حروب الردة العصبية القبلية , وليس العقيدة الدينية , هي منبع ما سمي ( بحروب الردة ) , ونتج عن ذلك رفض ما أتى به الرسول ( ص ) من المركزية السياسية وحكم الجزيرة العربية بواسطة الوحي التي زالت في اعتقادهم بعد وفاته , وبقي الدين كاعتقاد شخصي عام . رجعوا إلى العصبية القديمة حينما رفضوا أن يخلف رجل النبي بلا وحي في يديه ينظم حياتهم ويربطهم بالملأ الأعلى مباشرة , وأن يدعي خلافته الدنيوية , وسلطته الروحية , دون أمر رباني , وتكليف إلهي في نظام لم تتضح معالمه بعد , فليس هو بملكية ولا إمبراطورية , إلا حينما دفع أبو بكر الصديق كنتيجة لتلك الاحتجاجات بالأعراب إلى الحروب الخارجية حتى يؤسس سلطة دنيوية واضحة المعالم سرعان ما ستنقلب إلى ملكية وصراع بين القبائل من أجل التوريث . وكانت مظاهر احتجاجهم أن امتنعوا عن دفع الضرائب والزكاة التي كانوا يدفعونها للرسول طوعا واختيارا , بل إن الرسول كان يرفض أخذها منهم في بعض الأحيان عقوبة لهم في أمر من الأمور ورجعوا ليختاروا ولاتهم بأنفسهم من قبائلهم كما اعتادوا قبل الإسلام . وتشارك البدو في تلك الاحتجاجات الواسعة , وقد بدأت بوادر تحركاتهم وتململهم في زمن النبي , ولم يبق مع أبي بكر سوى القبائل المحيطة بالمدينة وبداخل مكة وفي محيطها , كان الاحتجاج أساسا على وحدة الجزيرة العربية التي وحدها النبي و التي كانت مفرقة على زعامات قبلية , وعلى فكرة الخلافة التي جمعت السلطة كلها في يد واحدة قوية في وسط الجزيرة العربية تتحكم فيها قبيلة واحدة تصارعت فيما بعد هي أيضا بدوافع العصبية , وجعلت الأعراب في مقام التابعين والمأمورين لحكم المدينة وربما كانت الاحتجاجات أيضا على موت النبي نفسه الذي دانوا له بالولاء والسلطة المنزلة من عل والحب المشوب بالخوف من رجل يتلقى الوحي ويصعد السماء في ليلة الإسراء وعندما توفي تركت وفاته ذاك الفراغ العريض فكريا وسياسيا فتعددت الآراء وظهرت مراكز القوى فكان لابد من حروب تضع التاريخ في مسيرته الصحيحة فكانت حروب الردة التي تلفعت بالدين من أجل جعل السلطة الدنيوية سلطة دينية . لم تكن الردة ردة دينية , بل كان الكثير من المرتدين يصلون على إيمان صادق ويقرؤون القرآن وينادون بعودة محمد كي يمنحوا زكاتهم وقلوبهم وكي ينفضوا من قياداتهم القبلية . وربما كانت تلك الحروب هي أول الحروب بين المسلمين الذين انشغلوا بالفتوحات بعد ذلك ثم عادوا يتقاتلون في العهد الأموي والعباسي والمملوكي وحتى العصر العثماني وكان ذاك الانشقاق الفكري هو الأول في مضمار السياسة في عالم الإسلام والذي تواصل في خلافة عثمان ونشؤ الفرق والمذاهب أثناء الصراع بين علي ومعاوية . ولئن دلت حروب الردة على شيء فإنما تدل على أن موت النبي كان مبكرا , وفي غير أوانه , حتى وإن اكتمل الوحي وتم الدين , ولم يكن لتلك الوفاة المفاجئة حتى على الصحابة أنفسهم من بديل سوى حروب الردة التي هي حروب إسلامية نموذجية استعمل فيها الدين لأول مرة للتفريق بين حزب وآخر , والتي رجع فيها البدو إلى شرب الخمر ولعب الميسر وأنظمة الربا التي لم يتخلوا عنها تماما , والتي كانت جزءا من منظومة العصبية القبلية , ونوعية الثقافة السائدة , والتي لا تخرج عن الحكم القبلي الذي لايفهم ضرورات النظام المركزي ولا تخرج عن ضرورة الولاء القهري الخرافي لنبي مرسل وليس لخليفة يدير وينظم ويحكم ويطمح بالفتوحات الكبرى . كانت خلافة أبي بكر إذن انقلابا سياسيا لم يفهمه العرب إلا حينما تدفقوا في الجيوش الكبيرة لفتح الشام وفارس ومرت أزمان كي يدركوا ماذا تعني وحدة البدو مع حكام المدينة وضرورة وجود خليفة سياسي يفكر بعقلهم المجرد المادي ذلك التفكير الذي أنتج بعد ذلك آلاف الكتب وآلاف الفقهاء وأهل الكلام ,وهكذا ظهر المرتدون مرة أخرى في مسرح التاريخ أقوى إسلاما ومبشرين وحفظة في نواحي العالم المعمور آنذاك . وظهروا كفقهاء يوازنون بين القرآن وضرورات التاريخ والاجتماع البشري . إذن مسألة حروب الردة مسألة سياسية واجتماعية في عالم لم يتكون بعد ولم تظهر ملامحه ولم تصل طاقاته الوليدة إلى نهاياتها فلم يظهر فقيه واحد ينادي ( بحد الردة ) في ذاك الزمان ذاك ( الحد ) الذي اخترعه الفقيه ( الأوزاعي ) في ما بعد في العصر العباسي , وإن ظهر القادة الكبار الذين دخلوا تلك الحروب وخاضوها دون دراية بحد الردة كقانون ديني يطبقونه في الأسرى ويستتبون من يريد الرجوع إلى حظيرة الدين .. وعلى كثرة القتلى في تلك الحروب فلم يقتل رجل واحد بحد الردة على الإطلاق. فإن كان ( حد الردة ) لم ينشأ في حروب الردة فكيف وأين ومتى نشأ ؟ ...... [email protected]