هنالك إشكالات وهواجس ستحيط بالبلاد في المرحلة الانتقالية وهذه لا بد من مواجهتها بحكمة عالية حتى لا يؤذَى البلد في وقت ضعفه، وسأحاول هنا أن أتعرض لها بإيجاز ولكيفية التعامل معها. 1. الهاجس الأمني: السودان الآن في حرب في جنوبه وغربه، وربما لا تشارك هذه الحركات المسلحة في الحوار الجاري الآن وبالتالي لا تكون جزءً من التغيير الذي سيحدث. فإذا كان لحالة التغيير قبول عام وسط السودانيين فإن ذلك قد يشكل حرجاً سياسياً لهذه الحركات، ولكن من الأفضل أن تظل المؤسسة العسكرية جزءً أصيلاً من المرحلة الانتقالية تفادياً لأي حافز قد تجده الحركات المسلحة لزيادة نشاطها العسكري إذا رأت هشاشة في المركز. الهاجس الأمني الآخر في الفترة الانتقالية هو زيادة معدلات الجريمة حيث إن القوانين المدافعة عن الحريات وحقوق الإنسان تكون أكثر فاعلية ويد الشرطة والأجهزة الأمنية تكون أثقل قيداً عما كانت عليه في زمن القهر فتختلف وسائل التحري والاستجواب والاعتقال ما قد يحفز المجرمين على مزيد من الإجرام اذ يقل الرادع. وستشكل عين الرأي العام الراصدة بشدة لأي مخالفات تحدثها الأجهزة الشرطية والأمنية قلقاً عند المسؤولين في هذه الأجهزة وتوجساً من الخطأ الذي ربما كان مغضوضاً عنه الطرف في وقت مضى ولكنه الآن باهظ الثمن، فينشأ جراء هذه الهواجس حالة من التراخي الأمني ينفذ من خلالها الكثير من المجرمين وتزداد جرأتهم. والمواطن إنما أراد من تخفيف القبضة الأمنية أن تراعى حقوقه هو فلا يُعتقل تعسفاً ولا يمنع من إبداء الرأي ولا تُجتاز حقوقه في التقاضي أو الدفاع عن نفسه. والضغط الشعبي في هذا الاتجاه مشفوعاً في بعض الأحيان بحالة من التشفي الشعبي على تبدل الأحوال وزوال يد السلطة الثقيلة عن ظهره، هذا ربما يحفزه على أن يتجاوز هو بدوره تجاه أفراد هذه الأجهزة خصوصاً لمن كانت له سابق مظالم منها. هذا المناخ العدائي ربما يضعف الأجهزة الشرطية والأمنية والضعف هذا للأسف لا يكون انتقائياً لأنه مدفوع بحالة انكسار عامة فينقص الأمن في البلد، وسيحتاج الأمر إلى بعض الوقت حتى تستقيم الموازين وتقام العدالة بمعزل عن أجواء التغيير السياسي بلا إفراط أو تفريط. 2. الهاجس الثاني هو الهاجس الاقتصادي: هنالك جدل قديم وسط الاقتصاديين حول تميز الحكم القهري على الديمقراطي في إحراز تنمية اقتصادية سريعة، ومن الأمثلة المألوفة في هذا الجدال المقارنة بين الهندوالصين حيث استطاعت الصين غير الديمقراطية أن تحرز ضعف النمو الذي أحرزته الهند الديمقراطية في ذات الفترة، والحجج التي يسوقها هذا الرأي عديدة منها أن الحكم القهري أقدر على رفع الضرائب والجبايات لتوجيهها نحو التنمية – والكلام هنا عن التنمية التي تقودها الدولة (state-led development) – وذلك دون الالتفات إلى الاحتجاجات الشعبية ودون الحاجة إلى الرجوع إلى برلمان. كذلك فإن الدولة بإمكانها أن تقوم بمشروعات تنموية كبيرة دون مواجهة مصاعب التعويضات التي تواجهها الدول الديمقراطية، وغيرها من التسهيلات التي منشأها القدرة على اتخاذ قرارات كبيرة دون تعقيد بيروقراطي أو تشريعي (الكلام هنا من منظور اقتصادي وليس سياسي أو أخلاقي). لا أقصد من هذا أن أقول إن السودان ينبغي له أن يستمر في الحكم القهري حتى يتمكن من إنجاز تنمية اقتصادية كبيرة، فقد حكم 25 عاماً لم يفعل فيها ما ينبغي فعله ولا أحسبه يفعل مستقبلاً. والنظام السوداني لديه كثير من ديكتاتورية النظام الصيني ولكنه لا يملك شيئاً من جدّه وعزمه وفاعليته في التنمية ورفع شأن البلاد. فالذي قصدته ليس الإشارة إلى محاسن الحكم القهري، وإنما التحذير من مخاطر الحكم الديمقراطي خصوصاً في الفترة الانتقالية. معلوم أن كل تغيير سياسي يأتي عقب ضائقة اقتصادية – وفي الغالب يأتي بسببها – يكون معبئاً بطموحات غير واقعية وأماني مستحيلة. هناك ربط غير صحيح بين التغيير الديمقراطي أو السياسي عموماً وبين الانفراج الاقتصادي، وهذا معلوم لدي السياسيين لذلك تجد العقلاء منهم يحاولون في حملاتهم السياسية نحو التغيير أن يخفضوا سقف التوقعات الجماهيرية حتى لا يحصل الإحباط نتيجة قياس نجاح التغيير السياسي بالتقدم الاقتصادي. وجدنا أمثلة لهذا في خطابات أوباما والذي أمضى قرابة 6 سنوات من 8 ممكنة في الحكم ولا يزال يجاهد للخروج بأمريكا – أقوى اقتصاد في العالم - من عنق الزجاجة فما بالنا بالسودان! ذات الأمر رأيناه في مصر بعد ثورة يناير حين خرج عمال المصانع يطالبون بزيادة الأجور والثورة لم تزل في أيامها الأولى! لن يحدث انفراج اقتصادي في الفترة الانتقالية، هذه حقيقة علينا أن ندركها كي نتجنب أي إحباط. وغاية الرجاء ستكون وقف التدهور الاقتصادي بعتق الاقتصاد من أسر النظام الحاكم. هذا سيعطي الاقتصاد فرصة ليتنفس هواءً نقياً ويعيد غرس جذوره في تربة صالحة قبل أن يعاود النمو مجدداً في فضاء مفتوح، ولكن النمو سيكون بطيئاً محبطاً مضجراً لا يقوى على ملاحقة آمال الناس التي ستنطلق كما الريح العاصف. لذلك فإن علينا أن نهيئ أنفسنا منذ الآن لفترة انتقالية لا تحمل أي تحسن في معاش الناس سوى الأمل، وليس بقليل! الشرق