مداخلة تاريخية:الانتخابات البرلمانية في السودان (4-4) د. محمد سعيد القدال الانتخابات البرلمانية عام 1968 كان أهم تغيير في قانون الانتخابات الجديد إلغاء دوائر الخريجين. وبقيت القوانين الأخرى كما هي. واكتنفت الفترة صراعات حزبية. ورغم أنها صراعات مشروعة، إلا أنها فتت من عضد النظام البرلماني الذي لا يزال في حالة تكوين واستعادة قدراته بعد سنوات الدكتاتورية العسكرية. ثم برزت الدعوة للدستور الإسلامي. وكان الصراع السياسي في السودان علمانياً وليس فيه مجال للتلاعب بالدين في المعترك السياسي. فعندما عرض على لجنة الدستور عام 1957 اقتراح بأن تكون جمهورية السودان جمهورية إسلامية وأن يكون الدستور إسلامياً، سقط الاقتراح بأغلبية 21 صوتاً مقابل ثمانية أصوات. فجاءت مسودة دستور 1957 علمانية، ولكن انقلاب 1958 عطل المضي فيها. إلا أن تصاعد الصراع السياسي بعد ثورة أكتوبر، دفع بعض القوى السياسية للزج بالدين في ذلك الصراع. وشهدت الفترة التي سبقت إجراء الانتخابات بعض التحولات في الخريطة السياسية. فاندمج الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي في حزب واحد هو الحزب الاتحادي الديمقراطي. وانقسم حزب الأمة إلى جناحين هما جناح الإمام الهادي وجناح الصادق المهدي. وانقسم جماعة الإخوان المسلمين فظهر تنظيم جديد بزعامة حسن الترابي باسم جبهة الميثاق الإسلامي. وبقي الحزب الشيوعي متماسكاً رغم الصراع الذي كان يعتمل في داخله وأدى إلى انقسامه عام 1970. وكانت الأيادي الأجنبية تتدخل في السياسة السودانية بمختلف الأشكال. وفي هذا المناخ أجريت انتخابات عام 1968. أجريت الانتخابات في 218 دائرة، وشارك فيها 3 ملايين ناخب. وكانت النتيجة كما يلي: الاتحادي الديمقراطي 101، حزب الأمة بجناحيه 72، المستقلون 10 وأعلن أغلبهم فيما بعد انتماءهم الحزبي، الأحزاب الجنوبية 25، جبهة الميثاق 3، الحزب الشيوعي مقعدين. ولكن مقاعد الحزب الشيوعي لها دلالتها. فقد فاز عبد الخالق محجوب على مرشح الحزب الاتحادي أحمد زين العابدين في دائرة أم درمان الجنوبية وهي دائرة الرئيس إسماعيل الأزهري ومن أهم معاقل الحزب الوطني. وفاز الحاج عبد الرحمن عضو اللجنة المركزية للحزب في دائرة عطبرة التي لها وزنها العمالي المتميز. كما أن فوز المرشحين عن الحزب الشيوعي كان صفعة لقرار حل الحزب. كانت الأجواء التي أجريت فيها الانتخابات، والنتائج التي تمخضت عنها، والأزمة الاقتصادية التي خيمت على البلاد، والصراعات التي اكتنفت المسرح السياسي، كانت كلها هي المقدمة لانقلاب 25 مايو. فلم تكن الأغلبية البرلمانية كافية لحماية النظام الديمقراطي من تغول المؤسسة العسكرية، لأن استقرار النظام البرلماني ليس مجرد أغلبية برلمانية. وكانت تلك هي المرة الثانية التي يؤدي نظام الانتخابات الذي لا يقوم على دعائم راسخة إلى انقلاب عسكري، ولم تكن هي المرة الأخيرة. الانتخابات البرلمانية عام 1986 أجريت هذه الانتخابات بعد 17 عاما من غياب الديمقراطية. وإذا أضفنا إليها سنوات الحكم العسكري الأول الست، يكون السودان عاش بعد الاستقلال 23 عاما من الحكم العسكري مقابل 7 سنوات من الديمقراطية. وكانت تلك السنوات على قصرها مشحونة بالاضطراب السياسي وبقانون انتخابات غير سوي، مما يجعل منها فترة سلبية قريبة من الحكم العسكري. وأجريت الانتخابات بعد عام من الانتفاضة التي أطاحت بحكم الفرد. ولم يكن من طموحات الانتفاضة بحكم توازن القوى الذي حكم خطاها أن تصل نهايتها المنطقية وتصفي مؤسسات دولة حكم الفرد. بل إن الانتفاضة اختطفتها (hijacked) المؤسسة العسكرية التي كانت هي نفسها من ركائز النظام المايوي. كما أن الأحزاب الكبيرة وهي الأمة والاتحادي والجبهة الإسلامية، لم تكن من ركائز النظام المايوي المندحر فحسب، بل لم تكن شديدة الحرص على تصفية مؤسساته. وكان قانون تلك الانتخابات كسيحاً، وعارضته غالبية القوى السياسية. ورغم ذلك شاركت في الانتخابات لأن القوى السياسية لا تصارع في الظرف المثالي الذي تشتهيه، بل تناضل من أجل خلق ذلك الظرف المثالي الذي تشتهيه. وتدخل المجلس العسكري الانتقالي بكل ثقله ليخرج القانون الخاص بدوائر الخريجين ليتناسب مع تنظيم الجبهة الإسلامية. وقد سجلت ذلك في مقال بجريدة الميدان في 18 و20 أبريل 1986. وأجريت الانتخابات بعد أن استشرت الرأسمالية الطفيلية وانتفخت أوداجها خلال سنوات مايو. والذي يراجع الخريطة السياسية لتلك الانتخابات لن يغيب عنه طفح الطفيلية التي وزعت الأموال يمنة ويسرى في حزام الفقر. لقد ارتكب المجلس العسكري الانتقالي عدة جرائم نكراء في حق الحركة السياسية السودانية، لعل أكثرها بشاعة المناخ الكالح الذي أجريت فيه الانتخابات. بلغ عدد الدوائر 301 دائرة خصص منها 28 دائرة للخريجين. وامتدت فترة الاقتراع إلى 12 يوما. فصوت بعض الناس أكثر من مرة. وكانت نتيجة الانتخابات في عمومها متوقعة، ما عدا المقاعد التي حصلت عليها الجبهة الإسلامية والتي فاقت الخمسين مقعدا. ولكن الذي يتأمل في الواقع السياسي لن يجد في تلك النتيجة غرابة. ولكن الجبهة رغم تلك المقاعد التي حصلت عليها وأصبحت الحزب الثالث في البلاد، قامت بانقلاب عسكري واستولت على السلطة. فهل كانت النتيجة مقدمة للانقلاب أم النتيجة لم تكن تعكس الواقع السياسي فاستولت الجبهة على السلطة بالقوة وليس بالطريقة الديمقراطية؟ إن الحزب الذي يمتلك قاعدة جماهيرية عريضة سوف يعتمد على تلك القاعدة للوصول للحكم وليس على المؤسسة العسكرية. فكانت انتخابات 1986 المرة الثالثة التي تمهد فيها لانقلاب عسكري. فهل نحتاج لدرس ثالث أم كفانا ما تلقينا من دروس؟