مارشال المديرية رحم الله العم مختار، مارشال المديرية. كان يُهيمن بوجوده الطاغي على وسط الخرطوم بين شارع الجامعة وشارع البلدية حينما كان للمدينة قلب نابض مركزه "المحطة الوسطى" وسوق الخضر واللحوم الذي محوه من الوجود وأنبتوا مكانه مسخا من الزجاج والالمنيوم أسموه "واحة" وهو بلقع لا روح له، ولا فائدة منه. وكان المارشال شخصية "قومية" يعرفها الجميع، تُفتح له الأبواب، وخصصت له مديرية الخرطوم مكتبا دائما في رئاستها التي يحتلها الآن مجلس الوزراء. وكان المارشال رجلا هادئا مؤدبا نظيف البدن والثياب دائما. يلبس زيا عسكريا كاملا، تُزين صدره أوسمة ونياشين من معارك لا ندري أين حدثت وفي أي الحروب. وكان المارشال مجهول المنشأ والأصل، مُنبتا، آواه حتى مماته الشيخ عبدالرحمن أحمد، رحمه الله، عمدة بري المحس. ويُقال أن العمدة سئل بعد وفاة المارشال عن أصله فقال أنه لم يسأله قط عن ذلك، فتأمل! ورغم أن البعض كان يُشكك في سلامة عقل المارشال إلا أنني أعتقد أنه كان أعقل من الكثيرين من حوله. ترك لنا حين مات حكمته الخالدة التي كان يرددها دائما: "الأمور أصبحت غير مُدركة!" وما مدّ الله في أيامه ليرى كم ستصير غير مُدركة! (الفتّة أم شطّة!) في صغرنا، كانوا يقتادوننا من خلوة الفكي عبد الوهاب رحمه الله، في نوري، لبيوت المآتم في يوم "الصدقة"، لنقرأ ما تيسر من آي الذكر الحكيم على روح الفقيد، وننتظر في لهفة قدح "الفتّة" تعلوه قطع من اللحم أيّان كان اللحم عزيزا نراه (ونشتمّه ونأكله في وجد) يومين في الأسبوع هي أيام السوق. وحين كبرنا قليلا، كنا ننشد "الفتّة أم شطة، حمتني النَطّة"، ثم دار الزمان دورته، واصبح اللحم متوفرا طوال أيام الأسبوع، ليلا ونهارا، ولكن لا سبيل إليه لارتفاع سعره فوق طاقة السواد الأعظم، وأصبحت الفتّة (في غير بيوت المآتم) تخلو من اللحم بعد أن حلّ الفول المصري، ببروتينه النباتي محل اللحم. يصنعونها الآن من "مرقة" الفول في اقداح مهولة ويُسمونها "البوش". ولعل الصبية يُنشدون الآن "البوش أبو شطة، حماني النَطّة"! ويلعبون "كديس من نطاك"، و"أرنب نُط" التي أصبحت لاحقا إضافة سودانية في "ريبيتوار" التعذيب. ولعلنا كنا نتهيئ كل هذه السنوات للوثوب دون أن ندري! ربع قرن من المشروع، إلى النفرة، إلى النهضة، إلى "النقزة"، إلى "العَرضة"، إلى "البطبطة"، إلى التهيؤ، ثم إلى الوثبة ودق العنق! دعاء الوثبة اللهم اجعل في وثبتنا هذه "اندغاما متسامحاً واعياً"، "غير منتحلٍ أو مستوهبٍ من الأباعد أو موروثٍ عن كلالة، أو مستلهم من غير الولاء للوطن"، "أو مُذعن لليأس المُفضي إلى التعلق بضعيفات العُرى"، وجنّبنا "التردد في الريّب، والاستسلام إما لليأس، أو لبطر الحق وغمط الناس"؛ وهَبنا "تمهلا في الوثوب إلى غمار هذه المرحلة الجديدة" "لا يحيل هذه الطاقة الكامنة للوثوب إلى طاقة غير مُسددة"، وسدد خطانا نحو "اجتراح وثبة تضع أهدافها عند منتهى نظرها، لا تحت الأقدام"، "قاصدة ثم بالغة ان شاء الله مقاصدها"، إذ لن يكون "انطلاق وطني وهُمام ممكنا بدونها". اللهم إنك تعلم أن "تقبّض أعضاء الجسم الوطني"، "انتظاراً وترقباً"، جاء "ترويضاً للذوات الناشطة كلها"، و"تسليكاً لقنوات الولاءات الجزئية"، وأن "فقر المجتمع السوداني بالمقياس المطلق، ليس أشد من فقر الماضي، ولكنه بمقياس مستوى المعيشة الراهن والمأمول أظهر". وأن "الانخراط في هذه السيرورة" صعب، و"الانخراط في السيرورتين معا مستحيل في المنطق"، وهو أمر "لا يُصار إليه إلا بعد انسداد السبل إلا منه". اللهم إنك تعلم أنه "على كريم صفات السودانيين يكون التعويل"، فاجعلنا أمة "تحترم أبعاضها" و"تتوحد بهم"، ولا تجعل مبلغ همنا "اعفاء ديننا السيادي ورفع عقوبات جائرة"، واجعل هذا البلد، وسائر بلاد المسلمين، سخاءً رخاءً، وأعِنّا على "استفراغ الطاقة" "في جعله منصة للوثوب"، "يدعو السودانيين للتهيؤ، دون أن يحتكم لحكم المشروطية". واجعل وثوبنا "اصطفافا" لا "يعصف بالوعد الحسن الكامن فيه"، لأن "الإخلاد إلى الأرض يحيل صاحبه الى مثل ردئ"، ويجب ان "يتناول ذلك بالنظر الملي، كل ناسنا، لا فقط فلاسفتنا أو مثقفونا"، بل "الناس، كل الناس". اللهم أنصرنا على "الفعلة السياسيين" الذين "يترددون في الريّب، والذين يستقيلون عن فرصتهم في رفد المناظرة الوطنية برؤاهم"، والذين يعلمون أن هذه "الدعوة إلى التعاقد على الوثوب إلى الأمام تكون ناقضة لنجاعتها"، و"فاقدة لانفساح افاق التهيؤ والإقبال عليه"، إذ أنه "بفهمها يتعاظم ويتسدد تفاعلنا المكتوب" الذي لا يستدعي "كثير شحذٍ عند تعيّنه". واكفِنا شرور المتقعرين والمتحذلقين والمتنطعين، أما أصحاب ا"لأحابيل"، وأصحاب الأجندة الخفية، وأذناب الاستعمار والصهيونية، والطابور الخامس، فأنا وحدي كفيل بهم. وآخر دعوانا الحمد لله على ما تصدح به مآذن السودان وغيره كل جمعة من دعوات: اللهم لا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، وجنبنا مزالق التقعر والتنطع والإفك المتدثر بالفصاحة فهي "منعطفة على بعضها متداخلة"، إنك سميع مجيب. == [email protected]