أيها الأوغاد ..الآن أتحرر من كل قيودكم التى كبلتمونى بها طوال حياتى . الآن أتخلص من رؤيتكم الضيقة و تقسيماتكم البوهيمية . فهنا ، حيث تسبح روحى فى فضاء من نور لا متناه ، لا أراكم ، بل لا أكاد أحس بوجودكم أصلا مثلما لم تحسوا بوجودي بينكم من قبل . قبل يومين فارقت روحى جسدي الذي ظل يركض من المهد إلى أن حملت على ( عنقريب ) رقيق الحال ، و سار ورائى نفر قليل . حتى جثمانى أيها الأوغاد لم يسلم من تصنيفاتكم الحمقاء .ربما لو كنت وزيرا ، مثلا ، أو كنت موظفا مرتشيا إبتلع ذهب الشعب و فضته فى كرشه ، كنتم ستسيرون ورائى قوافل من المرائين و المرائيات . لكنى كنت مجرد معلم رقيق الحال كالنعش الذى حملت عليه ، ومن يأبه بالمعلمين فى بلاد لا ترتاد المدارس أصلا ؟ . و الغريبة أنى مت جائعا ، مثلما عشت العمر طوله جائعا!! مت و أنا في طريقي إلى شئ يسد رمقي . قلت إن جسدي قد ارتاح منكم الآن ، وحق له ذلك .ألم تكن حياتى كلها سلسلة لا متناهية من الطوابير ؟ لقد كان بامكانى أن ادخل إلى موسوعة " جينس" للأرقام القياسية للوقوف فى الطوابير " . بلى ، فالناس قد نسيت اسمي الحقيقي " بلال عبده محمود " و أسموني " بلال طوابير " ، لدرجة أنكم لو جئتم إلى قريتى البائسة سائلين عن " بلال عبده محمود " لما عرف احد من تقصدون . أما إن وقفتم فى صحراء الربع الخالى ، و صحتم باسم " بلال طوابير" ، فسترفع ألف سحلية رأسها ، و تعبر بكم البحر ، و تحضركم إلى بيتنا فى لمح البصر . تسألونني عن أول طابور لي ؟ هل تصدقون انه كان قبل أن أولد ؟ لا تندهشوا يا حثالة الكون . فقد أخبرني "أبى" انه حينما فاجأ الطلق "أمي" ، ذات مساء صيفى حار ، اضطر أن يحملها على ظهر " كارو " متهالكة ، يجرها حصان عجوز كفاه داء أن يرى الموت شافيا . تلك كانت " كارو" جارنا العم " حسين" ، استلفها منه "أبى" ليقل بها "امى" إلى المدينة المجاورة ، إذ لم تكن ثمة مستشفى فى قريتنا " ساعة طلقئذ " . سار بها " أبى" مسرعا ، صابا غضب عصاه الناشفة على ظهر الحصان المسكين ، حتى وصل إلى المجرى المائى الذى يقع عند مشارف المدينة . و هناك ، فوجئ بقطيع عظيم من الأبقار يعبر القنطرة الإسمنتية الصغيرة الممتدة فوق مجرى الماء . فاضطر أن ينتظر عشرين دقيقة كاملة حتى تعبر آخر بقرة . ذاك يا غوغاء كان أول طابور فى حياتى ، عفوا قبل حياتى . هل رأيتم كرم بلادي ؟ توزع الطوابير لبنيها حتى و هم لا يزالون مغمضى العيون و الأرواح في عتمة الأرحام ! .و حين بلغت شهرين تفشت حمى مفاجئة فى الريف فقررت "والدتى " إن تحملني إلى المدينة لأتلقى بعض التطعيم . و هناك فى المستشفى الحكومى شهدت كيف يكون الطابور مرادفا للجحيم ! . فقد اضطررت أمى أن تقف ساعات طوال ،و حين بلغت الشباك حيث يعطونك رقما لمقابلة الطبيب ، اخبرها الموظف أن وقت الدوام قد انتهى و أن عليها الحضور اليوم التالى . وقتها ، رفع حصان العم " حسين " رأسه ، و نظر إلى الموظف بغيظ ، ثم رفع إحدى رجليه الخلفيتين و تبول فى باحة المستشفى ، قبل أن يطلق ريحا نتنة عاتية ، و هو يصهل فى حنق ومرارة . أما "أمي" فقد ذرفت دموعا صامتة و عادت بى إلى البيت و حزنها له رجلان يسعى بهما بين الناس. تسألوننى عن الطوابير يا من لم تشهدوا طابورا فى حيواتكم ؟ حسنا . هل سمعتم بمقولة " السجن إصلاح و تهذيب "؟ هكذا الطابور أيضا ، إصلاح و تهذيب . و الطابور يا غوغاء له آداب يجب التحلي بها . و ذاك بحر واسع . و قد اكتشف العبد لله علم " الطابوريزم " . بلى ، فليس كل من هب و دب يمكن أن " يتطوبر " مثلما فعلت أنا طوال أربعين عاما و لا فخر . و من خلال خبرتى استطيع أن أخبركم أنه توجد استعدادات قبل ،و أخرى أثناء ، و ثالثة بعد الطابور . تريدون أمثلة ؟ حسنا . قبل الطابور ، مثلا ، عليك أن تقرأ سورة " الشرح " ، و تكرر قوله تعالى "ووضعنا عنك وزرك ، الذى انقض ظهرك ". ذلك لان ظهرك سيتيببببببس حتما من الوقوف ، و من سواه تعالى نستجير به حين نقف ساعات طوال تحت أشعة الشمس الغبية ؟ . عليك أيضا أن ترتدى أقذر الملابس حتى و لو كنت ذاهبا إلى معاينة عمل . فانحشارك بين الناس فى الطابور ، و العرق ، و الغازات ، و الأتربة ، كل هذا سيفسد ثيابك و لو كنت فى أناقة " ليوناردو ديكابريو " . أما مزاجك فستتكفل شواظ الشمس و سباب الخليقة (بعننكته) حتما . و عليك أيضا أن تبتاع مسبحة . و يستحسن أن تكون مسبحة طويلة ، كالمسبحة الألفية مثلا ، التى ( يجردها ) السادة المتصوفة على سجادات التقى فى الليل البهيم . بلى ، ففى كل مؤسسة فى بلادى وجدت اللافتة التى تقول " أملأ لحظات الانتظار بالاستغفار " . كلام زى الدهب و الله . لكنهم لم يوفقوا فى لفظ " لحظات " . ربما كان من الأجدر أن يكتبوا " أجيال " بدلا عن " لحظات " ، فهذه ستكون اصدق . فإذا وجد أحدكم نفسه محشورا فى طابور ما ، فعليه الانتقال إلى الاستعدادات "ب " ، أي الاستعدادات " الأثناء طابورية" . و من خلال تجاربى الكثيرة فهذه أكثر صعوبة من أخواتها القبلية . هنا ، عليك أن تكون رياضيا ، لا أخلاقا فقط ، و لكن جسدا كذلك . فستجد الأمواج البشرية تروح و تجئ بك ، و أنت واقف فى مكانك ، لدرجة انك ستشك فى مصداقية قول الأخ "نيوتن " : " لكل فعل رد فعل " . و ما فعلى أنا ساعتئذ ؟ . لا شئ و الله . لكنى فى كل مرة أجد نفسي فى مؤخرة الطابور ، و أحيانا ملقى على ظهري خارج المؤسسة تماما . أما إن كان أحدكم نحيفا فلا يغامرن بالوقوف فى الطابور أصلا ، و هناك فئة مقدرة من الشعب تسمى " المتطوبرين " . هؤلاء ليسوا من الواقفين فى الطابور . حاشا لله . لكنهم قوم ينتظرون . حتى إذا لاح مواطن هزيل الجسد ، نصحوه بالجلوس ، على أن يقفوا مكانه نظير مبلغ مال ، يقل أو يزيد على حسب وزن المواطن المغلوب على أمره . و قد قرأت مرة فتوى لشيخ ما حلل فيها عمل المتطوبرين و اعتبره نوعا من إماطة الأذى عن الطريق !!. نسيت أن اذكر لكم واحدة من الاستعدادات القبلية الكبرى : تربية الأظافر . بلى ، حاولوا أن تطلقوا أظافركم ما استطعتم ، و لكم فى رجال الكهوف قدوة حسنة . أما إن استطعتم إن تربوا حوافرا و أظلافا ، يا سلاااااااام ، عز الطلب و الله . فعندما تكون يا وغد فى منتصف الصف ، يمكنك أن " تخربش " المواطن الواقف أمامك على عنقه بقسوة ، حتى تسيل الدماء من عروقه ،و تتبع ذلك بركلة عنيفة على ظهره ، مثلما يفعل المصارع " جون سينا " بخصومه . فإن سقط أرضا ، حللت مكانه ، و طبقت قانون " الإحلال " ، أما إن كان متين الجثة ، أو باردا ، فيمكنك أن تبدأ بممارسة بعض الألاعيب النفسية و الذهنية لإقناعه بالخروج من الطابور . أذكر - مرة – أننى " خربشت " رجلا ريفيا بسيطا فى طابور " عمرة " . و حين تشبث بمكانه قلت له هامسا فى إذنه " إن الدماء فى الصيف تتسبب في نقل أمراض الايدز وعمى الأنهار و أنفلونزا السمك و حمى المعيز " . فولى القروى الأدبار ، بينما التمعت عيناى فى انتصار عظيم . تسألون عن أهم الأشياء بعد الطابور يا سادة عبيد ؟ يكفى أن اذكر لكم واحد فقط منها : الصبر . اى و الله ، الصبر . و سأسرد لكم موقفا واحدا يعلمكم أن الله يحب الصابرين فعلا . تعلمون اننى خريج لغة انجليزية و تحصلت على دبلوم ترجمة أيضا ؟ لا تعلمون ؟ لا يهم . ها انتم قد علمتم الآن . اذكر اننى مرة وقفت فى طابور طويل لمعاينة مترجمين للعمل فى إحدى الوزارات . و حالفنى الحظ فى الدخول إلى غرفة المعاينة . جلست على الكرسى و رفعت رأسي فوجدت الأخ المسئول طويل الذقن و كأنه من أهل الكهف . لكن الشهادة لله ، لم يكن ثمة كلب يبسط ذراعيه بالوصيد فى المكتب ، كما أن الأخ إياه كان نظيف الثياب ، منتفخ الأوداج ، تكاد تكأكئ فى خديه قطعان الدجاج التي يلتهمها كل يوم . و بعد أن دون الاسم " بلال عبده " سألني أن أقرا ما تيسر من سورة " البقرة " . الحق أنى قرأت الآيات العشر الأولى ، ثم وقف حمارى فى العقبة المفترى عليها . سألنى بعدها عن فرائض التيمم فما ذكرت شيئا . سالنى عن سنن الغسل فهمهمت بينى و بينى باننى لم أتزوج بعد لأعرف شيئا عن الغسل . ثم سألني عن كيفية أداء صلاة الجنازة ، فقلت خيرا ، لعل الأخوة الانجليز الذين تخصصت فى لغتهم قد اعتنقوا الاسلام و صاروا يحتلفون بالمولد النبوى فى "الشكينيبة " ،ولعلى أقابل الأخ "اوباما" بعد أسبوع أثناء قدومه لدفن جنازة جارنا العم " حسين " الذى توفى بفعل سوء التغذية ، فاحدث قريبى فى النسب من ماما إفريقيا " اوباما " عن كيفية صلاة الجنازة . و دون أن أدرى وجدتني اهمس " أنا بلال . ليتنى أجد سيفا لأثور فى وجه المدينة صارخا " ذاك الفقر هو أمية بن خلف . لا نجوت إن نجا " . أخرجنى الأخ الفقيه إياه من دوامة شرودي قائلا باستخفاف " أنت خريج جامعى و لا تعرف أقل المعلومات عن دينك ؟ قلت بينى و بينى إننى أحتاج فى هذه اللحظة إلى كظم الغيظ . هز صاحبنا رأسه ثم قال و على وجهه ترتسم ابتسامة بلاستيكية لو سرقتها من شفتيه ما أحس بغيابها " سوف أسألك سؤالا بسيطا جدا : من هو الإمام القرقشندى " ؟ . حينها علمت اننى لن أنال تلك الوظيفة اللعينة ، فركبتنى كل شياطين الكون . انتصبت واقفا ، و ابتسمت فى وجهه و قلت و أنا اقلب عينى فى الفضاء مدعيا التفكير العميق " الإمام القرقشندى ؟ الإمام القرقشندى ؟ ، أها ، هذا سؤال سهل يا رجل . هو إمام وإسمه القرقشندى " . نظر (الأخ الفقيه ) إلى بغيظ و قال " هل تستهتر بأئمة المسلمين يا زنديق ؟ " قلت له وأنا الملم أوارقى " الزندقة الحقة هى أن تحضرني– أنا الجائع العاري الحافي ، الذي تنتظره أسرة أنفقت عليه أبقارها و حميرها و معيزها و أحلامها إلى ، تحضرنى إلى مقابلة صورية ، و أنت تعلم أن مقعدى محتل الآن بواسطة واحد من الأعيان ذوى الدماء الزرقاء و الأوداج المنتفخة " . نظر الفقيه إلى وجهى مذهولا ، ثم صاح بصوت كالرعد " اطلع برة يا عدو الله " . حملت أوراقى ، وحين بلغت الباب ، خطر لى أن أغيظه أكثر ، فعدت إليه مرة أخرى و قلت " سؤال يا مولانا . هل للقرقشندى هذا صلة بأهالي " شندى " ؟ وقتها (فكنى ) بحزمة أوراق عظيمة ، فركضت خارجا و أنا أقهقه ساخرا " لا نجوت إن نجا " . قلت لكم إني استرحت من طوابيركم التى لا تنتهى يا سادة . فهنا ، لا طوابير فى كون النور الذى أنا فيه . أحدق الآن من وراء سحب النهار هذه ، فألمح أمى فى بيتنا المتهالك فى قريتنا الأكثر تهالكا . أراها تصارع العجين لتصنع منه " الزلابية " لتبيعها قرب بوابة المدرسة الابتدائية . لله درك يا امى . أنفقت عمرك وراء كومة اللهب التى ندعوها فى الريف " الدوكة " ، تطبخين لنا و للضيوف . آه منك يا امرأة لم تعرف الفرح يوما . كنت أود و الله أن افعل لك شيئا . لكن جحافلهم أعظم من فرسانى يا أماه . اذكر جيدا يوم تم قبولى فى الجامعة . وقتها انطلقت منك زغرودة عظيمة لم اعلم كيف انطلقت من جسدك النحيل ذاك. و ذاك اليوم وزعت " اللقيمات" مجانا على صبيان القرية . حينها بدأ حلمك يا أماه و ما كان ابسطه من حلم . وظيفة عادية يعدل بها إبنك ميزان الحال المائل منذ سنوات طويلة . ثلاث وجبات محترمة ، و علاج محترم ، فى بيت محترم ، يسكنه أناس محترمون ، يرتدون ملابس محترمة !!!..آه يا امى ، لم اعلم وقتها انك تطلبين الكثير جدا فى بلاد لا تحترم بنيها أصلا . أيها السادة الغوغاء . حين دلفت إلى الجامعة بدأت رحلتى مع الطابور الأكبر فى عمرى . اصبروا و سأحدثكم عنه . كنت – كما لا تعلمون – طالبا نجيبا . كان لى عقل كالاسفنجة يمتص المعلومات بسرعة مدهشة . يقف الدكتور و يرتل القصيدة الانجليزية مرة واحدة فإذا بها تعلق بتلافيف ذهنى . يتحدث عن الكاتب الفلانى فاركض إلى المكتبة ناهشا أحشاء الكتب عنه، وحين يعود الدكتور المرة القادمة يجدنى واقفا أمامه ، خصما أكاديميا عنيدا ، و بقية الطلاب و الطالبات يرمقوننى بدهشة وحسد . كنت أستعذب إحساس التفوق على اقرانى من ذوى الدماء الزرقاء ، بناء القطط السمان فى المدينة . كنت اهمس فى وجوههم " كلوا طعامى ، و اشربوا شرابى ، و تلفعوا بثيابى يا عراة ، لكنكم لن تسلبوا منى عقلى . هنا ، فى قاعة الدرس ، سأصلب مقاصلكم ، و سأحاكمكم " . هكذا كنت حتى بدأ طابورى الطويل مع " زينب عثمان " . بنت ارستقراطية حين رايتها أول مرة همست " ليس من العدل أن يتم سجن كل هذه الأنوثة فى جسد واحد " . دلفت زينب يومها إلى القاعة كما تدلف الشمس من شبابيك منزل ريفى بسيط . و تهادت كما تتهادى الكلمات على حنجرة محمد وردى فى "حزنه القديم" . ثم جلست ، لا على مقعد قربى ، و لكن على نفسى العذراء الفرحة . وحين هدهدت خصلتها تلك بأصابعها المرمرية و نظرت إلى وجهى مبتسمة و هى تسألنى عما فاتها من محاضرة ، حدث لى التحول الأكبر يا سادة عبيد : تنازل عقلى عن صراعه ، و زحف من مكانه فى أعلى الجمجمة إلى منتصف الصدر ليصير قلبا ثانيا . إرتعشت شرايينى كما نبتة تلمح غيمة تتهادى على أرصفة الأثير . سكن النور عيونى التى أصر خبثاء المدينة على تصدير الظلام إليها ، بينما دقت خواطرى كنوبات الدراويش فى قريتى . حتى أصابع قدمى فى منفاها القصى وراء الجوارب المتسخة ، و هى تسد أنوفها من عفونة المكان ، رقصت و"عرضت" فى باحة الحذاء الملىء بالثقوب . أما قلبى المسكين ، فقد شق القميص المشقوق أصلا ، و ركض عبر القرون ، مستحيلا إلى حصان فتى ، مسافرا إلى ديار "بنى عذرة" فى قلب الصحراء ، حيث نصبت له القبيلة خيمة باعتباره أميرا للعشاق فى الزمان . و أحببتها فى ثوان . صدقوا أو لا تصدقوا : إن مدينة " السجم و الرماد " لم تصادر شعورى بعد . و انتبهت " زينب " أولا إلى قدراتي الأكاديمية المذهلة ، ثم بدأت تنتبه إلى عيونى التى تستحيل إلى مجامر كلما لفتنى عاصفة عطرها المثيرة ونحن نجلس متجاورين على مقعد حالم . ومثلما أحببتها ، أحبتنى زينب . رأت فى عالمى نبضا أخرجها قليلا من برودة عالمها . فحدثتني عن أبيها الذي ظل يقطن تلك البلاد النفطية منذ سنوات طويلة ، عن أمها التي لا تجد ما تسد به رمق الثوانى الخاملة فى الغربة غير طلى الأظافر ومشاهدة التلفاز . حدثتنى عن إخوتها الذين لا يعرفون قبة "المهدى" ، و لم يستمعوا إلى تراتيل "خليل فرح"، و لم يسكرهم "محمد وردى" ، و لم يشجعوا المريخ ، ولم تستاف عيونهم بسحب التراب فى "سوق الناقة" . و حين زارنا والدها و علم بخبيئة فؤادى ، عرفت وقتها معنى الطابور الحقيقى . بعد أيام دعانى إلى بيته فى المنشية ، و تمدد أمامى بكرشه الضخم على الكرسى الوثير ، لا كما يتمدد بيدر قمح على ريف مبارك ، ولكن كما يتمدد حقل جليد بارد . حدثنى عن أنى شاب مجتهد و مكافح ، لكن يجب على أن اعرف حدودى . قلت له إنى لم افهم ما يقصده فنظر إلى وجهى طويلا ثم قال " زينب تقدم لها شباب كثر ، دعنىأسرد لك بعض النماذج حتى ( ثم صارا على أسنانه بحزم ) تعرف حدودك . هناك إبن مدير بنك فى دبى ، و إبن مستشار فى السفارة فى القاهرة ، و إبن تاجر فى جدة ، و إبن وزير فى الخرطوم و ..." . قاطعته بوقوفى ، و قلت له و قلبى ينز جرحا عظيما " طابور آخر ؟ " . و خرجت و هو يرمقنى بعنجهية عظيمة . قابلتنى زينب قرب بوابة الفيلا الضخمة و سألتنى عما حدث فقلت لها بسخرية " دبى و القاهرة و جدة و الخرطوم ؟ تحيا الوحدة العربية يا ستى " . و لم أرها بعد ذلك . علمت أنها تزوجت ابن محامى سودانى عظيم متزوج من سيدة فى طنجة . تم توظيفى بعد خروج الروح فى مدرسة نائية فى أقاصى دارفور . قضيت بها ردحا من الزمن ، سبعة أعواما عجافا . و ذات يوم احضر لى زميل جريدة بها إعلان عن مدرسة هندية فى العاصمة تريد توظيف معلمى لغة انجليزية أكفاء . ذهبت الى المعاينة و تم اختيارى . سعدت و قلت إن الحظ قد ابتسم لى أخيرا . و هتفت مناديا باسم "المهاتما غاندى " الذى أنصفني فى بلادى التى لم تشعر بوجودى يوما. لكن الفرح لم يدم طويلا . فعلى زاوية قريبة كان يختبئ الطابور الأخير بانتظاري . قبل يومين استيقظت جائعا . لم أجد شيئا يؤكل في الثلاجة البئيسة . فارتديت ملابسى و نزلت السلالم بخطى متثائبة من الرهق . كان الوقت ليلا و الجو باردا جدا ، و الشوارع شبه خاليه من المارة . نظرت يمنة و يسارا ، ثم استنشقت هواء باردا و أنا أحدق فى بيوت المدينة المتناثرة كشواهد القبور . مرت أمامى قطة سوداء عوراء. رمقتنى للحظة و خيل لى أنها تبتسم . ارتعدت فرقا . ثم قررت أن اعبر الطريق إلى الجهة المقابلة حيث تربض تلك الكافتيريا الصغيرة . تقدمت خطوات قليلة ، و أسنان الاسمنت تصطك من وقع حذائى الناشف ، و حين انتصفت الطريق سمعت صوت بوق سيارة ينطلق محذرا ، إستدرت بسرعة فإذا بأضواء باهرة أعشت عيونى . دوى صوت ارتطام عظيم بعد ذلك ، فسقطت على الأرض بعنف ووحشية . اصطدمت جمجمتى بالإسفلت فتناثرت من رأسي مادة بيضاء ، بينما غطت الدماء سائر الجسد المنهك أربعين عاما . تجمع حولى نفر قليل من زوار آخر الليل . ارتفعت الحوقلة هنا و هناك . ثم حملونى فى صندوق صغير ، و سار ورائى نفر يعدون على أصابع اليد ، ووارونى أعماق الثرى فى تلك القرية البعيدة .أيها الغوغاء .، الحمد لله الذى حررنى من طوابيركم ! [email protected]