أحد العناصر التي جعلتني أتشرب من بحر السياسة الهادر وأنا في مراحل الصبا الباكر أنني نشأت في كنف والدي عليه الرحمة والذي كان واحداً من قادة إتحاد المزارعين بالجزيرة والمناقل وسياسياً مخلصاً لا يخلط بين التزامه الحزبي من فكرٍ وواجبات وما عليه للوطن من حقوق وضريبة . وكانت تلك مدرستي الأولى التي اعتز بها ما حييت . وثاني أهم تلك العناصر أنني حينما كنت ممتحناً للإنتقال الى المدرسة الوسطى من مدرسة ابوسعد الجنوبية وكان مركز تجمع ممتحني أمدرمان حينها هو المدرسة الأميرية بشارع الموردة ، فتواكب ذلك مع قيام ثورة اكتوبر 1964 مما غذى فينا توقد جذوة الوعي السياسي بل الوطني المبكر نسبياً ! بعدها عدت الى الجزيرة ولم يتم إستيعابي في بادي الأمر بالمدرسة الوسطى هناك ولظرف إجرائي ما لا اذكره تحديداً الآن ، فأخذني والدي الى معهد صافية وكتفية العلمي حيث درست فيه عاما ونيف قبل أن يتم تحويلي الى مدرسة مصطفى قرشي المتوسطة وأنا في السنة الثانية ! لا انكر تاثير تلك المدة التي مكثتها بالمعهد على تكوين شخصيتي المائلة الى الإعتدال دون تشنج حيال الكثير من الأمور الحياتية ،وأنا ذلك الصبي الغض الإيهاب و ليّن العقل ومهيأ الذهنية للتشكل وفق أية مؤثرات محيطة كان من الممكن لو انها قد وجدت من يلويها ناحية التزمت والتشدد لصاغتني في إتجاه مختلف تماما كمنتج طبيعي وسائغ لأي تيارٍ عاصف ! ولكن وبحكم فهم من علمونا من لدن وعيهم لطبيعة مرحلتنا الحساسة فقد سخروا علمهم لتأسيسنا على أداء الصلاة في سن مبكرة وخبرنا منهم الكثير عن التكاليف الشرعية وجرعات طيبة من الفقه و اسفار مفيدة في التفسير و قدوة صالحة في الحديث والسنة و عرفنا منهم آداب الدين في التعاطي مع المجتمع بالسلوك الحسن . فقد كان أساتذتنا حقيقة من المعلمين و الفقهاء الراشدين و المشبعين بعلمهم المستنير وصفاء نفوسهم البعيدة عن الغرض المادي أو الفكري المنغلق أو السياسي المتنطع ، بل ولم يكن للسياسة اصلاً ولا التجنيد لهدف يليها موطي ء قدم داخل تلك المؤسسة التعليمية التي كانت مكاناً للعلم المُطهر عن كل دنس وفي ذلك الزمان النقيء ! نعم كان هنالك بعض الطلاب الأكبر عنا من خارج المعهد حينما يلتقوننا يحاولون بث بعض الأفكار بغرض شدنا تجاه حركة جبهة الميثاق الإسلامي مستغلين على سبيل المثال جواً من التعاطف الذي سخروه بدقة تجاه قضية إعدام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للشيخ المرحوم سيد قطب في تلك الأيام بتهمة التحريض على العنف بدعوى إعلاء ثقافة الجهاد بالسنان مما قد يشّكل الفهم العام الخاطيء للجهاد في الذهنيات القاصرة وكأنه المفروض إستباقا لتأصيل مبدا تغليب لغة البيان في عقلية الإنسان المسلم ! ولو ان أسلاف الإسلام السياسي في بداية وبقية مراحل نشأة حركتهم قد إنتهجوا في كليات دعوتهم ذلك الضرب من الجهاد الناصح والمسالم منذ تلك الحقب المبكرة لصار العالم الإسلامي كله في إعتدال إسلام تركيا او ماليزيا او أندونسيا ولما شرخ واجهته القشيبة من حاولوا تحطيم صورته الزاهية تلك هناك من امثال ابو سياف او ابوبكر عشيري ولما خرّجت معاهد الطالبان في باكستان مجاهدين دمويين ينتجهم ويستغلهم الغرب لمصلحته في البداية ولا يتفقون على بينة فيما بينهم حينما تشتتوا بعيداً عنه و إختلفوا معه أو قل حينما استنفد منهم اغراضة المرسومة مثل صنيعته أسامة بن لادن و ايمن الظواهري و ابو مصعب الزرقاوي الذين توالدت عنهم عقارب بوكو حرام وحركة النصرة وداعش الخ ! ولما باتت جامعة الخرطوم ومسجدها مخازناً لسلاح التركيع وغدت وممراتها ساحات للإقناع بالسيوف والسيخ بعد أن ودعت في عهد الظلاميين الأشرار منابر التناظر الفكري واضمحل دورها الريادي كإحدي منارات العلم التي كان يشار اليها بالبنان ، فاضحت قاعاتها طاردة لكل من ينشد العُلا . ولما اصبحت جامعة افريقيا بالخرطوم رافداً لتلك الحركات المارقة في الصومال ونيجيريا ومالي والتي تسبح خارج موجة التاريخ المعاصر وليس لديها الفهم الصحيح لتعود الى ذلك السلف الصالح التي تدعي الإنتساب زوراً وبهتاناً لنهجه القويم و المنسجم مع بدايات نشر الإسلام توازناً بين التبشير وعدم التعدي إلا على من إعتدى ،في مثالية تمثل سلوكاً قويما جاذبا لدين الحق لا عنفاً منفراً عنه دون ذنب جناه وهي العناصر الصدئة العقل التي تزعم انها تريد اخذ عالمنا المعاصر الى عهد ذلك السلف ، فيما أولئلك الأبرار رضوان الله عليهم لو خيروا في مراقدهم الطاهرة لآثروا القدوم الى زماننا ليصلحوه بمعطياته الميسرة لا باليات زمانهم الشاقة ، وذلك تسهيلاً لحياة مسلميه ومستقبل البرية جمعاْء، لا تدميره بتلك النعم التي انتجها العقل البشري بسلطان العلم الذي سخره المولى عز وجل في معاهد الإبداع حيثما كانت للإنتفاع بها وتوسيع مواعين المعارف الإنسانية لتعمير الدنيا بالصلاح والفلاح والنجاح والفرح ، لا لتدمير البشرية بتقطبية الوجوه العابسة وهي توزع الموت المجاني في الأسواق و الطرقات وترهب التلميذات زغب الحواصل ، من منطلق الفهم المتحجر والمتعفن لأولئلك الذين خرجتهم معاهد التجهيل للسباحة عكس تيار تطور الحياة ومكتسباتها ..! قاتلهم الله حيثما كانوا ووجدوا، مثلما قتلوا النفوس البريئة وروعوها بلا وجه حق فاصابوا الدين ذاته في مقتل . ولاحول ولا قوة إلا بالله العظيم ! [email protected]