عفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المرتد عبد الله بن أبي السرح وقتل المرتد ابن الأخطل، برغم كل التوسل، لأن الأخير كان قد قتل نفسا، بينما عبدالله لم يقتل أحدا، وليس لشفاعة أخيه في الرضاعة عثمان رضي الله عنه فحسب. وهذا هو الفرق الجوهري الذي يجب ان ننتبه له. والمرتدون لم يكونوا هؤلاء فقط؟، بل كان هناك الكثير ممن إرتد ولكنه لم يعادي ويسب ويحرف ويقتل. وكان هنالك المنافقون الذين هم أخطر من المرتدين الصرحاء والذين كانوا يعملون على هدم الإسلام من الداخل. فلم يأمر رسول الله بقتلهم، لأنهم لم يقتلوا صراحة أحدا رغم كل تآمراتهم. وإذا كان هذا في حياة رسول الله، فماذا بعده. فبعد إنتقاله صلى الله عليه وآله وسلم للرفيق الأعلى، بدأ عداء الذين أسلموا بأفواههم ولما يدخل الإيمان في قلوبهم يظهر علانية. وكانت لديهم أحقاد وثأرات مترسبة دواخلهم تود القضاء علي المسلمين. وسار الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم على نهجه صلى الله عليه وآله وسلم ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين)) [البقرة: 190]، ((والحرمات قصاص، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)) [البقرة: 194]. فلم يقيسوا إعتباطا ولم يعتدوا على أحد، إلا بعدما تحالف المرتدون والمنافقون صراحة مع المعتدين الذين يريدون القضاء على المسلمين. فلذلك من غير المعقول وعدم العدل والإنصاف أن ندعي بأن حد الردة على المرتدين هو ما أسهم في بقاء الإسلام. فالإسلام دين جاء بالحرية للناس جميعا ليختاروا على طبيعتهم دين الفطرة. والدين عند الله الإسلام، والله هو الحافظ لدينه سبحانه. فالإسلام أطهر وأنقى وأشرف من أن يمس بدنس أي منافق أو أيا من يرتد، كما يقول الحديث القدسي: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا). وهناك الكثير من الآيات مكية كانت أم مدنية تؤكد حرية الإختيار. وذكرت لك مكية ومدنية لأن الإسلام من الوهلة الأولى لم يجبر أحدا عليه. من ((قل يا أيها الكافرون... لكم دينكم ولي دين))، مرورا ب ((فمن شاء فاليؤمن ومن شاء فاليكفر))، إلى ((لا إكراه في الدين)). فكلها تؤكد حرية الإعتقاد والإختيار. وآية ((لا إكراه في الدين)) بالذات تؤكد انك لا يمكن ان تكرهني على الدين، فقد تبين الرشد من الغي، ((فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد إستمسك بالعروة والوثقى لا إنفصام لها)) [البقرة: 256]. أي من يختار بكامل إرادته وحر إختياره الإيمان بالله وحده، سيكون معافى من اي إنفصام. ولكن من يكون مكرها فسيكون في لب حالة إنفصام داخلي أو حالة شيزوفرينيا، كما يسميها علماء النفس. و لن يتمكن بالإكراه الإستمساك بالعروة الوثقى، وهي الدين و الإيمان بالله. وهناك عشرات الآيات تقرر حرية الإختيار مقابل حديث واحد: (من بدل دينه فأقتلوه). فلربما يكون هناك مناسبة مخصصة ذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث. فلا يمكن أن يكون قالها صلى الله عليه وآله وسلم تعميما ليخالف أيات الله مخالفة صريحة في حرية الإختيار. و آيات كتاب الله نفسها لا يمكن ان نعممها على جميع حياتنا. فمثلا و ((لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى))، والخمر أساسا محرم. بالتالي لا يمكننا تعميم الأحاديث في كل المناسبات. وحتى أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تناقض تماما ما يزعم أنه يقتل من يرتد. فكما ذكرنا، كان هناك كثير ممن إرتد. فمنهم من جهر بردته ومنهم من عاش منافقا معه، وهم بالأحرى مرتدون. والقرآن يؤكد ذلك. لذلك فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث فإنما قاله في وقت محدد ومعين. والتبديل درجة من التغيير لا يمكن ان يحددها إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليأتي أحدهم اليوم ويقول هذا مرتد وهذا كافر. ولذلك حدد رسول الله أسامي بعينها إرتدت من القاتلين والمؤذيين و المعتدين منهم، ولم يبيح قتل كل المرتدين. فعند فتح مكة تركهم أحرارا وقال لهم مع المشركين: (إذهبوا فأنتم الطلقاء)، ولكم دينكم ولي دين. والتبديل يمكن ان يأتى بمعنى التحريف وليس الردة أو التخلى عن الدين. كما في الآيات ((لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم)) [يونس: 64]، ((لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)) [الروم: 30]، ((ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)) [فاطر: 43]. وسنة الله هي فطرة الله- هو دينه الذي لا يستطيع تبديله أحد- التي فطر الناس عليها والتي لن يصلها أحد إلا بالحرية. وكما في الحديث الشريف: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)، ولم يقل صلى الله عليه وآله وسلم يأسلمانه، لماذا؟. لأن الإسلام هو الفطرة. والإنسان لا يصل للفطرة إلا بالحرية. ولو ترك هؤلاء بحريتهم لأختاروا الإسلام قطعا. فنحن ولدنا على الفطرة و بالتاثير البيئي، ومجازا يمكن ان نقول أبوانا أسلمانا او تأسلمنا. وهذا من بختنا أن الحظ ساعدنا لأن نكون في هذه البيئة ونكون في نصف الطريق. ولكن يجب علينا أيضا الوصول للإسلام بفطرتنا وترك الأسلمة أو التأسلم. ولا يمكن أن نبلغ ذلك إلا "بلا إكراه في الدين" و بحرية الإختيار. عبارة القرضاوي الخاطئة 100%..(3) النفس بالنفس.. وإذا رجعنا إلى كلمة حدود والتي تعني limits، ومفردها حد وهي الفواصل التي تحيط بك. ومفهوم الحرية هو أن تلتزم بحدودك في إختياراتك ولا تتعدى على حدود غيرك. أي إحترام كل للآخر. وتجاوز حدودك أو عدم تجاوزها ترجع إليك في النهاية. ولكن عند تجاوزها قد تكون إعتديت على حد غيرك، وهنا لابد من عقوبة لتلتزم بحدك. ولذلك يجب أن لا نخلط بين الحدود والقوبات. فالحدود هي ليست العقوبات. والحد ليس العقاب، بل هو الحد الفاصل بين ما حرمه الله عليك وأحله لك. ((تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون)) [البقرة: 187]، وفي هذه الآية بيان للمتقين. ((تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)) [البقرة: 229]، وفي هذه نذير للمتعدين. والحد ما يجب ان تراعيه أنت بحريتك وبحسب تقواك وهذا بينك وبين الله تعالى. فهناك حدود كثيرة أنت فيها رقيب على نفسك لا أحد سواك، وليس لها عقاب أحد عليك (دنيوي)، من غض البصر، و ك ((ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد))، والتعامل مع المطلقة. لذلك يمكن أن يخرق المسلم كثير من حدود الله، التي لا يعرفها أحد عنه إذا كان لا يتقي الله. ولا جدوى من تطبيق العقاب إذا لم يطبق أحد الحدود على نفسه. فالحدود التي وضعها القرآن العظيم هي الخلق القويم الذي إذا سرت عليه تكون سرت بالشريعة. أما العقوبات الظاهرة فهي ما أثبته المؤمنون عليك في تعدي جرم ظاهر بغرض التطهير من الذنب في الدنيا قبل الآخرة، وضمان حياة الأمان للجميع، وليس للتشفي والإنتقام. و العقوبات المذكورة في القرآن صراحة هي لخمسة حدود فقط: القتل، الحرابة، الزنا، السرقة، القذف، وكلها تؤكد عدم التعدي على الحريات. وإذا تفكرنا وعقلنا نجد ان إكراه الناس في الدين حد أيضا لا يجب أن يتعداه المتمسك بالشريعة. ((أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)) [يونس: 99]. وهذا ما يمكن ان نسميه حد حرية الإيمان. ولا أريد أن أسرح لك بعيدا بالحديث عن العقوبات، ولكن لا يمكن تنفيذ عقوبة القتل للنناقض حد حرية الإيمان أو حرية الإختيار، ونقتل إنسانا ونفسا لذلك. والله سبحانه وتعالى يقولها واضحة وضوح الشمس في كتابه العزيز: ((من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكانما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكانما أحيا الناس جميعا)) [المائدة: 32]. وضع مليون خط تحت "بغير نفس". فهذه النفس، أي نفس- مسلمة، كافرة، منافقة، مرتدة- خلقها الله حرة في إختيارها ولا يجوز أصلا قتلها تحت أي ظرف، إلا في حالة قتلها نفس أخرى أو الفساد في الأرض ومعناها هنا الحرابة، وهي أيضا قتل عصابة لجماعات من الناس. فلا وجود للقتل إلا قتل النفس بالنفس وكفى. والله سبحانه وتعالى يعظم ويعز نفس الإنسان البشرية الواحدة بأن قتلها يمثل قتل جميع الناس، أي فناء الأرض، وبالمقابل يفتح باب الحياة مقابل الحياة، ليكون أي إنسان حر على امل أن يصل بالفطرة إلى دين الله. ويقول الله تعالى: ((ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)) [الأنعام: 151]. وجاءت كلمة الحق معرفة بالألف واللام بالضرورة للتأكيد إن كان هناك من الأساس حق يستدعي قتلها، أو بغير الحق الذي يستوجب للقتل في هذا الامر، وهذا الحق فقط هو أن تكون قد قتلت نفسا أخرى؛ كما في الآية ((من قتل نفسا بغير نفس)). فالله سبحانه عدل مطلق. شئ مقابل شئ. ((وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والسن بالسن والجروح قصاص)) [المائدة: 45]. فهو قد كتب، ولا يجوز لنا ان نمحو ونستهين ونستهون. و هو الذي وهب الحياة وقسم الناس فمنهم كافر ومنهم مؤمن. وهو تبارك وتعالى يريد بأن لا يكون فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، كما إستفهمت الملائكة عليهم السلام. ولكن هناك أناس حريصون بأوهى الأسباب واهونها لهدر الدماء وقتل البشر مما ينفر من دين الله البعض فيشكك إيمان المستمسكين بعروته الوثقى، ويصد كثير من خلق الله الذي يريدون التعرف على دين فطرتهم. وشيخنا القرضاوي يعلم تماما ان النفوس معصومة بالضرورة لا تستباح حرمتها ولا تضع عصمتها. وعليك أن تتذكر بأن عبارة القرضاوي "لولا حد الردة لما بقي الإسلام"، عبارة غير صحيحة تماما، فدين الله باق وسائد، من دون رجال دين ولا تجار ولا سياسيون إسلاميون. ولا يصح إلا الصحيح، "فلولا حد حرية الإيمان، لما سيستمر إنتشار الإسلام". ((ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا)) [النساء: 66]. صدق الله العظيم. [email protected]