سيف الحق حسن يقول أبو الفتح الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل إن إبليس إحتج على ربه ووجه له سبعة أسئلة قائلا: 1- إذا كان الله قد علم قبل خلقي كل شئ يصدر عني ويحصل مني فلماذا خلقني أولا وما الحكمة من خلقه إياي؟ 2- وهو خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته، فلماذا كلفني بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في هذا التكليف مع العلم أنه لا ينتفع بطاعة أحد ولا يتضرر بمعصيته؟ 3- وهو حين خلقني وكلفني فإلتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة، فلماذا كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص؟ 4- وإني لم أرتكب قبيحا إلا قولي "لا أسجد إلا لك وحدك"، فلماذا لعنني وأخرجني من الجنة وما الحكمة في ذلك؟ 5- وهو بعدما لعنني وطردني فتح لي طريقا إلى آدم حتى دخلت الجنة ووسوست له فأكل من الشجرة المنهي عنها. وهو لو كان منعني من دخول الجنة لأستراح آدم وبقي خالدا فيها، فما الحكمة في ذلك؟ 6- وهو بعد أن فتح لي طريقا إلى آدم جعل الخصومة بيني وبينه، لماذا سلطني على أولاده حتى صرت أراهم من حيث لا يرونني وتؤثر فيهم وسوستي؟ فهو لو خلقهم على الفطرة دون أن يحولهم عنها فعاشوا طاهرين سامعين مطيعين لكان ذلك أحرى بهم وأليق بالحكمة. 7- وهو بعد ذلك أمهلني وأخر أجلي إلى يوم القيامة. فلو أنه أهلكني في الحال لأستراح آدم وأولاده مني ولما بقي عند ذلك شر في العالم. أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من إمتزاجه بالشر؟. وبعد هذا الخيال الخصب الواسع يقول الشهرستاني أن الله تعالى أجاب على حجج إبليس قائلا: (لو كنت يا أبليس صادقا مخلصا في الإعتقاد بأني إلهك وإله الخلق ما إحتكمت علي بكلمة لماذ؟. فأنا الله لا إله إلا أنا، غير مسؤول عما أفعل، والخلق كلهم مسؤولون). ويقول إن كل شبهة وقعت على بني آدم منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا نشأت من جراء هذه الكلمة الرعناء: "لماذا؟". وبحسب تفسيره فإنها تعني: "إنكار الأمر بعد الإعتراف بالحق وإلى الجنوح إلى الهوى في مقابلة النص". فلا يمكن أن يجري حكم العقل على ما لا يحتكم عليه العقل. وهنا يجب أن يجرى حكم الخالق في الخلق وليس فهم الخلق فيما يفعل الخالق. أي معرفة منزلتك كمخلوقك والتواضع لأمر الخالق. وربما يكون الشهرستاني محقا في بعض رأيه لأننا لا نقدر أن نفهم بالعقل كل شئ مهما بلغنا ونفسره بمنطقنا، ولكن ما لا أتفق معه بأننا من جهة أخرى علينا بالتفكير والتعقل لنفهم ونعلم. فالسؤوال بلماذا قد يساعد في الفهم وليس بدعا في التحريم. ولكن علينا تذكر أننا مهما بلغنا فإننا نفكر في نطاق وحدود العقلية التي منحها لنا الله تعالى. فيمكن أن نسأل لماذا ولكننا لا يمكن ان نتعدى حدود ما لا نستطيع بتفكيرنا التفكير فيه. فإبليس سأل: "أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من إمتزاجه بالشر؟". والملائكة أيضا سألوا نفس السؤوال ولكن بطريقة أخرى: "أتجعل من يفسد فيها ويسفك الدماء؟". والله تعالى أجاب: ((إني أعلم ما لا تعلمون)). فإبليس رفض وواصل وتكبر وأبى السجود وطاعة أمر خالقه، بينما الملائكة سكتوا ثم سجدوا طاعة لأمر خالقهم. ومن المعروف أن إبليس كان من الجن الذي له حرية الإختيار في العبادة، ورفعه الله مع الملائكة لأنه لا يعصي الله ما أمره ويفعل ما يؤمر فصار مثلهم. ولكن عند منعطف إختبار آخر، أو معرفة أن هناك مخلوقا آخر يمكن أن يكون أفضل منه، أحرقته نار الغيرة فأنزوى إلى زخرف الغرور. وهنا أرجع للسؤوال الذي عنونت به هذا المقال: ومن وسوس لإبليس أن يعصي الله؟. الإجابة المباشرة إننا لا نعرف خلقا آخر لنقول إنه الذي وسوس لإبليس، فمن يا ترى وسوس له؟. إبليس أيها القارئ والقارئة الكريمة لم يوسوس له أحد وفعل ذلك من نفسه. نعم "نفس" إبليس هي من وسوست له. فبعد أن وسوست له نفسه وضللته، إحترف مهنة الوسوسة ليوسوس في صدور الناس.ونعوذ بالله من الشيطان الرجيم عليه لعنة الله. والآن نرجع للإنسان. فهل كل وسوسته ناتجة من إبليس فقط؟. لا بالتأكيد. فكلمة ("نفس") في منتهى الخطورة. فهي ذات الإنسان الداخلية والمبعث الرئيسي لأفعاله. فالنون والفاء والسين مجتمعات تشير إلى غلاة ثمن الشئ، والترويح، والجمع والمنافسة بالأنفاس، والحسد؛ ... أي تشكل مجموعة من الصفات المتناقضة تعتمل داخل مسمى النفس. وصدق الله تعالى حين قال: ((ونفس وما سواها*فألهمها فجورها وتقواها)). فليس هناك إنسان فيه مطلق الخير أو مطلق الشر لكي يكون خيرا أو شريرا. فعندما يرتفع مؤشر التزكية بالتقوى سيفلح صاحب النفس، وإن دس هذا المؤشر وترك الحبل على الغارب طغى الفجور وخاب صاحبها. وذكر الله تعالى كلمة نفس في مواطن كثيرة في القرآن الكريم وإنها المسؤول الرئيسي والمتهم الأول الذي يشار له بالبنان في أفعال الإنسان. ((يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون)) [النحل: 111]. ((من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد)) [فصلت: 46]. حتى أعضاء الجسد تبرأ من عمل النفس ك: ((وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون)) [فصلت: 21]. و: ((يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون)) [النور: 24]. فالنفس هي المسؤولة الأولى عن الوسوسة لصاحبها كما يقول جل وعلا: ((ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)) [ق: 16]. فإبليس وجنوده –الشياطين- أمرهم هين لأن كيدهم ضعيف أساسا كما يقول الحق تعالى ((إن كيد الشيطان كان ضعيفا)) [النساء: 71]. فالإنسان لديه الإرادة زائدا المشيئة، والمشيئة هي القدرة على التفاعل والتفعيل لإنفاذ الأمر بإذن الله. فالله تعالى يقول: ((لمن شاء منكم))، ((وما تشاءؤون إلا أن يشاء الله)). بينما تجد الشيطان يتبعه دائما كلمة يريد وليس يشاء. فرغبته إرادة عاجزة التنفيذ، ((انما يريد الشيطان ليحزن))، ((انما يريد الشيطان ليوقع))، وهذه الإرادة لا تتاتى إلا كما يقول الله تعالى: ((وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)). فإذا النفس هي المعضلة. أنظر إلى الجرائم الفردية المذكورة في القرآن الكريم كجريمة (قتل قابيل لأخيه هابيل) وجريمة (امرأة العزيز وهي الشروع في الزنا) وجريمة ( كفر إبليس نفسه) لوجدنا ان إبليس أو جنده من الشيطان بريئون من كل تلك الجرائم. واقرأ إن شئت: ((فطوعت له نفسه قتل أخيه)) [المائدة: 30]. وإمرأة العزيز قالت: ((وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء)) [يوسف: 53]. فمعظم الناس حينما يفعلون ذنبا وجرما يقولون: أغواني الشيطان، والشيطان شاطر، ويبرئون انفسهم تماما، ولا يعترفون إنهم ظلموا أنفسهم ليس بإدانتها ولكن بتبرئتها وعدم تزكيتها. فلكي تكون عادلا لنفسك يجب أن تدينها وتزكيها. فالنتحدث إذا عن النفس قليلا ولكن دعها للجزء الثاني من هذا المقال بإذن الله الذي سأتناول فيه الأنفس بحسب القرآن و خاطرة من سورة الفجر. [email protected]