميع السيارات هناك من موديلات 1965 م فما دون للمستطيعين منهم وغالبا ما يتم استخدامها فى سيارات الاجرة أو التكاسى للسياح. والفكرة هى أن سيارات الاستعمال الشخصى ليست بوسيلة انتاج مباشرة وانما هى عامل منه وتوجد بدائل اخرى تؤدى نفس الغرض والمهمة بحيث أن الغاية منه هى التنقل. فوفرت الدولة الوسائل الاخرى ووظفت رأس المال المهدور فيها للعمليات الانتاجية الاخرى. وعلى سبيل المثال اذا ما سمحت الدولة باستيراد مليون سيارة ومتوسط سعر السيارة حوالى 10،000 دولار فذلك يؤدى الى هدر حوالى عشرة مليار دولار حيث يمكن توظيفها فى مصانع انتاجية عملاقة لصناعة سكر القصب أو البنجر أو لصناعة التبغ الكوبى الشهير وهكذا. -9- عموما يمكننا تبنى \"بروسترويكا\" خاصة بنا وفق تحوير مفهوم \"ما لله لله وما لقيصر لقيصر\" بحيث تصير \"ما لله القيصر، لله القيصر، وما لويبر لويبر\" الاولى كناية عن مفهومنا فى موضوع فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية. بحيث أن الدولة الاسلامية هى غاية مشروعة لا فصل فيها للدين عن الدولة، وان الدولة الاسلامية تستقوى أكثر بالكوادر البيروقراطية التكنوقراطية. ونستدل دائما بالفعالية العالية والكفاءة الانتاجية لانموذج د. عوض الجاز ومقدارته الادارية البيروقراطية التكنوقراطية بحيث ساهمت خبراته التراكمية الادارية فى ظل العمل البيروقراطى والتدريب الاكاديمى فى نجاحه فى كل الوظائف السياسية التى تبوئها خصوصا فى مجال البترول والصناعة وغيرها. باعتباره ادارى تنفيذى وميدانى مثله مثل كمال عبد اللطيف والسمؤل خلف الله وكذلك اسامة عبد الله باعتباره من أنجح مدراء المشاريع حتى على النطاق العالمى وفقا لانجازه لسد مروى وتلك تعتبر مقدرات شخصية وادارية وبالطبع ليس كل هؤلاء الأشخاص ملائكة أو مبرئين من بعض العيوب البشرية ولكن محاسن انجازاتهم الملموسة التى أثرت فى حياة المواطن السودانى ازدهارا تفوق عيوبهم التى يمكن تخطيها بالتدريب المستمر واستبيانات الآداء المصممة باسلوب علمى من كل العاملين أو المتعاملين معهم وضرورة ادراكهم لها والعمل على الأخذ بما هو موضوعى منها لمعرفة موطئ الأخطاء الادارية والتى قد تكون قليلة. ليصبو الى الكمال الذى هو لله وحده. -10- عموما البيريسترويكا الروسية افضت الى فشل النظام نتيجة محاولة اصلاحه سياسيا واقتصاديا والبعض يصفها بانها كانت متعجلة أكثر مما يستوجب بحيث أن \"الشئ اذا ما تجاوز حده انقلب ضده\" والبعض الآخر بأنها كانت شعارات سياسية زائفة، مجموعات اخرى بأنها نتيجة مؤامرات أمريكية لعملاء مخترقين بحيث أدت الى سقوط المنظومة الشيوعية الشرقية وابدالها بالمنظومة الرأسمالية ولكننا يمكن توصيفها بمحاولة اصلاح الأبواب الخشبية التى تحرس النظام وهى يهتريها سوس عدم تحقيق مفهوم العدالة الاجتماعية فانهارت الأبواب. بحيث لم يتمكن العطار قورباتشوف من اصلاح ما أخذه دهر ممارستهم السياسية السابقة وبالطبع لم يتمكن من أن يجعل الظل مستقيما طالما كان عوده أعوج. و الدرس المستفاد هو أن أى حزب سياسى مبنى على السلطة فهو تنظيم هش يسقط مع سقوطها ما لم يستدرك القائمين على أمره أخطاء الآخرين والعمل على تفاديها ما أمكن حتى ولو بالكى المؤلم وهو آخر مراحل العلاج البلدى. وشواهد سقوط أحزاب السلطة بعد زوالها لكثيرة مثل سقوط حزب الاتحاد الاشتراكى المايوى السابق أو حزب سلطة زين العابدين بن على فى تونس أو حسنى مبارك فى مصر أو لجان القذافى الشعبية فى ليبيا حتى حزب البعث العراقى وقرب تداعيات سقوط حزب الاسد فى سوريا أو حزب صالح بن على فى اليمن. والملاحظ أن هذه الأحزاب سقطت بسقوط سلطتها نتيجة تداعيات ثورات شعبية أو بمساعدة قوة الاستعمار الخارجية كما هو الحال فى العراق، لذلك تم حرمانهم أو حجرهم من أى مشاركة سياسية لاحقة مع منع قادتهم ومنتسبيهم من الترشح أو حق تولى أى وظائف سياسية لاحقة. أما الحزب الشيوعى الروسى شفعت له محاولة الاصلاح التى ابتدرها بنفسه فتم السماح له بالمشاركة السياسية اللاحقة ولكن لم يكن يتوقع سقوط شعبيته بتلك الدرجة التى لم تمكنه حتى من احراز نتائج انتخابية تزيد عن الثلث. وكذلك يمكن أن يستفاد من تلك التجارب أن السلطه مهما طالت فهى ظل ضحى وحتما سوف تسقط يوما ما. فبعد ثمانين عاما سقطت فى روسيا ولأكثر من أربعين عاما فى ليبيا وثلاثون عاما فى مصر وهكذا. واذا ما أرادت الأحزاب من استدامة السلطة فعليها الولوج الى قلوب وصدور الشعوب المتوّقه للعدالة الاجتماعية وتحقيق الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية فيما دون إقصاء والا صارت غصة فى حلوق شعوبها ترغب فى لفظها متى ما سمحت لها الفرصة المناسبة. وعلى الأحزاب السياسية ان ارادت تحقيق الاستمرارية أن تعمل على الأخذ بمبدأ التجديد للدماء وحتى احتكار السلطة الحزبية لفئة معينة دون سواها وعليها الاستعانة بمراكز البحوث لتكون بمثابة قرائن استشعار لما يدور فى خلد منتسبيه من تذمر وتلبى تطلعاتهم وطموحاتهم المشروعة. ونستكمل البقية في الغد بإذن الله