يقوم حد الردة كما هو معروف على حديثين يتيمين منبتين . دارت حولهما الشكوك والتهم على مدار العصور , روى أحدهما (عكرمة) وهو (رقيق) لابن عباس وتوارثه أولاده من بعده . وأما ا لآخر فأسسه ( الأوزاعي ) حينما أطلقه قولا جزافا بدون ( سند ) وبدون ( رواة ) ثم صار بعد ذلك حديثا مرويا كامل الأوصاف افتتن به الخلفاء العباسيون الذين أقاموا ملكهم على الدماء والثارات القديمة ولم يكونوا في حاجة لحد ( الجبرية ) الأموي , وهو قتل كل من يروج أن قتل الحسين وآل البيت ورجم الكعبة بالمنجنيق لم يكن مشيئة إلهية لا راد لها ولا يمكن تبديلها وأن من اقترفها من بين أمية كان مسيرا وملزما بارتكابها لحكمة ربانية في علم الغيب , ثم رواه الإمام مسلم في ( الصحيح ) بعد أن منحه الشرعية النبوية في بيئة تحتاج لتشريع القتل وأعطاه التسلسل والعنعنة . ودفعه في مسارب العقل الإسلامي . وحديث الأوزاعي المشهور يقول : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس , والثيب الزاني , والتارك لدينه , المفارق للجماعة . " عاش الأوزاعي في العصر الأموي وخدم الأمويين طويلا ونال عطاياهم كفقيه سلطة ولكن هذا الحديث لم يظهر في ذلك الوقت لأن حد ( الجبرية ) كان كافيا للقتل ولتبرير جرائم الأمويين , فلم يحتاجوا ( لحد الردة ) من أجل قتل مخالفيهم وإنما ابتدعوا حدا آخر أكثر نجاعة وأقوى على تصفية الخصوم والمطالبين بالثارات . قتل معاوية حجر بن عدي الكندي وكان من شيعة علي بن أبي طالب المخلصين وتخصص أولاده في التنكيل بآل محمد وضرب المقدسات الإسلامية لأنهم كانوا الخصوم ولا خصوم غيرهم وبسبب تعسفهم خرجت كل الجماعات الدينية في ذلك الوقت من طغيانهم ولما شعروا باحتجاج العالم الإسلامي ابتدعوا فكرة المشيئة الإلهية المسؤولة وحدها عن كل المظالم والقهر والقتل ولما انتهى حكمهم بحث العباسيون بعدهم عن فكرة تساوي الجبرية ( وحدها ) الذي قتل به الكثيرون من المعارضين والمفكرين وكان الأوزاعي حاضرا ليعمل معهم ليضع على أسنة رماحهم موتا جديدا ويدشن لهم ( حد الردة ) . لابد أن الأوزاعي بحث في القرآن الكريم , فلم يجد عقوبة للمختلف فكريا من داخل الأمة الإسلامية في ذلك الوقت الذي ورثه العباسيون مليئا بالفرق والجماعات وكلها تطالب بالسلطة وبالإمامة وبأن يتبع المسلمون أفكارها وكانت كلها تلجأ إلى القتال لتطبيق أفكارها , فلم يجد غير حديث آيات القرآن عن العقوبة في دار البقاء وأن الله هو المسؤول عن الضمائر وما في الصدور ,ولكن هذا ما لا يمكن أن يقبله أمثال الخليفة العباسي أبو العباس السفاح (750-754م ) أو أبو جعفر عبد الله المنصور ( 754-775) الذي واجه الثورات من العباسيين أنفسهم ومن العلويين والخوارج الراوندية والخرسانيين ومن قواده الطامعين ثم عرج الأوزاعي مضطرا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجد غير ردة عبد الله بن سعد بن أبي السرح الذي توعده النبي بالقتل حتى وإن وجد متعلقا بأستار الكعبة المشرفة ولم يطلب قتله لأنه ارتد وإنما لأنه شكك في الوحي المرسل إلى النبي وسخر من النبوة وحرض في مكة واستعدى القبائل وكان الرجل في مقام كاتم الأسرار فأفشى أسرار كتابته ومهنته الرسولية , وبرغم كبر جريمته لأنه كان من المقربين ولأنه أراد ضرب الرسالة في معجزتها الوحيدة عفا عنه النبي بلا استتابة وبلا ( حد ) فجدد إسلامه طوعا فولاه عمر بن الخطاب ثم ولاه عثمان بن عفان ثم حارب السودانيين بعد ذلك وفرض عليهم الجزية مئات السنين وإرسال العبيد سنويا . ثم دقق الأوزاعي ونظر في السيرة فلم يجد غير ردة عبد الله بن خطل الذي كان مسلما وعاملا للنبي في جمع الصدقات ولكنه ( ارتد ) وأعلن ردته , فأمر النبي ( صل ) بقتله , فقتل . ولكن لابن الخطل قصة أخرى غير ( الردة ) هي التي أودت بمقتله ولنستمع لابن هشام في السيرة النبوية وهو يقول : " وعبد الله بن خطل , رجل من بني تيم بن غالب , إنما أمر ( النبي ) بقتله أنه كان مسلما , فبعثه رسول الله ( صل ) مصدقا , وبعث معه رجلا من الأنصار , وكان معه مولى ( خادم ) له يخدمه , وكان( مسلما ) , فنزل منزلا , وأمر ( المولى ) أن يذبح له تيسا , فيصنع له طعاما , فنام , فاستيقظ ولم يصنع له ( الخادم ) شيئا , فعدا ( هجم ) عليه , فقتله , ثم ارتد مشركا . " فالردة هنا كما هو ظاهر جاءت مترتبة على جريمة القتل , ولم تكن مقصودة لذاتها , فهو لم يشرك أولا ثم قتل بل قتل ثم أشرك حتى يقبل أهل مكة - أعداء محمد – حمايته وإجارته ويمنعوه من القصاص الذي لابد سيحيق به لو بقي في مجتمع محمد . وهنا أحتار الأوزاعي الذي كان أجداده من سبايا السند وولد ونشأ فقيرا ويتيما فتجولت والدته به في كل أصقاع الشام مما جعله لا يثبت على حال ولا يوالي أحدا ولذا خدم بنفس النشاط والغرض الدولتين الأموية والعباسية وحصل من ألأخيرة على سبعين ألف دينار وتعادل مبلغا محترما مما تملكه جماعة ( هيئة علماء السودان ) من أموال سائلة وعقارات تحسب بسعر الدولار الحالي . ولم تطل حيرة الأوزاعي الذي عرف قيمة التبرير في تثبيت الأمويين سياسيا ودينيا من قبل ودرس جيدا ما يريده الخلفاء خاصة في أول عهدهم بسلطة منتزعة عندما دلف وقرأ قصة ( مقيس بن حبابة ) الذي كان صحابيا جليلا , حسن الإسلام , وكان كريما يطعم الناس في الشتاء , وكان محبا لإخوانه لا يرضى لهم الظلم , فارتد فأمر الرسل ( صل ) بقتله , فتبعه رجل من قومه اسمه ( نميلة بن عبد الله ) , فأزهق روحه , فبكت أخت مقيس في مقتله طويلا وقالت : لعمري لقد أخزى نميلة رهطه ( قبيلته ) وفجع أضياف الشتاء بمقيس ( أي عندما يأتون في الشتاء وهم جياع لن يجدوا شيئا يأكلونه ) فلله عينا من رأى مثل مقيس إذا النفساء أصبحت لم تخرس رجع مقيس إلى قريش فحمته ردحا من الزمن , وهو أحد الذين توعدهم الرسول بالقتل حتى وأن تعلقوا بأستار الكعبة , وحين فتحت مكة كان ( مقيس بن حبابة ) مطالبا بدم أحد رجال الأنصار حين قتل ذاك الأنصاري أخا لمقيس خطأ . من هنا نعلم أن الرسول ( صل ) لم يكن يسامح في الدماء ولم يكن يقتل للردة بل كان يشجع عليها كما سنرى لاحقا . ونظر الأوزاعي في كل السيرة فلم ير غير الطلقاء , وغير أصحاب الأمان , وغير مرتدين يطلق سراحهم بلا عقوبة , وغير كفار يجيرهم من يجير , وعفا ذاك النبي حتى عن رجال احتموا بنساء وقال لام هانئ بنت أبي طالب : قد أجرنا من أجرت , وأمنا من أمنت " ولكن كل ذلك لا يريده الأوزاعي ولا يؤمن به ولا يدخل عقله , فهو فقيه السلطة بلا منازع والذي عاش في زمنين متناقضين ولكنه جمعهما معا في يده , وهو القادر تحت ظلال السيوف على المناداة بالمشروع الحضاري حتى وإن كان ضد القرآن وضد سيرة محمد رسول العدل والسلام والحرية . خالد بابكر أبوعاقلة [email protected]