الجيش يوضح بشأن حادثة بورتسودان    "ميتا" تهدد بوقف خدمات فيسبوك وإنستغرام في أكبر دولة إفريقية    بورتسودان وأهلها والمطار بخير    المريخ في لقاء الثأر أمام إنتر نواكشوط    قباني يقود المقدمة الحمراء    المريخ يفتقد خدمات الثنائي أمام الانتر    مليشيا الدعم السريع هي مليشيا إرهابية من أعلى قيادتها حتى آخر جندي    ضربات جوية ليلية مباغتة على مطار نيالا وأهداف أخرى داخل المدينة    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي القماش: أكذوبة تفريط عبد الناصر فى السودان
نشر في الراكوبة يوم 23 - 06 - 2013

مع إثارة قضية مياة النيل وجه العديد من الكتاب- وآخرهم فاروق جويدة - والأحزاب والجماعات المعادية للرئيس عبد الناصر - مثل الوفد والإخوان - الاتهامات لثورة يوليو بأنها ارتكبت أكبر الخطايا بفصل السودان عن مصر، وأن السودان انقسم نتيجة تقصير الرئيس عبد الناصر عند مطالبته بجلاء الإنجليزعن مصر، إذ أنه فرط فى السودان رغم أن الحكومات المتعاقبه قبل الثورة كانت تتممسك بوحدة مصر والسودان.
تماماً كما كان يروج لنفس المعنى بعض أنصار الحزب الوطنى البائد ظناً أن هذا يخفف من الهجوم على التقصير الذى تسبب فى انفصال جنوب السودان.
وللأسف يصدق ذلك بعض الشباب الذى لم يعش تلك الفترة، كما أنه بعيد تماماً عن القراءه الصحيحه للتاريخ الذى يتلاعب به البعض، ويضلل من أجل مكاسب حزبية ضيقة او لتصفية أحقاد، أو للمداهنة.
بدايه تاريخ مؤامرات الانفصال بين مصر والسودان ولدت قبل أن يولد عبد الناصر بسنوات طويلة، إذ بدأت المؤامرات باتفاقيه المستعمر الإنجليزى مع مصر عام 1899 بعد تمهيد وتربص منذ احتلال مصر عام 1882 وكان الموقع على معاهدة 1899 عن مصر بطرس غالى - وهو من أسوأ الشخصيات السياسية فى تاريخ مصر - ثم تأججت مع معاهدة 36 التى وقع عليها حكومة الوفد، أى قبل ثورة يوليو بنحو 16 عاماً.
فوحدة مصر والسودان لايختلف عليها أحد، فهى ولدت مع فجر التاريخ ومازال شاهداً عليها بالسودان معبد "صلب" الفرعونى بالقرب من الجندل أو الشلال الرابع، الذى أقامه سونسرت الثانى أعظم ملوك الفراعنة الذين اهتموا بالنيل، كما أقام بالقرب من المعبد مقياس للنيل عند بلدتى سمنه وقمنة - وكم طالبنا بحفاظ مصر على تلك الآثار وكان يأتينا الرد: "أننا لم ننته من الحفاظ على آثارنا بالداخل!!"
وظلت العلاقات المصريه القديمة مرتبطه بالسودان وبدول أفريقيا والنقوش المرسومة على جدران معبد حتشبسوت بالدير البحرى خير شاهد أيضاً، إذ امتدت علاقتها حتى بلاد بونت "الصومال حالياً" فضلاً عن لبنان وسوريا والعراق فى الشمال.
واستمرت هذه العلاقة الطيبة بالسودان طوال تاريخ مصر، وعندما جاء محمد على إلى مصر أدرك أهميه السودان فضمها الى مصر عام 1822 لتكون أرضاً واحدة وشعب واحد, وخشيت دول أوروبا من طموحاته وطموحات ابنه إبراهيم، وانتهى الأمر الى إقرار ملكه على مصر والسودان كإقليم واحد أو دولة واحدة فهذا أخف ضرراً عليها من فتوحاته التى شملت بلاد الحجاز بل وآثاره التى مازالت فى اليونان، وفى عهد الخديوي إسماعيل تزايدت أنشطة مصر فى السودان من إنشاء المدارس والمساجد والمرافق بل وصل الإعمار الى الصومال.
ولكن مع احتلال الإنجليز لمصر عام 1882 بدأ السعى الى تفتيت هذة الوحدة، الى أن تمكن المستعمر من فرض اتفاقية 1899 التى نصت على أن يتولى الإشراف على السودان ممثلاً لحاكم مصر وممثلا للأنجليز، وأن يرفع العلم الإنجليزى بجانب العلم المصرى، وسمح لمصر بتقديم معونات ماليه للسودان.. وإن كان هذا الحكم يتخذ شكلاً ثنائياً إلا أن الواقع هو انفراد إنجلترا بحكم السودان رغم رفع العلم المصرى بالسودان بل ورغم وجود قوات للجيش المصرى هناك.. وكان هذا منطقياً إذ أن مصر ذاتها كانت محتله من الانجليز.
وظل السودان يمثل شقاً أساسياً فى قضايا مصر الوطنية حتى أن سعد زغلول قال أن المفاوض الذى يفرط فى السودان كالشخص الذى يفرط فى عرضه، الى أن جاء مقتل السردار الإنجليزى السيرلي ستاك فصدر الإنذار الإنجليزى عام 1924 متمضناً عقوبات شديدة خاصة بنفوذ مصر فى السودان، وتعثرت المفاوضات المصرية مع الإنجليز بسبب تمسك مصر بوحدة السودان الى أن جاءت معاهده 1936، ليتفق الطرفان على الإدارة المستمدة من اتفاقية عام 1899 مع الاحتفاظ بمسألة السيادة المصرية الى مفاوضات مقبلة ( تعد معاهدة 1936 إحدى أبرز سقطات حكومة الوفد، ولذا كان رد الفعل إيجابياً عند إلغاء الاتفاقية عام 1951 ).
ورغم أن وحدة مصر والسودان ظلت - كما ذكرنا - هدفاً رئيسياً للحركة الوطنية حتى أن مصطفى النحاس أعلن مقولته: "تقطع يدي ولاتقطع السودان"، وفى نفس المعنى قال الأمير عمر طوسون - من الرعيل الأول للحركه الوطنية – " اذ لم نستعمر السودان فاليستعمرنا السودان .." إلا أن فكرة نزع الحكم المصرى عن السودان ظلت فى أجندة الإنجليز وذادت مع اتفاقية عام 1936 مع ميلاد عوامل أخرى.
فالواقع أن معاهده 1936أججت الشعور الوطنى لدى فصيل من العناصر المتعلمة فى السودان، إذ رأوا أنه يتم إغفال رأيهم، وسعوا لإثبات أنهم قوة إيجابية وعليهم العمل لسودنة السودان.. وظهر تأسيس نادى الخريجين وماتبعه من ظهور تيارات سودانية تدعو للإنفصال( كانت تعمل لتحقيق الهدف الإنجليزى بقصد أو بغير قصد)!.
فرغم إيمان غالبية الشعب السودانى بالوحدة وتشكلت أحزاب تدعو للاتحاد أهمها الحزب الاتحادى برئاسة إسماعيل الأزهرى، إلا أن حزب الأمة ومن يدينون بالزعامة الروحية لعبد الرحمن المهدى استجابوا لدعوة الانفصال.. وكان هذا أحد أهم المسامير فى نعش الوحدة إذ تبعته تيارات أخرى.
ولعب الاستعمار على مسألة الحكم الذاتى للسودان، ففى عام 1946 عقد إسماعيل صدقى اتفاقية مع الإنجليز والمعروفة باسم اتفاقية (صدقى - بيفن ) تضمنت فكرة الدفاع المشترك مع موافقة انجلترا على بقاء التاج المشترك لمصر والسودان.
ولأن الإنجليز كانوا يعرفون بضعف صدقى على المستوى الشعبى فكان تنازلهم بشأن التاج المصرى السودانى شكلياً حيث بقيت الأوضاع العملية والقانونية والدولية!
وقد حاول الإنجليز فرض هذا الواقع الانفصالى بشكل عملي عندما انتهت مدة عمل الشيخ حسن مأمون قاضى القضاه المصرى عام 1946 ،وكان مفترض تعيين مصري خلفاً له وفقا للاتفاقيات السابقة إلا أن الإنجليز فرضوا تعيين خلف سودانى له (رغم أن هذا المنصب يكاد أن يكون الصلة الإدارية الوحيدة لمصر بالسودان وقتذاك).. بل أنه فى العام التالى انتهت خدمه الحاكم العام البريطانى فى السودان فتم تعيين حاكم عام بريطانى آخر دون الإشاره فى المرسوم الى اتفاقيتى 1899 و 1936 وهو فارق شكلى ولكنه يحمل معنى.
وفى عام 1947توجه النقراشى على رأس وفد لعرض قضيه وادي النيل على مجلس الأمن، وفى الوقت الذى أرسل مندوبى الأحزاب الاتحادية السودانية لتأييد مطلب النقراشى فى الوحدة وأن يكون السودان تحت التاج المصري مع إجلاء الإنجليز من كل وادى النيل، وأن يقر الشعب وحده ذلك، أرسلت الأحزاب الاستقلالية الانفصالية وعلى رأسها وفد برئاسة الصديق المهدي لتوضح مطالبهم باستقلال السودان فصارت القضيه نحو الصدام، حيث قامت مظاهرات فى السودان تطالب بالوحدة، ولكن حدثت اعتقالات لعدد من النشطاء، وتوجه وفد من كبار المحاميين المصريين يتصدرهم أحمد حسين - زعيم مصر الفتاة - ومكرم عبيد وعبد الرحمن الرافعى إلا أن الانجليز منعوا البعثة من الطيران للخرطوم وهو ما أحدث اضطراب عام للمحاميين فى مصر.
ولكن فى النهاية كان الموقف فى مجلس الأمن ضد مصر بقيادة الدول الاستعماريه انجلترا (المستعمر) وفرنسا التى كانت تخشى أن يمتد تأثير مطالب الاستقلال عن المحتل الى دول المغرب العربي, وأمريكا التي كانت تطلع لأن تتسلم راية الهيمنة والاحتلال مكان إنجلترا.
وهنا تبرز ملاحظة عن نزاع وفكر حزبى ضيق الأفق بين الوفد والنقراشى كان يجب الترفع عليه، إذ أرسل الوفد وزعيمه مصطفى النحاس إلى مجلس الأمن ببرقية أعلن فيها أن الحكومة المصرية التى رفعت دعوة مصر أمام المجلس لاتمثل شعب وداى النيل الذى تؤيد أغلبيته الساحقة الوفد (!!) بينما دافع سراج الدين "وقتذاك" عن موقف الوفد إذ ألقى باللوم على النقراشى لأن تغيير الإنجليز للحاكم المصرى بعد انتهاء مدته لحكم سوداني كان يستوجب على النقراشى أن يستصدر قراراً بعزل الحاكم العام البريطاني فى السودان لأنه يعين بقرار مصري طبقا للإتفاقيات المعقودة (وهكذا علت الصراعات الحزبية فوق المصلحة القومية)،
وفى كل الأحول ورغم قوة حجج مصر إلا أن مجلس الأمن امتنع عن صدور قرار واتخذ موقفا سلبياً.
وبينما اعتبرت مصر يوم 19 يناير 1947 (ذكرى توقيع معاهده 1899 ) يوم حداد كان تصعيد الإنجليز من تنفير الشعب السودانى وبث روح الانفصال، واستجاب حزب الأمة بإلغاء الاحتفال بعيد الفاروق والمطالبه بعلم وعملة خاصيين بالسودان ليؤكد ترسيخ روح الإنفصال.
وفى عام 1951 أعلن الحاكم العام الإنجليزي بالسودان مشروعاً لدستور جديد يمنح السودان الحكم الذاتي حتى يستطيع تقرير مصيره طبقاً لمبادىء الأمم المتحدة، ورغم معارضة حكومة الوفد بل ومصر كلها إلا أن ماحدث على أرض الواقع من تصرف وزير الخارجية المصرية بلغه الرهان والمقامرة والتحدى إذ سافر د. محمد صلاح للموافقة والتحدى.. وحاولت حكومة الوفد تدارك الخطر والتحدى غير المضمون لعوامل عديدة إلا أن مؤامرة الإنجليز والملك فى حريق القاهرة وقعت، وأقيلت حكومة الوفد دون تحقيق هدف وحدة السودان.
كان هذا هو الإرث والملف الذى تسلمته ثورة يوليو عن وحدة مصر بما له وما عليه، من شعور رسمى وشعبى بضرورة استمرار الوحدة من جانب.. ومن جانب آخر واقع عملى بمعاهادت واتفاقيات استمرت لعقود وظهور فصيل سودانى يطالب بالانفصال واستمرت مطالبته 16 سنة متواصلة ( من 1936 حتى الثورة عام 1952 ).
تسلمت الثورة هذا الملف والإرث، وكان لابد أن تجري مفاوضات الجلاء، وأوكلت ملف المفاوضات من أجل الوحدة مع السودان وفداً برئاسة محمد نجيب وعضوية عبد الحكيم عامر وصلاح سالم وعبد اللطيف البغدادى ومحمود فوزى وسعت اللجنة لمحور الكسب والتأييد الشعبى من السودان، إذ أن محمد نجيب كانت تربطه علاقات طيبة بزعماء السودان على كافة مشاربهم، فقد كان ينحدر من أصل سودانى وولد بالسودان وكان محبوباً من السودانين.. كما أن صلاح سالم ولد بالسودان عندما كان والده موظفاً هناك.
وأجرى نجيب اتصالات بالسودانين لتحفيزهم على الوحدة, وسافر صلاح سالم إلى جنوب السودان وشاركهم فى الرقصة التى يؤدونها لاستقبال الضيوف، ومنحت الثورة الأموال للسودان بسخاء، ورغم هذا لم تتحقق الوحدة ونجحت إنجلترا ودعاة الانفصال فى السودان إلى فصل السودان عن مصر.
وفى تقديرنا أن الوضع فى السودان فى هذة الفترة تأثر أيضاً بأزمة عبد الناصر مع محمد نجيب عندما انحاز الأخير للإخوان المسلمين -والذين كانوا يسعون لخطف الثورة - وحدثت الأزمة المعروفة باسم أزمة الديموقراطية - مارس 1954 وتم عزل محمد نجيب والذى كان ارتباط السودانين بشخصيته يفوق الحد.
ولكن لم يكن هذا السبب فقط فى عدم نجاح الوحدة، بل الدسائس الإنجليزية والأهم هم دعاة الانفصال فى السودان سبب الفشل.
فحتى الحزب الاتحادى برئاسه إسماعيل الأزهري سار هو الآخر ليؤيد الانفصال.
وطرحت الثورة القضية بشكل جديد على أساس تمكين السودانين من ممارسة الحكم الذاتى الكامل وتهيئة الأجواء لتقرير مصيره, وإسقاط هدف بريطانيا بربط السودان بها وهذه أقل الخسائر.
وفى النهاية تم جلاء الجيش الإنجليزى عن مصر فى يونيو 1955 وإعلان قيام جمهورية السودان فى ديسيمبر من نفس العام.
ورغم هذا الانفصال ظلت الروابط بين مصر والسودان فى عهد الرئيس عبد الناصر تفوق كل تصور وتؤكد الوحدة بين الشعبين, وكان التعاون المصرى السودانى خاصة فى مجالات الري والتعليم والتبادل التجاري وغيرها متميزاً.. ويؤكد اعتزاز السودان بعبد الناصر ويشهد على ذلك الاستقبال الأسطورى له حتى فى أعقاب هزيمة 1967.
أما ما يقوله بعض أنصار الوفد من تفريط الثورة فى وحدة مصر والسودان، فهم يسوقون حججاً واهية مردود عليها.
إذ يقولون أن عبد الناصر دخل فى مفاوضات مع الإنجليز رغم أن الوفد كان انتهى قبيل الثورة إلى رفض أى تفاوض مع الإنجليز حتى بعد الجلاء، وهى أقوال عجيبة إذ أنه ضرب من الخيال أن يخرج محتل دون أى تفاوض.. وبمفهوم المخالفة يتصور الوفد أنه لو استمر فى الحكم ولم تقم الثورة لخرج الإنجليز دون أى تفاوض!
وحتى مع هذا التصور أو التخيل فإن الملك كان سيظل باقياً وهو مرتبط بالإنجليز والوفد مؤيداً للملك.. كما أن طبيعة الوفد فى الحفاظ على الشكلية القانونية والدستورية تغلبت على ثوريته وأبعدت الخط الثورى عنه وهو ماحدث مع بدايه استبعاد الخط الثوري الذى كان يمثله عبد الرحمن فهمى عام 1919
ثم أين كان الوفد طوال 39 عاماً (من 1919 حتى 1952 ) وهو يحكم مصر معظم هذة الفترات دون أن يحقق الوحدة بين مصر والسودان دون مشاركة المستعمر الإنجليزى ؟.. وهل الثورة هى التى وضعت اتفاقية 1936 والتى بدأ على آثارها دعوة حزب الأمة السودانى للإنفصال ؟!.
الاتهام الآخر من الوفد للثورة هو أن الوفد الذى شكلته الثورة فى ملف السودان ( نجيب وسالم وعامر والبغدادى وفوزي) من العسكريين وكانت تنقصهم الخبرة .. فإذا كانت الخبرة قاصرة على الوفد فلماذا لم يحققوا الهدف طوال نحو 40 عاما ؟!.
هذا ومع إهمال السودان فى عهد السادات ثم خطايا عهد مبارك وحزبه كان طبيعياً أن يصل الأمر الى انقسام أو تفتيت السودان إلى دولتين بل هناك مخاطر لتفتيت دارفور.
فالتاريخ يؤكد على أن انهيار ترابط مصر بالسودان بدأ منذ عهد السادات وبالتحديد عام 1978 بتوقيع اتفاقيه كامب ديفيد" المشئومة" التى فرطت العقد العربى كله والذى كان مؤيداً للوحدة على راس الثوابت العربية - ومنها السودان الذى هو ضد اسرائيل - وهاهو التاريخ يثبت الخبث والعداء الصهيونى حتى مع توقيع الاتفاقيه "المشؤمة".
كما أن السادات أعلن قراره بتحويل نهر النيل إلى إسرائيل عام 1979 دون مشورة شريكه الأساسى فى النيل وهو السودان، ويضاف الى ذلك عداء السادات لأثيوبيا،علماً بأن الرئيس عبد الناصر كان فى مودة مع أثيوبيا وكافة الدول الأفريقية، وتجدر الإشارة الى الحنكة السياسية فى استضافة عبد الناصر لإمبراطور الحبشه هيلا سلاسى فى افتتاح الكاتدرائية بالعباسيه فى مصر ليؤكد على ترابط المسلمين والأقباط فى مصر وترابط وادى النيل.
وبسبب ارتماء السادات فى أحضان السياسة الإسرائيلية غزت اسرائيل معظم دول أفريقيا وعلى رأسها دول حوض النيل، ولم يكن لها مكان فى كل أفريقيا من قبل، عدا جنوب أفريقيا فى زمن التماثل معها فى العنصرية.
وغزت إسرائيل أيضاً دول آسيا وشرق أوروبا وكان ردهم طبيعياً لن نكون ملكيون أكثر من الملك!
وفى عهد مبارك خاصة فى التسعينيات بالوصف الدائم للسودان بإيواء الإرهاب وإعداد معسكرات للإرهابين, وغيرها من التصريحات العدائية التى جاءت غطاءاً لأمريكا لضرب مصنع الدواء بدعوى أنه يصنع مواداً كيماوية للإرهابين وهو مااتضح أنه على عكس الحقيقة.
وتجدر الإشارة الى أن ماكانت تقوم به إسرائيل فى جنوب السودان ودول حوض النيل لم يكن سراً وكان واضحاً وضوح العيان.
وللأسف كان حال الأحزاب المصرية أقل من المستوى المطلوب مابين "بوتيكات" صفوت الشريف المشغولة بنفاق الحزب الحاكم من أجل أن ينالوا الرضاء وفتات الغنائم وبين أحزاب شامتة نكاية فى حكومة السودان بدعوى انها كانت تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، وكان حزب العمل أكثر الأحزاب المتواجدة على الساحة السودانية إلا أنه كان مؤيداً لسياسة الترابى فى تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو أمر كان يصعب تحقيقه خاصه مع وجود أعداد كبيرة من المسيحيين والوثنيين فى الجنوب، إضافة إلى التغيرات الدولية وغيرها، وكانت الحكمة تتطلب تأييد المبادىء الإسلامية خاصة فى مجال العدالة الاجتماعية.. ويحسب لحزب العمل ماقام به رئيسه المهندس إبراهيم شكرى - رحمه الله - اذ ترجم التعاون مع السودان الى واقع فاستزرع خمسه آلاف فدان، وأنشأ شركة زراعية، ورغم هذا لاقى وقتها هجوماً داخل مجلس الشعب المصرى من بعض "الفسلات" الذين نجحوا بالتزوير ونالوا عضوية البرلمان، رغم أن شكري كان عضواً بالرلمان وهم يرتدون "الكافوله والبراباتوز" وأن شكري قدم للوطن مالم يقدموه أو حتى يحلموا بتقديمه.. ورد شكري عليهم بأن ماقام به تم بموافقات رسمية من الدولة وأنه فى النهاية يصب لصالح الوطن ،فقد كان أبعد نظراً وأثقب بصيرة وهاهو محل الترحم على وطنيته وهم فى مزبلة التاريخ.
وحتى الدور الثقافى الذى كان يمكن أن يلعب ضد توجهات الانفصال غاب تماماً.
ومثل الحزب الوطنى البائد فى مصر كانت النظم العربية التى لم تحرك ساكناً من باب تصفية الحسابات مع النظام السودانى، بل أن بعضها ساند الحركة الشعبيه لتحرير السودان وبعد الانفصال صار البكاء على اللبن المسكوب وهاهو "يندلق " فى الصومال واليمن وغيرهما بعد أن تصفى تماماً فى العراق.
والسؤال هو: لماذا لم يذهب المصريون للاستثمار فى جنوب السودان والدول الأفريقية والتعاون معهم بدلاً من ترك الأمر لإسرائيل والصين وأمريكا ؟!
ان الدبلوماسية فى عهد عبد الناصر لم تسقط فى امتحان السودان بل هى سقطت فى عصر السادات وفى عهد مبارك، ومازال العهد الحالى فى محك الاختبار.
وفى كل الأحوال فإن الترابط المصرى السوداني منذ عهد سونسرت الثانى مروراً بالأسرة ال18 اعتبرت السودان أرضاً مصرية وشعباً واحداً، وهو أمر مختلف تماماً عن أن تستعمر مصر السودان أو تستغله وهو معنى يجب تعميقه ويستوجب استدراك مايمكن إدراكه.
ترى هل يراجع بعض الكتاب قراءة التاريخ أو فهمه لوجه الله والوطن بعيداً عن الجهل أو تصفية الحسابات ؟.
الموجز


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.