طرق رجال الدين إضافة حقيقية للحكام وكل من يريد أن يسيطر على الناس بإسم الدين، فهي تختلف عن طريقة السلطان. فالناس تظهر الطاعة للحاكم والسلطان خوفا من البطش أو أملا في الرزق، أما رجال الدين ينقاد لهم الناس ويبذلون كل نفيس ورقابهم طائعة ونفوسهم متفانية في خدمتهم و حتى للذود عنهم. فلا يخافون منهم ولا يأملون بعطايا، ولكن يعتقدون بأنهم سيحظون برضى الله والدار الآخرة إن هم أحبوهم وأطاعوهم، والله تعالى يقول: (( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب)) [البقرة: 165]. ولكن رجال الدين غير تعليم الناس الدين، مناط بهم تعريف الناس بحقوقهم وتبصيرهم مثلا بعدم الركون للظالمين: ((ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون)) [هود: 113]. ولكنهم يفعلون عكس ذلك وقد يجيئون بدلائل حق ولكن ملبوسة لتحقيق الباطل. فهم يخدرون الناس بالصبر على الإبتلاءات وربط البطون والطاعة، ويدعون الناس للدين الذي يوافق هوى الحكام. فبينما الناس الكادحة تئن وترزح، تجدهم يتحصلون على كل ما يتمنون في الدنيا من مال وجاه وسلطة ونفوذ مقابل تلك الكلمات القدسية التي تداري الحقائق وتخدر الناس. والله تعالى يحذر من أمثالهم بقوله: ((إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم* أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار* ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد)) [البقرة: 176]. ولاحظ التحدي لأمثال هؤلاء يكون دوما بما أنزل الله من الكتاب بالحق ضد تشريعاتهم وفتاويهم. وللمثال، قرأت احدهم يوما يكفر قول الشاعر وكل من يقول مثله: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد لليل أن ينجلي ولابد أن يستجيب القدر فيقول هذا لا يجوز وحرام قطعا. ولكن شيخنا الجليل لم يخبرنا كيف يتخلص الناس من الظلم إذن؟. التجارة بالدين من اكثر الحرف التي تدر على أصحابها أرباحا دنيوية دون أن يكون لهم رؤوس أموال تجلب لهم مخاطرة مستقبلية، لذلك من الطبيعي أن يكونوا في رأس قائمة المضللين عن طريق الحق. وهنا نكون قد فهمنا دوافعهم النفسية التي تصم أذانهم عن سماع الحق وتبليغه للناس، ليتواصوا به. فلو فعلوا، لأنقلب الظلم على الظالم فيخسروا بذلك المميزات التي تحصلوا عليها. إن خطورة رجال الدين تكمن في إتباعهم على بياض، والإحساس بالضعف العقلي مما يدفعهم للإستكبار بعلمهم، مع إنهم جميعا عباد لله أرسل لهم عبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب. ولكنه يحدث بما يقول سبحانه وتعالى في يوم القيامة: ((إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب* وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار)) [البقرة: 167]. ((وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار* قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد)) [غافر: 48]. فلابد للتتحرر من أسرهم قبل فوات الآوان. نماذج إيهام.. من أكبر الأوهام التي يستخدمها رجال الدين هو إيرادهم معنى "أولي الأمر" بأنها تعني الحاكم. فهم يوحون بذلك لطاعته. ولكن هل من المعقول أن يطيع الناس الحاكم حتى وإن كان ظالما ومجرما وسفاكا للدماء ومغتصبا للنساء وسارقا لأموالهم، ولو بإسم أي دين. وهل يمكن أن يطاع مثل هذا الحاكم وهو يسمترء الصلف والإستبداد والإستكبار. وهل يمكن أن نسميه ولي أمر أصلا وهو لا يهتم إلا بمصلحته الشخصية ومصلحة حزبه وجماعته وحركته، وليس له دخل أساسا ببقية الناس إن جاعت او حرقت أو غرقت، وجاءهم أساسا للحكم وهو مغتصب حق غيره عنوة وحق الشعب في إختيار من يتولى أمره. الله تعالى يأمر بطاعة أولي الأمر ورد الأمور لهم كما ورد في الآية: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم...)) [ النساء: 59 ]. ولكن نجد رجال الدين يجعلون أولا أولي الأمر مفرد واحد، ويقولون "ولي الأمر" ويعنون به السلطان الحاكم. فالحاكم الفرد لا يمكن أن يكون أولي الأمر. لذلك أولي الأمر هم من لهم دراية بالأمر المناط عمله، كما نصح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تأبير النخل بقوله: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) وفي رواية أخرى (أنتم أعلم بأمور دنياكم، فما كان من أمر دينكم فإلي). فالرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، يفترض أن يكون ولي أمر مطلق –يعمل كل شئ لهم في دنياهم- إذا بنفس مفهوم كلامهم، ولكنه ليس ولي أمر إلا في الدين كونه رسوله الذي جاء عبره، فقام بنصحهم برد الأمر إلى أولي الأمر منهم الفعليين في شؤون دنياهم. والله تعالى ورسوله يأمران بالعدل والمساواة والأمانة والصدق وعدم الكذب والنهي عن الفساد والكرامة الإنسانية، وغيرها من المثل والقيم. لكن يا من لك لب: أنظر ما يفعل السفهاء الذين يقولون إنهم أولي الأمر. ومن الأوهام الأخرى معنى "أهل الذكر" بأنها تعني رجال الدين. وأهل الذكر واردة في آيتين، فهي لا تعني رجال الدين بتاتا من شيوخ ودعاة ومفتين وغيرهم. ولكن من السياق تعني: الناس الذين أرسلت إليهم رسالات من قبل تذكرهم بالله وإتباع دينه. فهي تأمر الناس في ذلك الزمان بسؤوال أهل الذكر، ومن ضمن الناس الصحابة أنفسهم، فهم يفترض أن يكونوا أهل الذكر كونهم رجال الدين بحسب من يريدون تمرير مفهومهم. ولكن ليس صحيحا لأن الآيات جاءت مرة لتأكيد حقيقة أن هذا نبي أرسل من الله تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون*وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين)) [الأنبياء: 8]. ومرة لتأكيد إتباع ما أنزل عليهم من الكتاب بالبينات والزبر –الكتب السماوية المتقدمة- ((وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون* بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)) [النحل: 43]. فأهل الذكر في ذلك الزمان: الناس الذين أرسلت إليهم رسالات من قبل -نصارى، يهود- تذكرهم بالله وإتباع دينه. وأهل الذكر في هذا الزمان هم الذين يتبعون كتاب الله بالحق ولا يخلطون معه أهوائهم وإنتماءاتهم. فإذا كنت تقرأ القرآن وتتبع ما تفهم فيه حق إتباعه تصبح من أهل الذكر بإذن الله. ولست مطالب إلا أن تتبع ما فهمت منه وعلمت. ولكن أغلب الناس لا تثق في قدرتها على فهمه، ولا تحاول، فترجع أمرها إلى رجال الدين. والله تعالى يثق فيك وفي خلقه ويلقي بسؤوال إستفهامي كل مرة ب أفلا تعقلون، أفلا تتفكرون؟. إن رجال الدين فتنة لمن أفتتن بهم. فتجد غالبيتهم تتخذ الأحاديث والصحابة لتختبئ خلفهم - وسنتحدث عن موضوع الصحابة لاحقا- ليصوروا أنهم على الحق دوما، ولكن هل هذا صحيح. لا أظن. فليس أدل على ما يخبرنا به الله تعالى لما حدث لأهل الكتاب وبني إسرائيل من ضلالهم عن الحق وللبسهم للباطل. فقد تركوا كتاب الله رويدا رويدا واتبعوا تشريعات رجال دينهم. فحلت بهم المصائب وتشرذموا وتفرقوا، وقاموا بالحروب، وتقطعوا في الأرض أمما، منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، وكل ذلك بصفقاتهم مع الحكام الذين يريدون الحكم بإسم الدين. ولذلك تفرخت الجماعات المتطرفة وظلم الحكام وظهرت الجماعات الإرهابية من رحم رجال الدين. وهل هذا نفس جزائنا لأننا اتبعنا سنن من كان قبلنا شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلناه او كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. وهل ما يصيبنا من تشرد وظلم وطغيان وإستبداد، وعيش في الظلام، هو جراء إتباعنا للباطل من الرجال، وعدم وثوقنا في عقولنا التي خلقها الله لنا ونسياننا الكتاب الحق المنزل من ربنا. فإذا كان ليس من ذلك، فمن ماذا؟، هل يمكنك أن تعلق أيها القارئ الكريم؟، ولنتذكر قوله تعالى: ((ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم)) [محمد: 3]. * الحلقة: كيف تفرق بين الحق والباطل (10) وهم تقديس الأشخاص: درس الصحابة.. الأحد إن شاء الله. [email protected]