مثل الأناشيد القديمة,تبقى الحكايات الأولى محفورة على أعماق صدى الذكرى..محمولة على أجنحة الدهشة... لا تنال منها زحام الأشياء فلديها من أسباب الخلود ما يجعلها عصية على السقوط من ثقوب الذاكرة. ذات مساء أو إن شئت الدقة "عصيراً هالك" كان الموعد الذي ضربه لنا أبي (أحمدعبدالله العماس) بزيارة الخرطوم والمكوث فيها بضعة شهور...الخرطوم التي طالما كانت حلم أسطوري سماوي يداعب أخيلتنا الصغيرة..نقارن بيوتاتها بمكونات قريتنا "ودكبيش" بولاية الجزيرة فيرتد الخيال خاسئاوهو حسيرا. في ذلك اليوم الموعود تناولنا وجبة الغداء على وقع موسيقى عالم الرياضة وهكذا كانت الأسرة السودانية تفعل...وكان اللوري "4ب ح" الذي يملكه أبي حينها يشق فجاج أرضين مشروع الجزيرة الواقع بالإقليم الأوسط أوانئذ فيأتي محمولاً بخيرات الأرض الباحثة عن سوق الخرطوم..حينها كانت الجزيرة مثل السواعد خضراء تسر الناظرين. إرتديت قميصاً أبيضاً ورداءً أزرقاً وأنتعلت شبطاً متأبطاً شوقاً ولهفةً ومنتظراً مركبة سرعان ما كان صوتها يشق صمت القرية معلناً الوصول...من على كابينة اللوري هبط (مبارك ود نورالدايم) سائق اللوري ومن قبله أسرع (مرزوق ودعبدالله ودناير) مساعد السائق ليفتح "كبود" اللوري صاباً فيه ماء من جالون...على عجل تناول الإثنان غذائهما وصلى الظهر أحدهما. حملنا أمتعتنا ووقفنا قبالة "تندة" اللوري,أنا وأبي وأمي (جنة النعيم بت أحمد) التي كانت تحمل شقيقتي الصغرى (آمال) رضيعة في المهد..كنت السابق في الركوب وأخترت موقعاً يجاور "جربكسي" اللوري...قبل أن يدير "المبارك" مقود العربة رفع يده إلى أعلى حيث جهاز المسجل والراديو مثبت داخل سقف "تندة" اللوري...يلتصق بالراديو "خلال" بضم حرف الخاء يستخدم لتسريح شعر الرأس حينما كان شعر الشبان غزيراً غزارة خير البلاد. سرعان ما أنبعث صوت جهوري دافئ عرفت فيما بعد أنه صوت عبدالرحمن أحمد محمد صالح.. إسترعى إنتباهتي عبارة تكررت كثيراً خلال ذلك الموجز الإخباري وهى "الرئيس المخلوع جعفر نميري" إتجهت بكامل جسدي ناحية أبي متسائلاً ومستغرباً (إتا يا أبوي الرئيس دا الخلعو منو؟) فيجيبني: الشعب...أردفه بسؤال (يعني شنو الشعب) يرد أبي :المواطنين..أسأل مرة اخرى (كم نفر يعني) يجيب: ألوف..يخرج سؤال (وخلعوهو كيف؟؟). يضحك أبي فينتحب الفضول بداخلي..فالخلع عندي يعني أن يختبئ أحدنا لآخر خلف إحدى الأبواب..وما أن يمر إلا يصدر الخالع صوتاً قوياً مصحوباً بضربة كف (وه) كنا نختبر بها شجاعة بعضنا وثباته ورباطة جأشه...كان فعلاً ينأى عنه كبار قريتنا وينهون عنه فما بال كبار الخرطوم يخلعون رئيسهم؟؟ماذا يستفيدون من ذلك؟؟..أي باب عملاق ذلك الذي إختبأ خلفه الألوف من البشر مندسين لخلع رجل واحد؟؟. كان اللوري "يشق حشا الطريق" متجاوزاً قرية أم علقة بمقهاها البارز كواحد من علامات وأستراحات العابرين من 24 القرشي والمناقل صوب الخرطوم. ما إن تجاوزت العربة قرية الطلحة حتى لاحت أعمدة الكهرباء...تسآلت عن تلك الأسلاك المشدودة فعلمت أنها كهرباء القطينة وبعض من مدن بحر أبيض...شيئاً فشيئاً تلامس إطارات العربة إسفلت الطريق الرابط بين كوستيوالخرطوم...إنه "الظلط" الذي طالما تناهى لسمعي راسماً له صورة سور عظيم..كيف لا والجميع يتحدثون عن قطع الظلط وحوادث المرور فيه لابد أنه فعل شاق لا يقدر عليه إلا ذو العضلات والفهم والدراية. في الطريق تناثرت عديد القرى المظلمة برغم إنتصاب أعمدة الكهرباء فوق رؤس أهليها. عند منطقة جبل الأولياء توقفنا عند أولى محطات التفتيش..ثلة من العسكر تفحصوا العربة ورخصة السائق وألقوا علينا نظرةً وسلاما..ثمة حكومة توجد هنا...محطتنا القادمة كانت مدينة طيبة الحسناب..تشاور المبارك وأبي في أمر العشاء وأستقر الرأي على الوقوف بكافتيريا أبو عادل شرق الظلط...جئي لنا بلحم مشوي وفول مصري...إرتشفنا شاي اللبن بعد أن قمت بتبريد كوبي مقلباً إياه في كوب آخر. تستأنف الرحلة وشوق يدفر الجوانح والدواخل ففيك ياخرطوم ما يغري بالمزيد...عند منطقة الشجرة وجدنا ثلاثة يرتدون "الكاكي" ويتبادلون الآنس والسمر..قال أبي:البلد تراها هادية الحمد لله. في تقاطع ودالبشير كان هناك رجل يلبس من الثياب أبيضها..يرفع يدها ويطلق صفارته فيتوقف الجمع..ثم يبسطها فيتحركون..ظننته حاكم المدينة الآمر الناهي لكن حديثاً بين مبارك وأبي أفهمني أنه بوليس الحركة..حينها كان رجالات المرور على قلتهم ناشدين سلامة لا جباة كحال يومنا هذا. إلى الغرب تحركت العربة فقد كنا ننشد منطقة أمبدة الحديثة النشأة حينها..قليل من الأسفلت أتممناه بالردمية حتى وصلنا منزلنا...منزل يبدو من مظهره ومواد بناءه أفضل حالا من بيت قريتنا. بتنا ليلتنا وعند الصباح ذهبت إلى سوق الشيخ أب زيد وهناك يملك والدي متجراً ومطعماً فقد كان من طبقة يراها الأثرياء وسطى ويضعها الفقراء في خانة البرجوازية قبل أن تأتي سنوات البؤس الإنقاذي فتحيله وأمثاله إلى طبقة الكادحين...عبدالقادر..رجل من دار حمر كان شريكاً لأبي دعاني لتناول الإفطار فولجت المطعم..هناك رأيت ما رأيت..رأيت أناساً عليهم ثياباً رثة يأكلون اللحوم ويكرعون البيبسي كولا وكأن شيئاً لم يكن..كان الفول حينها وجبة إختيارية للزبون حق إختيار كيفيتها فقليلاً ما تسمع الطباخ وهو يناغم زبوناً (أكسرو ليك؟؟) وكثيراً ما أعجبتني مهارة الطباخين في كسر الفول بزجاجة البيبسي كولا أو الفرات...خرجنا من المطعم وعند راكوبة "زينب بت أب كم" كان موعدنا مع الشاي لمثلي والقهوة للكبار. الشاهد أن السائق المبارك ود خالتي فاطنة قد قطع الرحلة من المناقل وحتى أم بدة دون أن يدخل يده في جيبة لجباية أو مخالفة أو مكس...كان السائر يسير لا يخشى إلا الحجارة على نعله والسخانة على ماكينة عربته. في المساء نقدتني أمي بضع جنيهات فذهبت رفقة إبن عمي الحاج نتبضع طعميةً وبيضاً مسلوقاً ونشاهد تلفازاً عند "أقجي"...كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها تلفازاً عبر شاشة صغيرة لتلفزيون أبيض وأسود يعمل بالبطارية...إبتعنا حاجتنا وتوسطنا جمعاً من الناس...خيل إلي أن مذيعة التلفزيون تغازلني..تمايلت يمنةً ويسرة ونظرتها لم تزل مصوبة نحوي..وددت لو تفرق الجمع لأبادلها غزلاً ومشاغلة فقد كانت مليحة لا تضع بدرة على وجهها. كانت رحلتنا عقيب أمر جلل هو إنتفاضة 6 أبريل 1985م...كانت الخرطوم حينها في الديمقراطية تبترد وتستنشق هواء الحرية بعد ستة عشر عاماً كتم فيها على أنفاسها العسكر بأحذية ثقال...وكان الدم يسري في شرايينها وطرقاتها بعيد مجاعة سياسية وغذائية... كانت لياليها تراقص مغنية إستعراضية تدعى حنان بلوبلو وتسهر حتى الصباح على أنغام الكبار(وردي..عثمان حسين..إبراهيم عوض) وغيرهم من العقد النضيد...ثمة فنان ناشئ يذكره الناس بإستخفاف يدعي "ودالبكري"رغم أنه لم يغني لقنبلة أو طعنة من وراء ولم يكن مخنثاً لكنها مقاييس الزمان والليالي المترعات بالغناء الضياء. المآذن ليست كثيرة لكنها صادقة وأصوات الفجر ندية طروبة...الباعة قليلاً ما يغشون الناس..ثمة طمأنية وأخلاق تمشي بين الناس...ثم...كفاية لحدي هنا. [email protected]