كان محمود جالسا على المقعد القريب الملاصق لشباك الحافلة المتهالكة راميا يده اليمنى على الفتحة التى تركها الزجاج بعد انزلاقه الى الخلف قليلا بصرير منخفض ,, يرقب بلا اكتراث الواقفين على المحطة الوسطى الخرطوم , من يضع صحيفة على رأسه خشية اشعة الشمس الحارقة بقرف واضح , ذاك يحادث صاحبته لعلهما طلاب جامعة من الجامعات التى اصبحت كثيرة مثل رقاد الهم فى القلب هذه الايام ,,ترى اى موضوع يقرضان , ولماذا يلتصقان الى هذه الدرجة بينما يبتسمان ,,؟ المرأة التى تبيع الفول المدمس منه والدكوة وحبيبات التسالى وبعض انواع أخرى من الاغراض التى تصرها فى اكياس لا بد ان وراءها قصة نضال تصرها هى الأخرى فى كبدها ,,سمع مثلها نساء كثيرات استضفن فى برنامج تلفزيونى , اوردن فيه قصصا للنضال بطولية , منهن من توفى زوجها اثناء الحرب فى الجنوب ,,او فى الغرب ,ومنهن من ذهب زوجها الى الصعيد او ليبيا فلم يعد وترك لها من الابناء ما نعد منه ونعدده لنجده يفوق احتمال حواء التى نقول عنها خلقت من ضلع معوج لادم , وا(لمرأة لو بقت فأس ما بتشق الرأس ),,ثم نسوة أخريات ذكرن أن أزواجهن قد طردوا من الخدمة العامة بواسطة الحكومة حجتها فى ذلك مناوئتهم للنظام او التشكيك فى انتمائهم لتنظيمات تخالف حزب الحكومة فى توجهه ,, أو ربما لصدقهم الزائد عن الحد, فالحياة لا تلزمها من يلبس رداءا أبيض بقلب أبيض طوال الوقت ,,تحتاج لبعض المكر والمراوغة فى احايين, تقول الحكومة , ومنهن من طلقن او تطلقن , ومنهن عانسات ليجدن فى السوق أنيسا للحياة من العزلة فما فلحن , لكنما الوقت على كل حال يمضى ومركب الزمن فى كل الاحوال سيصل الى نهايته بقيامة تقوم , ذاك رجل يركب على اصابع يديه عشرات الصواميل من الحديد , برغم سخونة الجو فالرجل يبتسم ومنشغل بتربيطها فى كل مرة واعادة تركيبها , وتشكيلها بحيث ان الصامولة الكبيرة الى الداخل ثم تليها الاصغر فالاصغر ,,سادلا لحيته البيضاء فى مضيق ابو جنزير , ولباسه شديد الاتساخ منكمش فتظهر عورته فى السهلة ,,يبتسم على كل حال , هذا ما أثار فضول محمود وهو يرقب ما تبقى من حوله , أصوات الكماسرة برى برى برى ,,بتنغيم وأكل للحروف بطريقة حسن عطية في الغناء ,,بحرى بحرى بحرى قريبا من برى برى لولا التدقيق ,, فان كنت ترغب فى الركوب لا بد أن تقترب من الكمسارى لتسأله مرة اخرى عن حقيقة الامر وعن اتجاه الحافلة ,,برى ام بحرى ,و ان كنت من المرتادين الى هذا الموقف فذات الشخص الكمسارى يقف هنا وربما ذات الحافلة او اخرى تشبهها تماما وتتجه ذات الاتجاه والسائق يدخن سيجارته البرنجى على ظلها أو يدوس على الوقود فى كل مرة ليشيئ أنه على وشك التحرك أو ربما ايهامك بذلك , وذات الناس الحول ,,واب صواميل ,, والطلبة الاصدقاء و إمرأة الفول المدمس ,, والجامع الكبير تتراص امام مئذنته صفوف من السقايين وبائعى المياه الزرقاء منها وبألوان مختلفة على جانب النيل العظيم , والعطور وبائعات الطواقى التى غزلت بصبر المعذبات فى الحياة ونسجت على مصلاة مقربة من الصباح , لتلحق السوق , لا يحتاج الأمر الى سال وليس مهما ان كانت برى او بحرى ,, فالسلطان عبد الحميد هنا او هناك . محمود لا يفتأ مراقبة المارة بلا هدف , يقرأ على جبين كل واحد منهم ما هو مكتوب تفيض به عينيه العسليتين التين تصفان كل ابناء جلدته , فما ان ضاع واحد منهم او رغب عن دنياه التعيسة فتاه فى شوارعها هائما على وجهه حتى عادوا ليصفونه بعسلى العينين , , وهؤلاء كثيرون , منهم مبدعون فى مجالهم , فنانون وأدباء يحملون أحلامهم على كفن اللوحة والكتاب , ومن كانوا رموز مجتمع و حملة أفكار ولاعبى كرة قدم فكت منهم ومن داسته أرجل الفيلة , ومن سرق شبابه وطموحه وتطلعاته فى صحارى الخرطوم فكفر بالغد الذى يسمى مجازا مشرقا فقرروا ان لا يتابعوا نشرات الاخبار ذات الوعد الكذوب وأن لا يستمعوا بشريات المسؤولين فهى محض هراء , برقا لم يمطر قط . ,يراقب الخطوط المتقاربة على جباه كل السودانيين المرتسمة بفعل أشعة الشمس الحارقة وبفعل قهر ظروف الحياة على قلب كل واحد فيهم فتنبت خطوط التعب حسب حظه منها ,وهو يعلم أن من الناس مالا تلحظ عليه اى أثر لرهق الحياة لكنهم لا يمرون من هنا , تعطيهم الحياة كما يشتهون او لربما أخذوا عنوة حق هؤلاء فى العيش , يتابع محمود على مقربة منه موقفا طريفا لشحاذ ينادى فى الناس داخل الحافلة وهو ينادى ,,لله يامؤمنين ,,لله يامؤمنين فلما لم يجبه أحد ينزل الشحاذ ليقول ,الحافلة دى مافيها مؤمنين ول شنو ؟؟ لم يضحك محمود أو تفتر له شفاه بينما راكب آخر يفرك شعر رأسه بشدة يطنطن : والله نحنا فايتنك بالصبر بس ,,,جامد هو ,للدرجة التى جعلت سعاد جارتهم لاكثر من عشرين عاما بحى الامتداد تبكى حينما وضعت رجلها على الحافلة ورأته فأخذت تسلم عليه بحرارة وبحماس شديد وتعيد لمرات ذات العبارات بالغة الالفة : هاى يامحمود إزيك الله يسلمك الله يبارك فيك ,كيف امك ,,أخوانك كويسين ؟؟ أبوك ان شاء الله طلعوهو من المستشفى ,,حتى لاحظ عدد من الركاب جمود محمود الذى كان لا يبادلها التحية الا بإجابات مغتضبة وتجهم كبير ,,جعلها ذلك تتوقف شيئا فشيئا عن ترتيل السلام أو الكلام دون انقطاع كامل ,,لكن الاسئلة تتباعد وسط احساسها بالخيبة والفشل الذريع على ان أن تخرج منه باى نتيجة تعينها على معرفة حال أهله ,,او حاله, تستغرب سعاد التى جلست خلفه مباشرة أكثر وتبكى أكثر حين تتذكر أن محمود فى طفولته كان لطيفا وجميلا وضحاكا بينما إذ تطالعه الآن وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين بعد متجهما ,الحافلة مرت بجامعة الخرطوم سريعا وعبرت بكبرى القوات المسلحة فتحسس الركاب صدورهم , لتدخل كوبر واضعة السجن على يسارها وقليلا قليلا تترك مبنى الأمن جهة اليمين و تطل كافورى متمكنة فى أراض واسعة بمبان شاهقة وفاحشة الثراء, وعلى الوسط تسير الحافلة المتهالكة تدهس الاسفلت الذى يتآكل يوما بعد يوم فلم يستبق منه شيئا دهسا بلا رحمة , لا تزال سعاد بعد أن نزلت فى حى الانقاذ تسأل : لماذا لم يسلم محمود مبتسما ؟؟ [email protected]