-1- أمضى عبدالله ود همام ومن رافقه إلى غابة النخيل ذلك الصباح من الجمعة وكل الضحوية فى حصاد تمر البركاوى والقنديلة والجاو، ظل يراقب حش التمر ولقيطه طوال الضحوية إلى أن جمع محصوله فى أكياس وشوالات حملها الصبايا بحميرهم إلى داره، عبدالله محمد همام...!! هكذا هو الأسم الذى حمله ولم يستخدمه طيلة حياته المديدة إلا فى قسيمة زواجه من مريم بت عبدالله سالم، فمنذ الصغر عرفناه وكل أهل البلد والذين قبلنا آباءا وأجدادا وحبوبات بكنيته الشهيرة "المدير"، وإستمر أبنائه من بعده يحملون ذات الكنية وهكذا لن تجد بين أبنائه غير أسمائهم التى لصقت بلقب المدير...!! هكذا عرفهم الناس أما أسمائهم الحقيقية فلن تعرفها إلا إذا إطلعت على أوراقهم الثبوتية وقسائم زواجهم تماما مثل أبيهم ومديرهم الكبير. ولست أدرى من أين جاءت كنية المدير وصفة الأدارة..؟ ولكنى قطعا سأجزم من سنوات الطفولة والصبا القليلة التى عشناها فى كنف حياته، إنه رجل حمل الكنية من طبعه وخلقه وإحترامه لنفسه وأهله وجيرانه وكل أهل البلد بأرقو، رجل أحب الناس فأحبوه، باسم الوجه مقبلا على الدنيا بصدر رحب وقلب عطوف، ضاحكا هاشا باشا ذو نكتة بديهية وحديث آت من عبق الزمن الجميل، رجل قمحى اللون طويل القامة كملائكة السماء، حباه الله بعزيمة لا تفتر وحراك دؤوب، فلم ينحنى ظهره رغم تقادم العمر به ولم أرى شعرا قد تساقط من رأسه سوى تحوله لأبيض كثيف بفعل الزمن...!! إهتم بعمله وزراعته ونخيله وحقوق الناس معه فكسب إحترام الجميع من حوله، وتشهد النبقة الكبيرة والنيمة العتيقة أمام الدار على كرمه وحبه للناس فقد كانتا على الدوام مفرشا للكرم فى الهواء الطلق فى كل حين. وكما إهتم المدير بزراعته ونخيله أيضا إهتم بقطيع أغنامه وأبقاره، وقد كان يمتلك زريبة ملآ بالمعيز والنعاج ومراح به الكثير من العجول والأبقار، ساعدته فى ذلك أم أولاده مريم بت سالم، حيث كانت ساعده ومدبرة شئون العائلة معه. بعد أن أنزل الصبايا حمولة حميرهم أمام الدار، أخز الجميع يذهبون للحاق بصلاة الجمعة فى المسجد، فى عصرية ذلك اليوم وبعد أن قام من مصلاه، صعد المدير أعلى رأس الديوان"، وأخز إبنه عبدالرحيم وود أبراهيم إبن أخيه وزوج إبنته يناولونه التمر بالدلو حتى يفرغه ويخزنه أعلى العرش إلى حين، ومن ثم إعادة شحنه وبيعه لاحقا، وقبيل المغرب نزل المدير من أعلى رأس المنزل ليأخز راحته قليلا ثم يقوم ليحلب بقرته الولود كعادته، وهو لا يدرى بأن السماء قد سطرت شيئا فى يوم فرحه وحصاد تمره ،، لم يكن يدرى المدير وهو يحمل قدح اللبن ذاهبا إلى بقرته التى أطعمها وسقاها وإعتنى بها عمرا من الزمن بأنه ذاهب إلى المجهول.....!!!! -2- من بين أبقاره والعجول ملك المدير عجلة كانت من أجود أنواع العجول فى البر الشمالى، زرقاء فارعة الطول والقوام، عالية فى حجمها ومنظرها يفرح كل من ينظر إليها بجمالها البديع، كانت بكرا وضعت مولودها الأول لكنه مات يوم مولده، فأمتلأت ضرعاتها لبنا فى غياب صغيرها الذى فارق دنياها، وكان لابد من حلبها يوميا حتى تتنفس ضرعاتها، فبدأ المدير فى الذهاب إليها كل مساء بالمراح ليحلبها، لكن العجلة لم تنسى وليدها الذى مات يوم مولده، فأستكثرت على غيره حلبها وأخز لبنها، حيث أصبحت عصبية المزاج متمردة على ذاتها، تتحاوم فى مربطها يمنة ويسارا وتنفر من كل شىء حولها حتى صويحباتها من الأبقار بالمراح.....!!! فى ذلك المساء الحزين من يوم الجمعة خرج المدير حاملا قدحه إلى المجهول، خرج إلى المراح كعادته ليجلس تحت العجلة النفساء ليحلب ضرعاتها، ولم يخطر بباله إن البقرة التى رباها بعمر سنواتها قد تودى بحياته، لم يكن يدرى أن مراحه الذى إعتنى به بسنوات عمره قد يشهد نهايته بطريقة مأساوية لن يصدقها عقل، وكأن تفاصيل أحداثها المتسارعة مشاهدا لدراما فلم من أفلام الرعب والآكشن الخرافية....!! ذهب المدير وجلس تحت البقرة الخلاسية الحلوب، أخز راحته فى قعدته واضعا قدح اللبن بين ركبتيه مواجها لضرعاتها،، وبدورها جعلته يستكين تحتها وياخز طمأنينيته، حوطته جيدا بكل همس القبول لما يفعل تحتها، وبكل نوايا الغدر اللعين...!!! وما أن بدأ فى حلبها حتى نفرت بكل قوتها وصعقته على صدره برجلها اليمنى، ثم رجعت إلى الخلف مستجمعة كل قواها ونطحته نطحة أفقدته توازنه، بعد النطحة القاضية إستكان لرحمتها وتمدد بطوله فاقدا وعيه مستسلما فى الحال، لكنه الجنون الذى أصابها فأى رحمة قد تستجيب لها تلك الهوجاء وقد تملك منها الهوس وحب الأنتقام، فبدأت فى هرسه وعصره بكل ما أوتيت من قوة بأرجلها على صدره ومفاصله وبطنه، هاجت البقرة الولوف على غير عادتها وتحولت إلى وحش كاسر لايبقى ولايذر، ولم تترك صاحبها الذى رباها وعطف عليها إلا بقايا رجل يئن تحت وطأة سكرات موته، تصاعد الغبار وصراخ الأبقار والمعيز إحتجاجا وحزنا لما تفعله العجلة الهوجاء بصاحبهم، ولسوء الحظ لم يكن أحدا بجواره لينقزه حين بدأ العراك، ومع الهلع الدائر بالمراح والزريبة خرجت مريم بت سالم لتتقصى الأمر، فهالها منظر رفيق الحياة الذى أصبح كومة عظام متكسرة تحت العجلة التى جن جنونها، فأطلقت العويل والصراخ الذى هلع أهل البلد جميعا، فتجارى الرجال والصبيان والحريم من كل فج من فيافى السرارية إلى دار المدير، حملوه يئن من وطأة وشدة آلامه وكسوره المبرحة إلى غرفة داخلية وقد كان لايزال على قيد الحياة فى رمقه الأخير، ومازال الجميع خارج الغرفة بالحوش وخارج الدار يرقبون ويمنون النفس بأستمرار بقائه على قيد الحياة حتى يحملونه إلى مستشفى البرقيق، إلا أن الموت كان أسرع من أمنياتهم جميعا، حيث خرج من يهمس بموته فتعالت الأصوات بالعويل والبكاء الذى شق هدوء القرية فذهب صداه ذلك المساء إلى القرى والنجوع بعيدا بعيدا. كنت شاهدا على ذلك الموت والرحيل الفجائى فى ذلك المساء الحزين، وبكل نزق الطفولة وشقاوتها تلصصت منفلتا إلى داخل الغرفة لأعرف ماذا حدث لجدنا المدير، وليتنى لم أدخل فما شاهدته ذلك المساء ظل عالقا بزهنى وبقى فى ذاكرتى العمر كله،، لذلك فى الدول المتقدمة لا يسمحون للأطفال بمشاهدة المناظر والمشاهد التى بها عنف جسدى، ومشاهد آثار الدم والقتل البشع،، رأيت جدنا المدير يئن فى سكرات موته وهو مضرج الدماء، ثم فارق الحياة على هيئته تلك،، خرج الجميع ليعلنوا الموت والرحيل الأبدى لرجل كان معهم فى صلاة الجمعة وفى ذات الصباح حصد تمره وشونه أعلى بيته. غسلوه ثم خرجوا به إلى المجهول وسط ذهول كل من شاهد موكب الزف الحزين،، بكاه الأهل والناس الذين تقاطروا من كل مكان يغلفهم زهولهم وصدمة الحادثة الغريبة، بكته أبقاره ومعيزه والطيور التى تحلق دوما حول مراحه وزريبته وداره ،بكته العصافير التى تعشعش كل مساء على النبقة والنيمة أمام الدار، ,وواصلت صراخها وشقشقتها بموال حزين على رجل تعودت عليه تحت الظلال دواما،، وحتى العجلة التى أودت بحياته حزنت عليه بعد أن عرفت حجم ما سببت من مأساة للجميع.....!!!، فرفضت الأكل حتى هزلت وشحب جسمها ولونها،، وآثرت عزلتها ووحدانيتها....!! رفعت سرادق العزاء وبعدها قرر أبناء المدير والجيران بأنه لابد من التخلص من البقرة الهوجاء، بإزالة معالمها وذكراها من المراح والحى بأكمله، فقرروا بيعها،، وفى ذات صباح من أحد أيام الأربعاء ركب عبدالرحيم المدير حمارته قاطرا خلفه البقرة من صريمها وخلفه ود المدير بحماره يهشها ويضربها من الخلف،، ذهبا بها إلى سوق كرمة وتخلصا ببيعها هناك للجزارين، بيعت بقرة الموت وزبحت وبقيت ذكراها مؤلمة فى رحلة العمر والسنوات. .....أبوناجى.... [email protected]