يقول نزار قباني: "لم يزل العرب في أسر القصيدة منذ ألفي عام" أنا شخصيا لم أكن قد سمعت بمقولته هذه حين كتب مقالا بعنوان "أعطني مخترعا وخذ كل الأدباء"..مقالا حذرت فيه من غرقنا في الأدب والشعر على حساب العلوم والإبداع التقني.. نبهت فيه إلى أن كل العباقرة لدينا أدباء، والمبدعين شعراء، والمثقفين أرباب كتابة وتنظير وياليتنا فوق هذا فزنا بأي جائزة عالمية في الشعر والأدب!! وفي المقابل حين تتأمل كافة أوجة النعيم في هذا العصر (من كهرباء ووسائل مواصلات وأجهزة الكترونية وتقنيات طبية) ستكتشف أنها نتاج علوم وتقنية وليس نتاج أدب ونثر.. حين تتأمل أسباب تفوق روسياوأمريكا واليابان ستكتشف أنها لن تتراجع في موازين العلم والقوى العسكرية لو انعدم فيها الشعراء أو توقفت فيها الملاحق الأدبية. لا أعلم إلى متى سيستمر غرقنا في الأدب والتراث والعلوم النظرية، ولكن المؤكد أن حمى التنافس العالمي لن تمنحنا أكثر من جيلين قادمين نكتشف بعدها أننا نعيش في عصور ظلام حقيقية تتدثر بثياب تقنية استهلاكية ومقابل هوسنا بالأدب وخضوعنا لأسر القصيدة هناك إسرائيل التي تعاني من هوس العلم وأسر التكنولوجيا فإسرائيل أدركت منذ تأسيسها أن من سيحميها من طوفان العرب حولها ليست القصائد العصماء بل الصواريخ النووية (التي سمعت في طفولتي أنها وصلت لخمسمائة) والدبابات الحربية (حيث تصنف الميركافا الاسرائيلية كثالث أفضل دبابة في العالم) والطائرات المقاتلة (حيث كانت تنتج طائرتها الخاصة حتى عام 1985 وتعد اليوم أول دولة في انتاج الطائرات بدون طيار).. وبحلول عام 1988 أطلقت أول أقمارها التجسسية "أفق1" ثم "أفق2" فى عام 1990 ثم "عاموس4" في عام 1995 وانتهت من القبة الحديدية عام 2010 وكل ماسبق لعدد سكان لايزيد على ثمانية ملايين نسمه! ومقارنة بعدد سكانها الضئيل تملك اسرائيل أفضل نسبة من العلماء والمهندسين والمخترعين والمبرمجين في العالم كما يملك المجتمع الاسرائيلي رابع أكبر نسبة من الشهادات العليا وأول نسبة في شهادات الدكتوراة التقنية (التي لا توازيها سوى شهاداتنا التنظيرية في جامعاتنا السعودية)!! وعلى ذكر الجامعات؛ تملك اسرائيل ثماني جامعات فقط، ست منها ضمن أفضل 100 جامعة في آسيا (وفق تصنيف شنغاهاي) وأربع ضمن أفضل 150 جامعة في العالم (وفقا لتصنيف كيو إس) وثلاث منها ضمن أفضل 200 جامعة عالمية (وفقا لتصنيف التايمز).. والهوس بالعلوم والتقنية في إسرائيل لم يأت من فراغ ولا يعد حالة طارئة كونه جزءا من التربية وعقيدة التفوق اليهودية؛ فالأقليات اليهودية في العالم أجمع عوضت دائما ضعفها العددي بتفوقها العلمي والفكري (لدرجة أن 80% من العلماء والمفكرين المعروفين في الغرب من اليهود أو لهم أصول يهودية).. وفي حين تتمحور ثقافتنا العربية حول شخصيات أدبية أو قيادية (وأحيانا أسطورية) تتمحور ثقافة الطلاب في إسرائيل حول علماء يهود مازالت بصماتهم واضحة حتى اليوم مثل أنشتاين، وفرويد، ووايزمان، وفيتالي غينزبورج، وإدوارد تيلر (والمفارقة؛ أن الأخير مخترع القنبلة الهيدروجينية في أمريكا ، وماقبل الأخير مخترعها في روسيا) !! لهذا السبب ليس غريبا أن تعيش إسرائيل حالة هوس علمي وتتبنى ثقافة التفوق التقني.. ليس غريبا أن يتخذ الطلاب فيها من الأسماء السابقة مثالا يحتذى كما يتخذ طلابنا من البراض وأبو خراش وتأبط شرا أمثلة تحتذى... أنا شخصيا لا أعتقد بوجود شعب أذكى من شعب ولا أؤمن بأن اليهود شعب الله المختار ولكنني في المقابل أؤمن بوجود ثقافات مثبطة، وأخرى مشجعة للإبداع.. ثقافات تلبس ثياب الأدب والتنظير والحكواتية، وأخرى ثياب العلم والتقنية ومختبرات الأبحاث.. ثقافة تنظر للمستقبل فتستعد له من الحاضر، وثقافة تنظر للماضي فتستمد منه طمأنينة الحاضر وغفلة المستقبل.. ... نعود للشعر ونقول: قد أسمعت لو ناديت حيا ولكن ... صحيفة الرياض