عندما أكمل عالم الإجتماع العراقي علي الوردي رسالة الدكتوراه في علم الإجتماع في جامعة تكساس أخبره أستاذه بأنه سيكون الأول في علم إجتماع المستقبل وقد كان. وفي نفس الوقت كان قد عاد الدكتور عبدالله الطيب من لندن بعد إتمام رسالته وكأنه عائد لتوه من الكوفة قبل الف و ثلثمئة عام. ألف الدكتور علي الوردي مهزلة العقل البشري ووعاظ السلاطيين وأسطورة الأدب الرفيع. أفكاره كانت إبحار وسط أمواج متلاطمة تمثلها أفكار الذين يرفعون اللغة العربية وأدابها الي مصاف المقدس. حينها كان الدكتور عبدالله الطيب مهتم بالمرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها وأحد الذين يضعون اللغة العربية وآدابها في مصاف المقدس. فأمام المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها يقف الدكتور علي الوردي ويصيح بأعلى صوته أن اللغة العربية بميوعتها وأشعارها التي لا تحمل إلا المعاني العجاف, قد أصبحت سدا منيعا يقف في وجه تطور العرب. فعلوم النحو التي يمتلئ بها صدر الدكتور عبدالله الطيب علوم تقوم علي كذب البدو وأدت الي ميوعة اللغة العربية وجعلت أشعارها لا تحمل إلا المعاني العجاف. وجعلت من الذين يقدسونها يقدمون النتيجة علي السبب أي كمن يضعون العربة أمام الحصان. ويورد علي الوردي قصة الكسائي والأصفهاني والنحاه وجمع الشواهد الكاذبة التي كان يؤلفونها البدو بعد أن أصبحت لهم حرفة تقديم الشواهد. فكتابة النحو أدت الي جمود الفكر وميوعة اللغة. لذلك كانت دعوة علي الوردي لتيسير اللغة والإبتعاد عن التقعر في اللغة وإفتقاد المعنى في لف ودوران لافائدة منه, ولم ينتج منه إلا شعر رنان بمعان عجاف. ويدلل علي ذلك بأن ليس للعرب ملاحم ولاإلياذة لأن إهتمامهم بالنحو يقطع نفس الشاعر. فالشعر العربي يمجد الطغاة والظالميين كما هو ملئ بالشذوذ الجنسي والتغزل في الغلمان. يذكر علي الوردي أن اللغات التي تغلب علي أهلها الأمية كحال اللغة العربية تكون مثقلة بالنحو عكس اللغات التي تستخدم فيها الكتابة فنجدها تتخلص من مشكلة النحو. ويؤكد علي الوردي أن الإسلام حينما جاء قد حارب كل صور البداوة بما فيها من إندفاع عاطفة في الشعر الذي يمجد القوي ويحتقر الضعيف ويمتدح الطغاة والظالميين. وكذلك كان الإسلام ضد مافي مدنية مكة وجعلها اللغة العربية كأداة فرز طبقي ضد الأحابيش وفقراء قريش الذين لا يستطيعون أرسال أبناءهم الي البادية لتعلم لغة البدو. ففي أيام الرسول وفترة الرسالة أنقطعت عادة إرسال الأطفال لتعلم لغة البدو في المضارب. ولم تعد عادة إرسال الأطفال الي البادية إلا في عهد معاوية حيث أصبح إبنه يزيد مجيد للغة البادية وشاعر. فالإسلام كان ضد الشعر والشعراء لما فيه من تقديس لقيم الجاهلية التي تمجد القبلية وتنتصر للقوي ضد الضعيف. فعبدالله الطيب في إهتمامه في المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها كأنه يريد أن يخدم الأمة والتراث والدين بما حاربه الإسلام نفسه في صدر الإسلام أي كل صور وأشكال البداوة. وإذا نظرنا الي حالنا في السودان نجد أن الدكتور عبدالله الطيب قد لعب دورا محوريا في جعل الثقافة العربية مهيمنة علي بقية الثقافات الأخرى في السودان. وهذا يشابه حال مدنية مكة التي تنتصر لللغة كأداة فرز طبقي و شكل من أشكال البداوة التي حاربها الإسلام نفسه. وهيمنة اللغة والثقافة العربية جعل المجتمع السوداني في حالة إحتراب. وهيمنة البداوة علي العقل السوداني كذلك أدت الي إنفصال الجنوب. إن القيم والمفاهيم التي يخدمها عبدالله الطيب في إهتمامه بالتراث واللغة والدين هي مفاهيم سادت بعد الردة التي جاءت بعد عهد الرسول ودوره في محاربة البداوة التي يمجدها الدكتور عبدالله الطيب. وهنا يظهر المثل الذي قدمه علي الوردي عن اللغويين ومحبي الشعر العربي أمثال الدكتور عبداللة الطيب أن حالهم كمن يقدم النتيجة علي السبب. وكما يوضح علي الوردي أن الأغلبية مع رأي أمثال الدكتور عبدالله الطيب لأن هذا الخطاء قد مرت عليه قرون. ويحدد الدكتور علي الوردي فترة الإرتداد منذ موقعة الجمل التي لا يعطيها الدارسون أي أهمية. في رسالة الدكتور عبدالله الطيب لطه حسين عام 1954 ردا على إحدى رسائل عميد الأدب, يقول الدكتور عبدالله الطيب أنه قد إتخذ موقفه في أن يكون بجانب التراث والدين والأمة. وبهذا يكون الدكتور عبدالله الطيب قد قرر أن يخدم الإسلام والأمة بمفاهيم البداوة التي حاربها الإسلام نفسه. فمنهج عبدالله الطيب منهج يسبقه حسن النية الذي لا يكفي. وبهذا يكون عبدالله الطيب كمن يقدم سم للأمة زاعما أنه بلسما. فالبداوة التي يتغني بها الدكتور عبدالله الطيب نجدها مذمومة منذ عهد إبني أدم هابيل وقابيل حيث نجد أن قربان الفلاح قبل بينما رفض قربان الراعي كما يوردها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي. وفي قصة النبي يوسف حينما قابل إخوته بعد السجن, حمد الله الذي أخرجه من السجن وأخرج إخوته من البداوة. فكيف يتغنى الدكتور عبدالله الطيب بالبدوي وأخ الصحراء؟ بعد عدة رسائل من الدكتور عبدالله الطيب ووساطة أحدي أساتذة الدكتور عبدالله الطيب, كتب الدكتور طه حسين مقدمة المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها. ويري البعض أنه قد كان للدكتور طه حسين أملا في أن يكون عبدالله الطيب طه حسين السودان ويقوم بدراسات شبيهة بما قدمه طه حسين في دراساته التي أعمل فيها الشك. إلا أن رسالة عبدالله الطيب لطه حسين 1954 توضح أنه قد إتخذ موقفه في أن يقف بجانب التراث والدين والأمة. فعلي الوردي يعيب علي طه حسين تقديمه فكرة الإنتحال نفسها, بل و يراها فكرة غير صحيحة بالمرة. والصحيح أن الأسلام قد حارب الشعر الذي كان يجسد كل قيم البداوة وصورها. فعلي الوردي في كتابه أسطورة الأدب الرفيع يصف اللغة العربية بأنها لغة مائعة وبسبب تقعر النحاه قد أصبحت اللغة العربية عبئا ثقيلا يقف حائلا بين الأمة والتقدم. ويحدد الدكتور علي الوردي المكان وهي مدينة البصرة حيث إلتقاء الفرس بالعرب وخوف العرب علي بريق العربية وسخريتهم من الفرس ونطقهم للعربية, ومن هنا جاء الترهل وميوعة اللغة وتقعر النحاه وجمعهم االشواهد الكاذبة من البدو. ففي البصرة إزدهرت الترجمة وبرع ابن المقفع وظهر القياس بعد ترجمة أفكار أرسطو. وبسبب القياس الذي يهمل الشواهد الكاذبة, ظهرت مدرسة الكوفة التي ناصبت مدرسة البصرة العداء. و من هناك إنتشر تقعر النحاة وترهل اللغة الذي أصبح عبئا ثقيلا يحول ما بين العرب والتقدم كما أسلفنا. لذلك يرى علي الوردي أن زخارف اللغة نتيجة لفراغها من المعاني. لذلك أنتجت اللغة العربية شعرا يمجدالطغاة ويمدح الظالميين. وكما يقول علي الوردي أن اللغويين ومحبي الشعر العربي قد قدموا النتيجة علي السبب و هذا في حد ذاته مصيبة كبرى. وإذا دققت النظر تجد أن الدكتور عبدالله الطيب لا يتحرج في أن يكون في مجلس الدروس الحسنية في حضرة الملك الحسن ملك المغرب. ومعروف أن الملك الحسن كان قاسيا مع المعارضيين المغاربة بشكل يفوق التصور. ورغم ذلك لا يتحرج الدكتور عبدالله الطيب أن يكون في حلقات الدروس الحسنية. وبهذا ينطبق عليه عنوان كتاب الدكتور علي الوردي "وعاظ السلاطيين". والشعر العربي, كما يقول محبي الشعر, توراة العرب. أما علي الوردي فإنه يري في الشعر العربي جاهلية العرب التي ذمها الرسول الكريم في أحد الصحابة عندما سب صاحبي آخر يا إبن الأمة. و لذلك كان الإسلام ضد الشعر والشعراء و الجاهلية والبداوة التي يتغنى بها الدكتور عبدالله الطيب. يذكر فردريك نيتشة في كتابه ماوراء الخير والشر أنه كان الأفضل للعرب البداوة والجاهلية والحروب التي لا تحترم الضعيف وتنتصر للقوي بدلا من الإسلام. في فلسفة نيتشة " إرادة القوة" تكمن في الجاهلية و ليس في الإسلام الذي يدعو للمدنية. ففكرة فردريك نيتشة توضح أن الإسلام قد حارب البداوة والجاهلية والشعر. أما مناداة الدكتور عبدالله الطيب لقبر الزبير باشا أيام حرب الجنوب الأولي, والزبير تاجر رقيق, ألا تدل علي الجاهلية التي حاربها الإسلام؟ [email protected]