كانت الخلاوي منتشرة في أحياء المدينة، يرتادها صغار الصبية وكبارهم, بعضها يشرف عليها (مشايخ) مؤهلين، متمكنين. والقليل منها أُبتلي بمشايخ كل مؤهلاتهم حفظهم لبعض السور, وعصا غليظة. كل ذلك لا يهم بالنسبة لأولياء الأمور، المهم إيجاد مكان لإيواء الصبية خلال النهار والتخلص من شقاوتهم. شاء حظنا العاثر، أن نلتحق بخلوة فكي حمزة. كنت في غاية الفرح، وأنا أرافق أبي إلى الخلوة، ليقدمني للشيخ، ومن ثم يتم قبولي. كانت إجراءات القبول غاية في البساطة، تابعتها بنصف انتباه، إذ انجذبت لما كان يردده الصبيان من تلاوة لم أميز منها شيئا، وإن أُعجبت بهم وهم يقرؤون ويتمايلون برتابة وأعينهم مغمضة، لماذا مغمضة؟ لا أدري، وحتى بعد انتظامي بالخلوة لم أجد مبرراً لهذه الاغماضة، إلا إن كان القصد منها ألاّ ينشغل القارىء بما يراه أمامه، فيختل رتم القراءة. أخيراً تم قبولي بالخلوة، دشنه أبي بقوله: - ياشيخنا ليك اللحم ولينا العضُم ثم قام بوضع قطعٍ من النقود، على طاولة صغيرة بجوار الشيخ، الذي مسحها بنظرة فاحصة، وهو يبتسم عن أسنان صفراء، يتخللها بعض سواد. فكي حمزة! ياله من رجل فظ قاسي القلب، لا يحتوى قاموسه على كلمات من شاكلة الرحمة والشفقة والتسامح، وقطعاً لا يمارس مثل هذا الضرب من التعامل. زاده الله بسطة في الجسم، وجهلٍ وسوء خُلق. كان يبدو كمصارعٍ ضل طريقه إلى الحلبة فهبط في هذه الخلوة. أسود اللون، نظراته، بعيونه المحمرّة دائماً، تبعث الرعب في قلوب الكبار، ناهيك عن صبية صغار. متعته الكبرى الضرب، بسبب وبدون سبب. وبما أن الخلوة ليس لها قواعد للقبول، لذا ضمت صبية صغار السن، وآخرين على أعتاب المراهقة. بعضهم تعدى تلك المرحلة. وهؤلاء هم (العرفاء)، يستعين بهم الشيخ لضبط النظام، ومساعدته في تعليم الصغار القراءة والكتابة وحفظ قصار السور. وأنت تقترب من الخلوة، تسمع الضجيج بكل السلالم الصوتية، الرفيعة والغليظة وما بينهما. وفي أغلب الأحوال يتعالى صراخ ينبئ بعقابٍ يجري تنفيذه. كنا نخرج حين يكمل أحد الصبية حفظ جزء من القرآن، لنجوب المحلات حاملين ألواحنا يتقدمنا المحتفى به، وتسمى هذه الجولة ب(الشرافة)، وأظنها مشتقة من كلمة (تشريف).وهي أشبه باحتفالات التخريج بالنسبة لمن يكمل جزءاً من القرآن. وتنقسم الشرافة إلى عدة أقسام، لكل جزءٍ من القرآن يتم حفظه، بداية من الشرافة الأولى، عند إكمال حفظ جزء عم، حتى الشرافة الكبرى والأخيرة، شرافة الختمة، وهي حفظ سورة البقرة. كنا نقف أمام المحل، ويبدأ المحتفى به في التلاوة، من لوحه المزخرف برسم قبة ومسجد، والملون بألوان زاهية، وبينهما بعض الآيات الأولى من السورة التي وصلها المحتفى به، مكتوبة بخطٍ جميل، يقرأها ونحن نردد خلفه، ومن ثم يتحفنا صاحب المحل بكمية من التمر والحلوى أو الفول، وأحياناً حفنة من النقود. ثم نتحرك للمحل الذي يليه وهكذا. في نهاية الأمر نحمل كل هذه الغنائم إلى ( الشيخ)، الذي يتمعن فينا وفيها بعيون صقر، عله يكتشف إن كنا خبأنا شيئاً من الغنيمة. وهل نجرؤ؟. في نهاية الأسبوع، كان لزاماً علينا إحضار (قرش الخميسية)، وهو مبلغ قرش صاغ يدفع للشيخ نهاية كل أسبوع. الويل لمن يتأخر في الدفع، ( الفلقة) جاهزة، وهي عبارة عن حبل يتدلى من السقف، تربط به الرجلين بوضعٍ يُمكِّن الشيخ من إنزال عصاه عليهما، بقوة وعنف وهو جالس على عنقريبه. من خوفي الدائم، الذي يلازمني من لحظة دخولي إلى الخلوة حتى مغادرتها،كنت أتعرض للعقاب، إذ تشل الرهبة لساني، فلا أستطيع ترديد الآيات بنطقٍ سليم، أخطئ في كتابة الحروف، التي يخطها العريف على الأرض ويطلب مني تقليدها، فتأبى أصابعي المرتجفة أن تطاوعني. لم أطق صبراً على تلك الحالة، وبما أن حصيلتي المعرفية لم تزد شيئاً يذكر، لذا امتنعت عن الذهاب إلى الخلوة، ومع ذلك كنت أتسقط أخبارها. بعد حين، علمت أنها أغلقت أبوابها،بسبب هروب معظم الصبية منها. ثم سمعت أن فكي حمزة التحق بالعمل حارسَ مخزنٍ تابعٍ للشركة الايطالية، التي كانت تقوم ببناء كبري القاش (القديم)، ثم سَرَت شائعة قوية أن فكي حمزة اعتقلته الشرطة، بتهمة سرقة حديد وأخشاب من المخزن. حقيقة أم لا، إلا أنها بعثت في دواخلي شيئاً من الفرح الممزوج بالتشفي . [email protected]