"منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    عثمان ميرغني يكتب: «منبر جدة» والتوافق السوداني المفقود    مجلس السيادةينفي ما يتم تداوله حول مراجعة الجنسية السودانية    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استعادة الحاضر في المشروع الفلسفي عند الجابري..بقلم : عبد العزيز بومسهولي
نشر في حريات يوم 02 - 02 - 2012

” مشروعنا هادف إذن، فنحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي، والهدف : فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها … ولعلها تفعل ذلك قريبا”[1]
محمد عابد الجابري
“الحياة الحقة غائبة، لكننا نوجد في العالم”[2]
لفناس
تقديم :
في الاحتفاء بالجابري والعروي
عندما فكرنا في إصدار كتابنا “الفلسفة المغربية، سؤال الكونية والمستقبل”، انطلاقا من عنوان فرعي سميناه “ما بعد الجابري والعروي”. لم يكن هدفنا كما بدا للبعض هو تخطي الجابري والعروي، وإنما على العكس من ذلك احتفاء بالجابري والعروي معا، وهو ما حدا بنا مرة أخرى إلى إهداء كتابنا “الكائن والمتاهة، التفكير في الزمان المعاصر” إلى محمد عابد الجابري. لقد كان هدفنا إذن يسعى إلى تأكيد أن انطلاق الفلسفة المغربية، أو انبعاث حياة فلسفية جديدة، إنما جاء عقب اكتمال المشروع النقدي الضخم للجابري الذي تمثل في أعماله الكبرى التي اهتمت خاصة بنقد العقل العربي، كما جاء عقب اكتمال المشروع الفكري للعروي كذلك، فالتفكير فيما بعد الجابري و العروي هو تفكير في استعادة الحياة، وإرجاع الفكر حيا ملتحما بالحاضر، فمشروعا هذين الفيلسوفين المغربيين لم يكن يهدف إلا على تحرير العقل العربي مما هو ميت متخشب في كيانه وإرثه الثقافي، وهو ما يعني أيضا تحريرا للأرض التي يمكن أن ينبعث داخلها فكر فلسفي جديد متحرر من سلطة الأصل، ومنفلت عن الثوابت التي تشكل بنية العقل العربي، فكر يستعيد أسئلة الحاضر بما هي أسئلة الحياة، إنه فكر الحاضر بما هو أسلوب لممارسة فن الحياة.
إذن فالتفكير فيما بعد الجابري والعروي هو في حد ذاته احتفاء بالجابري والعروي لا على نحو متطابق، وإنما على نحو مخالف. فلم يكن هدف المفكرين إنتاج عقول تتشابه وتستعيد نفس الطريقة في النقد والتفكير، وإنما تحرير النقد والفكر عن الطريقة أي عن الإتباع، أي أن هدفهما هو التحفيز على الانفصال، ومن ثمة فإن الجابري والعروي لم يعيرا انتباها كبيرا للمحاولات النقدية، سواء تلك التي تدور في فلكهما لأنها لا تضيف شيئا جديدا، وإنما تكرس اتباعية جديدة، أو لتلك الأطاريح النقدية النقيضة، لأنها لا تفكر في أغلبها انطلاقا من مشاريع جديدة، وإنما تمارس النقد من خلال المقايسة، بل على العكس من ذلك كان اهتمامهما يلتفت إلى تجارب فكرية مغايرة من مختلف الأجيال، بنعبد العالي، سبيلا، المصباحي، يفوت، وقيدي، إدريس كثير، عبد الصمد الكباص، حسن أوزال وغيرهم. والغاية من هذا الالتفات هو تحرير الممارسة الفلسفية من التقليد، وجعلها مفتوحة ومنفتحة.
يقول الجابري في مقدمة تكوين العقل العربي : “مشروعنا هادف إذن، فنحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي، والهدف : فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها … ولعلها تفعل ذلك قريبا”[3]. إذن ليس النقد الفلسفي للعقل غاية في حد ذاته، ولكنه ممارسة من أجل التحرر ليس من الموت بوصفه تجربة ميتافيزيقية، وإنما مما هو ميت يعيق حياة العقل ويحول دون فعاليته المسكونة بالموروث الثقافي الجامد، أي يحول دون أن يغدو وتجربة زمانية تكشف عن صيرورته، أي عن التغير الذي يصيره متجددا.
غاية الجابري إذن هي فسح المجال للحياة كي تستأنف دورتها في الكيان العقلي، ومعنى ذلك إرجاع الحياة إلى الفكر، إرجاع يسمح بإمكانية انبثاق حياة فكرية جديدة تتيح المجال لتفلسف بالحاضر ومن خلال الحاضر، ومن ثمة فسح الفضاء لإبداع فلسفي جديد يسكن أو تسكنه لغة جديدة، ويحيا زمنا جديدا، وروحا مغايرة لا تستكين إلى أصل ثابت أو تطابق وقياس، ولكنها روح تغامر في اكتشاف كيفيات مغايرة للعيش فكريا على الأرض، وتأسيس رؤيا للعالم يغدو من خلالها الحاضر أسلوبا للحياة أي تجربة تختبر إمكانية الفرد في ابتكار حياته.
النقد في المشروع الفكري للجابري
لقد كانت مهمة الجابري النقدية شاقة وعويصة لأنها من جهة تستهدف الحفر الاركيولوجي في بنية العقل العربي، وهو ما تطلب منه مجهودا جبارا تمثل في التنقيب في التراث وتصنيفه وقراءته، وتحليل أسسه، واكتشاف إستراتيجية عالمه الذي تحكمه ميتافيزيقا معيارية صارمة. ولأنها من جهة أخرى تستهدف تدشين عصر تدوين جديد يمنح الحاضر إمكانية تأسيس مشروعه التاريخي الحي.
إن العقل العربي كما يرى الجابري تحكمه النظرة المعيارية إلى الأشياء، أي أنه مكون بذلك الاتجاه في التفكير، الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعها في منظومة القيم، التي يتخذها ذلك التفكير مرجعا له ومرتكزا، وذلك في مقابل النظرة الموضوعية التي تبحث في الأشياء عن مكوناتها الذاتية وتحاول الكشف عما هو جوهري فيها. إن النظرة المعيارية نظرة اختزالية، تختصر الشيء في قيمته، وبالتالي في المعنى الذي يضفيه عليه الشخص (والمجتمع والثقافة) صاحب تلك النظرة. أما النظرة الموضوعية فهي نظرة تحليلية تركيبية، تحلل الشيء إلى عناصره الأساسية لتعيد بناءه بشكل يبرز ما هو جوهري فيه[4]، وانطلاقا من تحليله للأساس الإبستمولوجي للثقافة العربية التي أنتجت العقل العربي وكرست نزعته المعيارية، يخلص الجابري إلى نتيجة حاسمة وخطيرة في ذات الوقت، وهي أننا لم نخرج عن “العصر الجاهلي” بكل ما يتحدد به هذا العصر من عناصر بيئية : جغرافية واقتصادية واجتماعية وثقافية[5].
ومعنى هذا في تأويلنا، أننا نعيش من غير حاضر، فالحاضر هو الغائب الأكبر في معادلة العقل العربي، أي أننا نعيش خارج دائرة الزمان الحي، فما يحيا ويعيش ليس كينونتنا الزمانية، وإنما هو ذلك الحاضر /الشاهد اللازمني، هو حاضر العصر الجاهلي الذي يحيا من خلالنا ويسكن ذواتنا. فنحن لا نفكر ولا نعيش وإنما تحضرنا تمثلات هذا الماضي الذي يجثم على حاضرنا ويتلف رغباته، ويدمر قدرته على الفعل وصناعة الحدث، فأقصى ما نفكر فيه هو استعادة أمجاد الماضي، رغم أن هذا الماضي يجثم على كل الحاضر. يطرح الجابري سؤالا ماكرا: ماذا بقي ثابتا في الثقافة العربية منذ “الجاهلية” إلى اليوم؟ وهذا السؤال يخفي بدوره سؤالا مقموعا بتعبير الجابري هو : ماذا تغير في الثقافة العربية منذ الجاهلية إلى اليوم؟ لكن هذا السؤال يمكن قراءته هو الآخر بصيغة الاستفهام الإنكاري، وسيكون له من المشروعية أكثر مما للسؤال الأول. آية ذلك أننا نشعر جميعا بأن امرئ القيس وعمر بن كلثوم وعنترة ولبيد والنابغة وزهير بن أبي سلمى … وابن عباس وعلي ابن أبي طالب ومالك وسيبويه والشافعي وابن حنبل … والجاحظ والمبرد والأصمعي … والأشعري والغزالي والجنيد وابن تيمية … ومن قبله الطبري والمسعودي وابن الأثير … والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون … ومن بعد هؤلاء جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والعقاد والقائمة طويلة … نشعر بهؤلاء جميعا يعيشون معنا هنا، أو يقفون هناك على خشبة مسرح واحد، مسرح الثقافة العربية، الذي لم يسدل الستار فيه بعد ولو مرة واحدة[6].
إذن فالحاضر عربيا لا يعاش كتجربة زمانية، أي أفقا تاريخيا للكائن الإنساني في العالم، بل غدا بعدا من أبعاد الماضي، وشكلا من أشكال حضوره المهيمن. يؤكد الجابري أن أشياء كثيرة لم تتغير في الثقافة العربية منذ “الجاهلية” إلى اليوم، وهي تشكل في مجموعها ثوابت هذه الثقافة وتؤسس بالتالي بنية العقل التي ينتمي إليها : العقل العربي[7].
السؤال هنا متعلق بسؤال الزمان، هو سؤال انطولوجي يتعلق بانفتاح الكائن على العالم باعتباره شرطا تأسيسيا لكينونته الخاصة، بما هي كينونة زمانية مرتهنة بتجربة الحاضر، أي بالقدرة على تصريف الرغبة و الإرادة الملتحمة بالحياة، والتي تستجيب لنداء التاريخ بما هو إمكانية للمستقبل، وليس باعتباره حضورا للماضي، حينما يصير الحاضر تجربة يغدو التاريخ ممكنا، ومن ثمة يغدو هذا التاريخ زمانيا يعيش في صلب الوجود المتغير، الوجود الصائر. وبالمقابل حينما يغدو الحاضر مفصولا عن الكائن الإنساني ذاته فإنه يكف عن أن يغدو تجربة، وسيكف عن أن يمنح إمكانية التاريخ، سيغدو فقط استرجاعا للماضي، لتاريخ لا زمني يشكل بثقافته المهيمنة بنية عقل مفصول عن تجربة الحاضر، وهنا يستنتج الجابري : بأن زمن العقل العربي هو نفس زمن الثقافة العربية، التي قلنا إن أبطالها التاريخيين مازالوا يتحركون أمامنا على خشبة مسرحها الخالد يشدوننا إليهم شدا[8].
يكمن أساس الإشكالية هنا في هذا التطابق الهووي ما بين العقل العربي والثقافة العربية التي تشكل بنيته، تطابق تنعدم فيه الفجوة ويستحيل الانفصال، وبالتالي يستحيل معه سيلان زمان متحول، يتصالح مع الوجود الحي، وهذا التطابق ينتج بدوره زمنا مغتربا عن زمانيته، زمنا مستلبا داخل بنية ثقافية معيارية تقدس ما تسميه أصولا وثوابت، ولا تسمح بإمكانية الانفصال والبدء، وثقافة ترسخ لتبعية يغدو من خلالها الوجود الإنساني وجودا بالتبعية، وجودا لا يختبر إمكانيته في تجربة الحاضر، وإنما وجودا معنعنا، ومحكوما بتجربة السلف، أي خاضعا للتنميط الذي يبلغ أقصى درجاته في كل شكل من أشكال الحياة، بدءا من لغة الكائن وانتهاء بملبسه، وأسلوب حياته المثقلة بذاكرة تعيق تجربة الحاضر بما أنها ذاكرة يستحوذ عليها الماضي، ويعيق تعلقها بالحياة، مادام أن القيمة التي يعلي من شأنها هذا الماضي إنما تكمن في خبرة السلف، أي فيما ترسخ كمثال لصيغة وجود يحدد بطريقة معيارية ما ينبغي أن تكون عليه سيرة الموجود. ومعنى هذا بحسب الجابري أن بنية العقل الذي ينتمي إلى هذه الثقافة والتي تتشكل لاشعوريا داخل مفهومها للعالم، تعمل بكيفية لاشعورية كذلك على إعادة إنتاج هذه الثقافة نفسها. ومن ثمة فاللاشعور المعرفي العربي هو جملة المفاهيم والتصورات والأنشطة الذهنية التي تحدد نظرة الإنسان العربي –أي الفرد المنتمي للثقافة العربية- إلى الكون والإنسان والمجتمع والتاريخ، والتي توجه بكيفية لاشعورية كذلك رؤاهم الفكرية والأخلاقية ونظرتهم على أنفسهم وغيرهم[9].
يمكن أن نقول بأن الإنسان العربي يعيش من غير حاضر، ومادام أن كل حاضر لا يعاش كتجربة خاصة، أي كاختبار لإمكانية ابتكار وإبداع اللحظة، فإن التجربة العينية للكائن لن تغدو سوى إعادة إنتاج، فهي تنميط للحاضر، تنميط يعوق انبثاق حركة الزمان. ومن ثمة نستنتج مع الجابري أن الإنسان العربي يعيش زمنا ثقافيا واحدا، مادام الجديد لم يحقق قطيعة نهائية مع القديم، أي مادام “النظام المعرفي” هو، أي مادام “الجديد” في حوار مع “القديم” الشيء الذي يعني أن نقطة التطور لم تبلغ بعد نقطة اللارجوع، النقطة التي لا يعود من الممكن الانتقال معها من الجديد إلى القديم[10].
ولعل السؤال الذي يقظ مضجع المفكر العربي اليوم هو : لماذا لم يغدو الإنسان العربي علة تأسيسية؟ من وجهة نظر الجابري الأمر يتعلق بتحول هذه الثقافة إلى إطار مرجعي للعقل العربي، وهو ما يعني تحولها إلى ميتافيزيقا مهيمنة تتعالى على الإنسان ذاته وعلى تجربته الحياتية. مما يعني استحالة انفصال كينونة الإنسان العربي وتشكلها كتجربة تبتكر الحاضر فيما هي تتخطى الماضي وتنفصل عنه. ومن هنا نفهم لماذا يعتبر الجابري الثقافة العربية ذات زمن واحد منذ أن تشكلت إلى اليوم، زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية، يعيشه دون أن يشعر بأي اغتراب أو نفي في الماضي عندما يتعامل فكريا مع شخصيات هذا الماضي، أدبائه ومفكريه، بل على العكس فهو لا يجد تمام ذاته، لا يشعر بالاستقرار ولا يحسن الجوار إلا باستغراقه فيه وانقطاعه له[11].
الأعرابي صانع العالم
لا يشكل الوجود قيمة في حد ذاته بالنسبة للإنسان العربي، مادام مفصولا عن الرغبة باعتبارها ماهية الإنسان ذاته بتعبير سبينوزا، فليست الرغبة بالنسبة للعقل العربي هي ما يؤسس الفعل الذي يشكل استئناف التاريخ وحركيته، وإنما الاستجابة اللاواعية لما تحدد في الثقافة كقيمة سلفا، وهو ما يعني التأجيل القسري لحركة الحاضر، والإقصاء الممنهج للرغبة، أي انتفاء الحاضر عن الكينونة، الحاضر بما هو تجربة تستجيب لنداء الصيرورة، لا بما هو حاضر مغترب عن الزمان، فما يشكل أفق الثقافة العربية هو هذا الحاضر اللازمني أي حاضر عصر التدوين. وبعبارة أخرى فإن عصر التدوين حاضر في الماضي العربي الإسلامي السابق له، وفي كل ماض آخر منظور إليه من داخل الثقافة العربية الإسلامية كما هو حاضر في مختلف أنواع “الغد” التي أعقبته (عصر التدوين)، هو حاضر في كل ذلك بمعطياته وصراعاته وتناقضاته الإيديولوجية وأيضا … بكل مفاهيمه ورؤاه وأدواته المعرفية. وبتعبير آخر : إن المعطيات والصراعات والتناقضات التي عرفها عصر التدوين والتي تشكل هويته التاريخية هي المسؤولة عن تعدد الحقول الإيديولوجية والنظم المعرفية في الثقافة العربية، كما أنها المسؤولة عن تعدد المقولات وصراعها في العقل العربي[12] . فأي شكل يتخذه الحاضر من خلال هذا المنظور؟
بما أن الحاضر مفصول عن الحدث والزمان والكينونة، وبما أنه واقع تحت هيمنة ثقافة مستعادة منذ عصر التدوين، فإن هذا الحاضر يتخذ شكل الحضور الذي لا يعني سوى الامتلاء إلى حد كلي بالثوابت ما تزال تحيا في كيان العقل العربي، هو حاضر الامتداد والاتصال، وليس حاضر الحدث والابتكار، حاضر منسوب للغائب الإنساني، وليس حاضرا منسوبا للكائن الإنساني في العالم، أي للعلة التأسيسية بما هي إبداع للعالم. ومن ثمة فالعالم الذي ينتمي إليه الكائن العربي اليوم ليس هو عالمه، بما أنه ليس من ابتكاره، وإنما هو من ابتكار الأعرابي، صانع العالم العربي. فعالم الأعرابي في نظر الجابري هو عالم انقطع عن الصيرورة، لكنه يمتلك سلطة حضور صيرته بدءا ومنتهى، أصلا وغاية في حد الآن. وميزة هذا العالم هو نسيان الحاضر، ونسيان الحاضر يبدأ عندما يهمل الإنسان الفعل بتقديسه للأثر، وفي هذا التقديس ينبعث المثال المفارق، وليس المثال المحايث، ليعرض نفسه كحاضر أبدي يمتلك سلطة لا تقبل التجاوز[13]. وهي تتمثل حسب الجابري في ثلاث سلط هي سلطة اللفظ، وسلطة الأصل، وسلطة التجويز، فالعقل العربي يتعامل مع الألفاظ أكثر مما يتعامل مع المفاهيم، ولا يفكر إلا انطلاقا من أصل وانتهاء إليه أو بتوجيه منه، الأصل الذي يحمل معه سلطة السلف إما في لفظه أو في معناه، وأن آلية هذا العقل في تحصيل المعرفة-ولا نقول في إنتاجها- هي المقاربة (أو القياس البياني) والمماثلة (أو القياس العرفاني)، وأنه في ذلك يعتمد التجويز كمبدأ، كقانون عام يؤسس منهجه في التفكير ورؤيته للعالم[14].
إذن يغدو العالم ممتعا عن التأسيس بالنسبة للإنسان العربي اليوم مادام الحاضر نسيا منسيا، ومعنى ذلك أن الإنسان العربي يحيا من غير عالم أو بالأحرى يحيا خارج العالم؟.
لا يسكن العقل العربي العالم، بل هناك عالم لا زمني يلازم وجوده، عالم يمتلك حضورا يمتنع عن الحاضر، ما دام أنه هو الحاضر اللازمني المفارق للتاريخ والإنسان، وهذا العالم هو من يسكن ويحيا داخل هذا العقل العربي. مادام ينتج التكرار اللازمني الذي ينسج دائرة الوجود المنغلق الذي لا يسمح بالفجوات والانفصالات والقطائع، فليس هذا العالم هو عالم العود الأبدي، الذي يغدو فيه التكرار استئنافا وبدءا ينتشل الموجود من عمى المطاوعة والتبعية، ويعيده إلى دائرة الوجود الصائر، حيث تنبثق كينونة الإنسان كزمانية حية تبتكر وجودها على نحو مخصوص، أي على نحو الحرية التي لم يكشف عنها العقل العربي قط زمن التأسيس. يمكننا اعتبار الجابري هنا هو المبادر إلى كشف أسس هذا العالم وكشف بنيته اللازمنية والتي تختزل الزمان في نظام ثقافي ثابت، أي في صيغة ميتافيزيقية غدت بمثابة إطار يهيمن على التاريخ ويعيد إنتاج نفس الأشكال والنماذج والممارسات والقيم. يرى الجابري أن بنية العقل العربي قد تشكلت في ترابط مع العصر الجاهلي، ولكن لا العصر الجاهلي كما عاشه عرب ما قبل البعثة المحمدية، بل العصر الجاهلي كما عاشه في وعيهم عرب ما بعد هذه البعثة، العصر الجاهلي بوصفه زمنا ثقافيا تمت استعادته وتم ترتيبه وتنظيمه في عصر التدوين، الذي يفرض نفسه تاريخيا كإطار مرجعي لما قبله وما بعده[15]. وقد غدا التاريخ الفعلي لهذا العقل العربي مرهونا بهذا الزمن الثقافي الذي لا يسمح بإمكانية التغير الجذري للتاريخ، وهذا الزمن يبقى ممتدا، يتحرك في سكون وكأن الأمر يتعلق ببساط يمسك، بواسطة الخيوط التي تؤلفه، جميع الأشياء الموضوعة فوقه ليشدها إلى حافته، أي إلى الطرف الذي انطلقت منه عملية النسج يوم بدأ في نسجه[16].
عصر التدوين، إطار مرجعي مؤسس
يتعلق الأمر إذن بعصر التدوين الذي يعد بمثابة الحافة الأساس، فهو الإطار المرجعي الذي يشد إليه وبخيوط من حديد، جميع فروع هذه الثقافة وينظم مختلف تموجاتها اللاحقة … إلى يومنا هذا. ومعنى هذا أن العقل العربي ثم تشكيله ليس وفق ما يستطيعه، وفق إرادة الاقتدار التي تمتلك القدرة على إعادة تأسيس الأساس، وإنما وفق ما يجب أن يكون مرتهنا له، أي وفق الخيوط التي نسجت صورة عالمه الثقافي. “وليس العقل العربي في واقع الحال غير هذه الخيوط بالذات، التي امتدت إلى ما قبل فصنعت صورته في الوعي العربي، وامتدت وتمتد إلى ما بعد لتصنع الواقع الفكري الثقافي العام في الثقافة العربية العامة، وبالتالي مظهرا أساسيا من مظاهرها[17] ، يمكننا من خلال تأويل مغاير أن نقول بأن هناك في الثقافة العربية زمن وليس هناك زمان إذا جاز لنا هذا التمييز الاستثنائي، على افتراض انتماء الزمن للثقافة، ولسلطة الأصل الذي يخضع لشروطه، وعلى افتراض أن الزمان هو انتماء للصيرورة التي تسمح بإمكانية انبثاق عالم ما يفتأ يتحول، عالم مفتوح على الانفصالات التي يولدها التاريخ الإنساني.
إذن هناك زمن منفصل عن الزمان، زمن بدون زمانية، هو زمن حي لا يحيا في صيرورة الزمان، ولكن في عقل عربي يتشكل في افق هذا الزمن الثقافي الراكد، وظل مرهونا بخيوطه الممتدة التي لا تصنع المابعد الزماني، أي الحاضر والمستقبل، وإنما تصنع المابعد الارتكاسي الذي يحول دون انبثاق حدث جذري، وفكر جديد ورؤى مغايرة لعوالم ممكنة تنتشل الإنسان العربي من وضعية الاغتراب اللاتاريخي عن الوجود والزمان، وتولد وضعية تستعيد فيها الكينونة حاضرها، ويستعيد فيه الحاضر التحامه بالزمان التاريخي، من خلال هذه الكينونة التي حازت استقلالها التاريخي، باكتشافها لذاتها في مجرى عالم صائر، ليس هو عالم الأعرابي وإنما هو كينونته الخاصة، عالم الوجود الإنساني بما هو ابتكار للزمانية المولدة لرغبة الالتحام بالحاضر، والمؤسسة لذاتية مغايرة تبدع فن الحياة، ولا تعيد إنتاج نمط زمن ثقافي مهيأ سلفا.
اللغة العربية رؤية مؤسِّسة للعالم
يطرح الجابري في سياق تحليله الاركيولوجي مسألة-قضية اللغة العربية بوصفها نظاما ثقافيا ورؤية للعالم الذي أسسه الأعرابي، وبالتالي فإننا يمكن أن نستنتج من خلال حفريات الجابري بأن اللغة العربية هي مواطن اغتراب الحاضر الزماني، ومن ثمة فهي تظل رهينة لعالم الأعرابي كما تصوره وبناه عصر التدوين.
في لغة الأعرابي يمتنع الحاضر عن المثول، فيحتجب متواريا لصالح حاضر لازمني يتمثل في أثر الأعرابي، أي في ما خلفه من أقوال ثم تقعيدها في عصر التدوين بما يلائم عالمه الحسي وأفقه المحدود، ومن ثمة فإن الجابري يستنتج خاصيتين أساسيتين في اللغة العربية، وهما لاتاريخيتها وطبيعتها الحسية، فلا تاريخيتها أو لا زمانيتها فتتمثل في بقاء هذه اللغة منذ زمن الخليل ممتنعة عن التغير لا في نحوها ولا في حرفها، ولا في معاني ألفاظها وكلماتها ولا في طريقة توالدها الذاتي، وهذا ما يقصده الجابري عندما يقول أنها لغة لا تاريخية، إنها تعلو على التاريخ ولا تستجيب لمتطلبات التطور. وأما طبيعتها الحسية فتتمثل في كونها محدودة بحدود العالم الحسي لأولئك الأعراب الذين يحيون حياة الفطرة والطبع، أي يحيون حياة حسية ابتدائية تنعكس على تفكيرهم، وبالتالي على لغتهم التي جمعت منهم وقيست بمقاييسهم[18]، وهاتان الخاصيتان تقضان مضجع الفكر النقدي، وهذا ما يفصح عنه الجابري حين يرى بأن لاتاريخية اللغة العربية وحسيتها ليست فضيلة فيها على نحو هؤلاء الذين يقدسون هذه اللغة ويعتبرونها أفصح بل أفضل اللغات على الإطلاق، بل أنهم يصفون اللغات الأخرى بالقصور والعجز عن الفصاحة، يتجلى ذلك في تسميتهم لباقي لغات العالم الحية بأنها لغات أعجمية، كما لا تعد هاتان الخاصيتان مكمنا لفلسفة خاصة باللغة العربية وبأهلها، يجب استخراجها وإبراز أصالتها … وهذا ما يرفضه الجابري بشكل حاسم وبالتالي فهو يؤكد بأن “لاتاريخية اللغة العربية وطبيعتها الحسية معطى واقعي تاريخي يجب أن ننظر إليه بعين النقد وليس بعين الرضى والمدح. إن العالم الذي نشأت فيه اللغة العربية أو على الأقل جمعت منه، عالم حسي لا تاريخي : عالم البدو من العرب الذين كانوا يعيشون زمنا ممتدا كامتداد الصحراء، زمن التكرار والرتابة، ومكانا بل فضاء (طبيعيا وحضاريا وعقليا)، فارغا هادئا، كل شيء فيه صورة حسية، بصرية أو سمعية. هذا العالم هو كل ما تنقله اللغة العربية إلى أصحابها، اليوم وقبل اليوم، وسيظل هو مادامت هذه اللغة خاضعة لمقاييس عصر التدوين وقيوده”[19].
يتبادر هنا سؤال أساسي وهو كالتالي : ما الذي يحول دون أن يعيش العربي اليوم حاضره؟، أو ما الذي يجعل الحاضر مغتربا عن عالم العربي، وبالمقابل ما الذي يجعل العربي مغتربا عن حاضره؟.
سيجيبنا الجابري بأن اللغة العربية هي السبب الرئيسي في إقصاء الحاضر والإنسان معا من بناء عالم مشترك، عالم التحول التاريخي، ذلك لأن اللغة العربية “ظلت وما تزال تنقل إلى أهلها عالما يزداد بعدا عن عالمهم، عالما بدويا يعيشونه في أذهانهم، بل في خيالهم ووجدانهم، عالم يتناقض مع العالم الحضاري-التكنولوجي الذين يعيشونه والذي يزداد غنى وتعقيدا، فهل نبالغ إذا جنحنا إلى القول بأن الأعرابي هو فعلا صانع “العالم” العربي، العالم الذي يعيشه العرب على مستوى الكلمة والعبارة والتصور والخيال، بل على مستوى العقل والقيم والوجدان، وأن هذا العالم ناقص فقير ضحل جاف، حسي-طبيعي، لا تاريخي، يعكس “ما قبل تاريخ العرب : العصر الجاهلي، عصر ما قبل “الفتح” وتأسيس الدولة”[20].
استمرار قيم البداوة في الحاضر العربي
يمتنع الحاضر عن أن يغدو تجربة عينية، لأن العربي اليوم ما زال مقيما داخل لغة الأعرابي، منتميا لعالمه الحسي، رغم كونه يعيش على هامش الحاضر أي على هامش العالم الآن الذي يزداد تسارعا، ومن ثمة عجزه الواضح عن ابتكار الحاضر وإبداع الذات، ومن ثمة أيضا بدويته التي يكرسها سلوكه اليومي المزدوج في المجتمع الذي يظل بعيدا عن السلوك المدني. فهو في الوقت الذي ينشد فيه الحداثة فإنه يتصرف وفقا لعالم الأعرابي، أي انسجاما مع قيم البداوة الأشد محافظة وجمودا، وهو ما يجعل من الحداثة بالمعنى العربي نفسها تلاعبا لفظيا وليس تجربة حياة.
يمكن أن نقول بان حاضرنا هو ضحية لغة تهيمن على مصيرنا، لغة تعادي الحاضر ولا تعترف به، لغة يحيا من خلالها الأعرابي في وعينا، ونحيا بدورنا في عالم الأعرابي بلا وعينا، لغة تقصي الأنا بما هي تفكير في الوجود وبالوجود، وتصيره آخر متلقيا، لغة تتجلى إبداعيتها في تأصيل عدمي يحول الكوجيطو إلى “أنظر تجد”، لغة تترجم فكر الآخر، بإخضاعه لأفقها اللاتاريخي، وحسيتها المدقعة التي تحول كل مفهوم إلى وعاء فارغ : فانظر تجد !. لغة لا يغدو فيها المفهوم العابر ممارسة لتحيين الحاضر، وإنما لاقتناص المفهوم وإرجاعه لفظا مسجونا خاضعا لأفق الأعرابي، لتأهيل وهمي يعيق انبثاق الكينونة ويعدمها، الكينونة بوصفها حاملا للخصوصية التي تستجيب للحدث أو الواقعة، أي جلب الإنسان إلى ما يخصه أي أن يستقبل انكشاف الوجود حسب هيدغر، أي أن اللغة هي “بيت الكون” (الوجود)، فهي راعي الحضور، من حيث أن لمعانه يبقى موكولا لإبانة القولة التي تخص، فاللغة هي بيت الكون من حيث أن القولة هي لحن الخصوصية[21].
نقد العقل العربي، نحو تأسيس عصر تدوين جديد
يتعلق الأمر إذن من خلال نقد الجابري بالشروع في تأسيس عصر تدوين جديد، يحدث تغيرا أساسيا يمس علاقتنا باللغة العربية ويستجيب لحاضرنا، فاللغة بما هي القولة التي تخص تجلب الحاضر انطلاقا مما يخصه إلى الظهور، ترحب به، أي تسمح به في ماهيته الخاصة …، لكي نتأمل حدوث اللغة ونردد بعده ما يخصه، يحتاج الأمر إلى تغير للغة … تغير يمس علاقتنا باللغة، وهذه العلاقة تتحدد تبعا للقدر الذي بمقتضاه يتحدد هل وكيف يتم الاحتفاظ بنا من قبل حدوث اللغة كخبر أصلي للخصوصية في هذه الأخيرة، ذلك لأن الخصوصية في خصها وحفظها وتحفظها هي علاقة كل العلاقات، ولهذا يبقى قولنا نحن كجواب قائما دائما فيما هو علائقي … إن علاقتنا باللغة تتحدد انطلاقا من الكيفية التي بسببها ننتمي إلى الخصوصية من حيث إننا ما نحتاج إليه، وربما أمكننا حسب هيدغر أن نهيئ بدرجة قليلة تغير علاقتنا باللغة. ويمكن أن تنبعث تجربة يكون فيها كل تفكير متمعن شعرا، وفي الوقت نفسه كل شعرا تفكيرا … وهنا يستشهد هيدغر بإعجاب ب “فيلهلم فون هومبولت” الذي يقول: “… قد يمكن لشعب بفضل كشف داخلي ومساعدة ظروف خارجية أن يمنح اللغة الموروثة صورة أخرى بحيث تصبح بذلك لغة مغايرة وجديدة تماما”[22]. ويقول في موضع آخر: “دون تغيير اللغة في أجراسها ولا بكيفية أقل في أشكالها وقوانينها. كثيرا ما يدخل الزمن إلى اللغة، بفضل تطور طبيعي في الأفكار وقوة متصاعدة في التفكير وقدرة للإحساس أكثر عمقا ونفاذا، أشياء لم تكن تمتلكها من قبل ذلك. حينئذ يتم وضع معنى آخر في الغلاف نفسه، إعطاء شيء مغاير تحت الطابع نفسه والإلماح إلى مسار للأفكار له تدرج مخالف حسب قوانين الربط نفسه. إن ذلك هو الثمرة الدائمة لأدب شعب، ولكن على أفضل وجه ضمنه للشعر والفلسفة”[23].
لن تغدو اللغة العربية إذن موطن وجود إلا بالقدر الذي تتغير فيه علاقتنا بهذه اللغة، على نحو تغدو فيه أكثر استجابة لحاضرنا، أي أن تغدو مستجيبة لتجربة العيش، فتنفصل بذلك عن عالم الأعرابي، ونظامه المعياري، وتغير علاقتنا باللغة هو مدخل حداثتنا، ومعنى ذلك فالتفكير من خلال هذه اللغة لا يعني سوى التفكير من خلال لغات متعددة تعيش بجوارها مما يعني اختراق بنيتها النسقية، وتفكيك مجالها التداولي. إن تحيين اللغة لا يتم من خلال بعث قواعدها من جديد، ولكنه يتم من خلال التكلم بها بطريقة مغايرة تستجيب للتحولات العميقة ولمجال الخصوصية، وهذه الطريقة المغايرة لممارسة اللغة ليست سوى تجربة الحاضر بما هي تجربة عيش في أفق الزمان، وليس خارجه. هذه التجربة تكاد تنحصر في الفن عموما والأدب خاصة في الرواية، الشعر، والمسرح … وهذه الفنون تتعرض للهجوم من طرف فقهاء اللغة والأصول، الذين يعتبرون أنفسهم أوصياء على قدسية اللغة العربية، كما تكاد تنحصر في تجارب فكرية بعينها، طه حسين، الجابري، العروي، حسن حنفي … وغيرهم ممن حاولوا أن يفكروا في بناء عالم مغاير انطلاقا من محاولة تطويع اللغة لمشاريعهم الفكرية. إن محيط اللغة العربية يبقى ضاجا بالأساطير المؤسسة لنزعة نفي الحاضر، وهو ما يتطلب تحرير اللغة العربية من النزعة اللاتاريخية ومن الطبيعة الحسية باعتبارهما مسؤولان عن الفقر الفكري، والضحالة المفهومية، وعن غياب حياة فلسفية تستوطن الأرض المسماة عربية وتبتكر الحاضر، أي تعلم فن الحياة بما هي انبثاق للذاتية كتخارج مع العالم، كإرساء للغيرية التي تغذي الغيرية وتقود نحو حاضر زمني متحرر من نزعة إعادة إنتاج تجارب السلف، حاضر يدعو الكينونة إلى اختبار تجربتها المخصوصة في العالم، أي إلى تأسيس عالمها الخاص، عالم من غير أوهام تقيس عليه الذات خيبتها، وتتحسر فبه على رغبتها المؤجلة باستمرار.
تقودنا العلاقة باللغة من حيث هي لغة إلى اختبار هذه الغيرية التي جعلت لحسن الحظ هويتنا متعددة ليس لها منبع واحد أو بعد قومي وحيد، هوية يتشكل أفقها الحالي بمجاورة ما هو كوني، وهو ما يسمح لها بأن تصير في ذاتها آخر، وهذه الإمكانية هي مفتاح تطوع العربية وجعلها أكثر قربا من الحاضر، أكثر بعدا من عالم لاتاريخي يجرها دوما إلى الوراء، عالم تفتقد فيه الكينونة تجربة الحاضر، وليس العثور على الحاضر في هذه اللغة سوى انكشاف وبدء لمشروع الكينونة بما هو حدث مؤسس للتاريخ. نصل الآن على سؤال طرحناه بخصوص قراءة إدريس كثير للجابري، وذلك في كتابنا : “الفلسفة المغربية سؤال الكونية والمستقبل”، وهو التالي : كيف يغدو انبثاق فلسفة جديدة (أو فكر جديد) تتكلم اللغة العربية ممكنا؟[24].
إذا انطلقنا مما تمارسه اللغة العربية من إضمار الرابطة، رابطة الحمل التي هي في نفس الآن الوجود، فإن ظهور فلسفة جديدة مشروط بإضمار كونها عربية، إن الأمر يستدعي أن تنطلق هذه الفلسفة على أرضية من النسيان الذي يتحقق من خلاله مكر مضاد للكائن تجاه هذه اللغة التي تمارس مكرها بإضمارها للوجود، من أجل أن تستعيد الكينونة حاضرها، فتنفلت عما وصف بالخصوصية أو حتى بالغنى والعبقرية حسب الأستاذ إدريس كثير لا حسب الجابري الذي يعتبر هاته الخصوصية مدعاة للقلق باعتبارها مسؤولة عن العجز الفكري والفقر المفاهيمي. ومعنى ذلك أن التخطي نحو الحاضر لن يتحقق على نحو تاريخي إلا بالانفلات والاحتماء باللغة بما هي لغة لا بما هي عربية، أي بما هي أساس الوجود، بما هي مجاورة الكوني، وبما هي جلب للحاضر تجاه الكينونة.
يتعلق الأمر إذن باستعادة القول، ونسيان المقول ، بتعبير لفناس، أي باللغة كمبعث للوجود وليس كتنميط للكلام، كإكراه على التكلم وفق ما يسميه الجابري بسلطة اللفظ، الأثر الملفوظ، الذي غدا علة أساس لا يستهدف تأهيل القول بما هو لغة، وإنما ترسيخ المقول أو الأثر الملفوظ الذي لا يقبل التجاوز.
لقد دشن الجابري بمشروعه النقدي الكبير عملا جبارا لا يقصد من خلاله الارتماء في التراث، وإنما تملك هذا التراث من أجل فهمه وتحليله ونقده، ومن ثمة تجاوزه، وهو ما يعني استعادة مشروع الحاضر، فالجابري قد مهد الطريق لما بعد الجابري، أي للشروع في طريق بناء حياة فلسفية جديدة يمارس من خلالها الكائن الإنساني في العالم العربي فن وجوده، أي في عالم يحايثه الحاضر، عالم يشكل الحاضر فيه نمطا من الحياة من غير قيد أو شرط، سوى شرط الحرية. إذن فمشروع الجابري هو نفسه مشروع ما بعد الجابري، الذي يضع الفكر أمام رهان استعادة الحاضر. فالحاضر هو الوجود في العالم، مادام يختبر تجربة الحياة.
اشارة
القيت هذه المداخلة في لقاء نظمه اتحاد كتاب المغرب المكتب المركزي و وزارة الثقافة بمدينة اسفي يوم الجمعة 81 ماي 2010. و ذلك تخليدا لذكرى الراحل و احتفاء بمشروعه الفلسفي.
[1] تكوين العقل العربي، دار الطليعة، الطبعة 1 بيروت 1984، من مقدمة الكتاب ص8.
[2] – Levinas Totalité et infinit, essai sur l'extériorité. Martinus riijhoff. Paris 1971 P21.
[3] محمد عابد الجابري : تكوين العقل العربي، دار الطليعة، بيروت 1984 ص8.
[4] نفسه ص 32.
[5] نفسه ص34.
[6] نفسه ص 38-39.
[7] نفسه ص39.
[8] نفسه ص 39.
[9] نفسه ص 41.
[10] نفسه ص 42.
[11] نفسه ص 70.
[12] نفسه ص 71.
[13] عبد العزيز بومسهولي : الفلسفة ورهان الحاضر، مجلة أوراق فلسفية، القاهرة 2010 ص 91.
[14] محمد عابد الجابري : بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي ط 1، البيضاء 1986، ص 582.
[15] الجابري : تكوين العقل العربي، ص 61
[16] نفسه ص 62.
[17] نفسه ص62.
[18] نفسه ص86.
[19] نفسه ص87.
[20] نفسه ص88.
[21] مارتن هيدغر : كتابات أساسية، الجزء الثاني، ترجمة وتحرير إسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2003 ص282.
[22] المرجع السابق ص283.
[23] نفسه ص284.
[24] بومسهولي : الفلسفة المغربية، سؤال الكونية والمستقبل، مركز الأبحاث الفلسفية، مراكش 2007، ص91.
وزارةالثقافة©مجلة الثقافة المغربية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.